موقف الصحابة رضي الله عنهم من خبر الآحاد في العقائد
2016/10/19م
المقالات
3,001 زيارة
موقف الصحابة رضي الله عنهم
من خبر الآحاد في العقائد
من المعروف أن الشريعة الإسلامية إما طلب إيمان وإما طلب عمل. فما طلب الإيمان به يسمى عقائد وما طلب العمل بموجبه يسمى أحكاماً شرعية فالأول يجب أن يثبت بدليل قاطع والثاني لا يشترط فيه القطع وذلك من خلال تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً:
فالإيمان لغةً: التصديق، واصطلاحاً التصديق الجازم ولا يكون جازماً إلا إذا ثبت بدليل جازم أو قاطع، لأنه إن لم يثبت قطعاً فمعناه أنه ظن، والظن احتمال، ولا يصح القطع أو الجزم بما طريقه الظن والاحتمال. كما لا يصح الإيمان بما طريقه الظن والاحتمال، ولا يصح انعقاد القلب على تصديقه تصديقاً جازماً.
وهذا ما دلل عليه فعل صحابة رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم بإجماعهم يوم جُمع أحدُ أركان العقيدة الإسلامية، القرآن الكريم في المصحف الإمام زمن أبي بكر الصديق رضي اللـه عنه، فقد شرطوا شروطاً وسلكوا طريقاً في جمع المصحف تبين بياناً واضحاً قاطعاً بأن خبر الآحاد والظـن لا يمكن أن تثبت به عقيدة، وهذه الشروط هي:
1ـ اشترطوا عدداً معيناً يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة، زيد بن ثابت ورجلان آخران يشهدان. وربما كان عمر مكان زيد أحياناً كما جاء في الروايات عنهم.
فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن أبي بكر أنه قال لعمر ولزيد اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللـه فاكتباه.
ومن طريق ابن سعد: قال: اجلسا على باب المسجد فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلا أتيتماه. وعند ابن أبي داود في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قال عمر: من كان تلقى من رسول اللـه صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان.
ومن طريق ابن سعد وابن أبي داود وأحمد بن حنبل وغيرهم عن خزيمة بن ثابت قال: جئت بهذه الآية (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، فقال زيد من يشـهد معـك قلـت، لا واللـه لا أدري، فقال عمر: أنا أشــهد معك على ذلك وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبيد بن عمير قال: «كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان».
ومن طريق الحاكم عن يحيى بن جعدة قال: كان عمر لا يقبل آية من كتاب اللـه حتى يشهد عليها شاهدان.
وفي صحيح البخاري وابن أبي داود وغيرهما عن زيد بن ثابت قال: لما كتبنا المصاحف فقدت آية من كتاب اللـه كنت أسمعها من رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللـه عليه) وكان خزيمة يدعى ذا الشاهدين، أجاز رسول اللـه صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين.
2ـ أن تكون الآية التي تدون في كتاب اللـه محفوظة لدى أصحاب رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم في صدورهم، ومكتوبة بين يديه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم فلم يكتف زيد بحفظه وقد كان من حفظة القرآن كما لم يكتف بحفظ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي وابن مسعود وأمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وحفصة وغيرهم رضي اللـه عنهم، فقد كانوا من حفظة القرآن وكانوا موجودين يوم جمع المصحف كما لم يكتف بالكتابة وحدها، فلم يكتف بما كتبه أبو بكر في مصحفه ولا بما كتبه عمر ولا بما كتبه علي ولا بما كتبه أمهات المؤمنين، بل اشترطوا الأمرين مع شهادة الرجلين أنهما سمعاها من رسول اللـه صلى الله عليه وسلم واكتتباها بين يديه عليه الصـلاة والسـلام، لا نقلاً عن بعـضـهـم البعـض، ويدلـل على ذلك ما جاء فـي الروايات عنهم:
ففي صحيح البخاري قال زيد فقدت آية من ســورة الأحزاب فوجدتها عند خزيمة أي أنه كان يـحـفظـها وإلا لما فقـدها، وكان فقـده إياها مكتوبة.
وفي رواية ابن أبي داود عن عمر: من كان تلقى من رسول اللـه صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت به، قال الراوي: وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب.
وفي رواية البخاري عن زيد بعد أن كلفه أبو بكر بجمع المصحف قال: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال.
ومما يدل قطعاً لا ظناً على أنهم رضي اللـه عنهم لم يقبلوا للمصحف إلا ما كان مقطوعاً به أنه قرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تلك المداولات والأخذ والرد بينهم رضي اللـه عنهم أثناء جمع المصحف الإمام.
فمن ذلك ما رواه ابن الأنباري في المصاحف عن الحسن وابن سيرين والزهري في حديث مطول أثناء جمع القرآن فجاء فيه: وأمر أبو بكر منادياً ينادي في الناس من كان عنده من القرآن شيء فليجئ به قالت حفصة أم المؤمنين إذا انتهيتم إلى هذه الآية فأخبروني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغوا إليها قالت: اكتبوا والصلاة الوسطى وصلاة العصر، فقال عمر: ألك بهذا بينة، قالت: لا. قال: فواللـه لا ندخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بينة.
ومن ذلك ما رواه الإمام مالك في الموطأ وابن أبي داود في المصاحف عن عائشة أم المؤمنين رضي اللـه عنها قالت: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وهو فيما يتلى من القـرآن» ومع ذلك لم يلتـفت إلى هذه الرواية أحد من الصحابة فلم يضعوها في المصحف الإمام.
ومن ذلك ما رواه ابن أبي داود في المصاحف والحاكم وغيرهما من مصحف أبي بن كعب في آية كفارة اليمين «فصيام ثلاثة أيام متتابعات في كفارة اليمين» وهذه أيضاً لم توضع في المصـحـف الإمام لأنها أخبار آحـاد كسابقاتها آنفاً.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن كثير بن الصلت قال كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمروا على هذه الآية فقال زيد سمعت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فقال عمر: لما أنزلت هذه أتيت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبنيها، قال شعبة فكأنه كره ذلك، فقال عمر: «ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد وإن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم» وفي رواية الموطأ قال عمر في خطبة له: «لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب اللـه لكتبتها فإنا قد قرأناها» إذن فهي ليست قرآناً ولا يصح أن يقال بأنها منسوخة لأنها أخبار آحاد والقرآن لا يثبت إلا بالقطع فهو ركن من أركان العقيدة طلب الإيمان به جملة وتفصيلاً، ولا يجوز شرعاً أن يقال عن هذه الأخبار إنها قرآن لأنها أخبار آحاد، قال المازري عند خبر عائشة رضي اللـه عنها: «لا حجة فيه لأنه لم يثبت إلا من طريقها والقرآن لا يثبت بالآحاد».
وقال أبو الوليد الباجي على نفس الخبر: هذا الذي ذكرت عائشة رضي اللـه عنها أنه نزل من القرآن مما أخبرت عن أنه ناسخ أو منسوخ لا يثبت قرآنا لأن القرآن لا يثبت إلا بالخبر المتواتر، وأما خبر الآحاد فلا يثبت به قرآن وهذا من أخبار الآحاد.
وقال صاحب مسلم الثبوت: «ما نقل آحاداً فليس بالقرآن قطعاً ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب».
ومن ذلك ما أخرجه أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه بطرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يحذف المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا القرآن بما ليس منه، أنهما ليستا من كتاب اللـه إنما أمر اللـه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما» قال البزار: «لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف» فرفض الصحابة رضي اللـه عنهم لخبر صاحبهم ابن مسعود رضي اللـه عنه إنما لأنه خبر آحاد لم يصل إلى درجة التواتر والقطع، كما يجب أن نذكر بأن عبد اللـه بن مسعود رضي اللـه عنه قد تنازل عن مصحفه لعثمان بن عفان رضي اللـه عنه يوم توحيد المصحف وحرق بقية المصاحف، مما يدل قطعاً على أن رواية ابن مسـعـود خـبر آحـاد وأن ما فعـلـه الصـحـابة هو القطـع واليقـين بتدوين المعوذتين فـي المصحف الإمام.
وعلى ما تقدم من هذا الإجماع القطعي من الصحابة رضي اللـه عنهم في عدم الأخذ بالآحاد والظن في هذا الركن من أركان العقيدة الذي يحوي كل أركان العقيدة الإسلامية، فإنه لا مجال للقول بأنه يمكن أن تبنى العقائد على الظن كما يروجه بعض حملة الشريعة في هذا القرن، فإن إجماع الصحابة هذا يبطل قولهم وادعاءهم، ومن يقول غير ذلك فإنه يتهم أصحاب رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم بأنهم إما نقصوا من كتاب اللـه أو زادوا فيه لأنهم لم يأخذوا بخبر الآحاد في القرآن، وهذا يعتبر تخطيئاً لهم في أصول الدين وهو مستحيل عليهم لأنهم لا يجمعون على خطأ ولا على ضلالة، فقد عدلهم القرآن والسنة، ويعتبر إجماعهم حجة كالكتاب والسنة، ومخالفته كمخالفة الكتاب والسنة. لذا فلم يبق إلا أن مذهب الأخذ بالظن والآحاد في العقيدة يعتبر مذهباً باطلاً قطعاً لا ظناً، وقولاً واحداً، لأنه يخالف نصوص القرآن في النعي وذم من يأخذ الظن في العقيدة ويخالف إجماع الصحابة الفعلي والقولي.
وأما ما قيل عن ابن حزم وغيره من أنهم يأخذون بالآحاد في العقائد، فمن تتبع أقوالهم علم أن خبر الآحاد عندهم يفيد العلم واليقين لا كما وهموا، قال ابن حزم في الإحكام: «إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول اللـه صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معاً» أضف إلى ذلك أن ابن حزم هذا يخالف ما عليه أهل الإسلام من التـفــريـق بيـن خبـر الآحاد والـخبـر المتواتر من لدن أصحاب رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم.
محمد الشويكي – بيت المقدس
2016-10-19