المسـلمـون والغـرب (5)
2016/10/19م
المقالات
1,961 زيارة
المسـلمـون والغـرب
(5)
بقلم: أحمد المحمود
الأنظمة والجيوش
لقد عمل الغرب على التأثير على المسلمين بالقوة الفكرية، واعتبرها تأتي في المقدمة، إذ بها يضمن بقاء البلاد الإسلامية تحت سيطرته ما دامت تحمل له ولاءً فكريّاً وتفكر بنفس طريقة تفكيره، كذلك عمل على أن تبقى القوة المادية، ممثلة بالأنظمة والجيوش، بيده. ولم يكن ذلك عن طريق الاستعمار المباشر، فقد كان هذا في البدء، ولكن ما أن استقرت له الأمور، وصار كل شيء بيده، حتى تخلّى عنه وبشكل مدروس فسلّم الحكم لعملاء له، وسلّم الجيوش لقادة عسكريين صنعهم على يديه، على اعتبار أن من يملك الحكم والجيش يملك القوة والسيطرة، ويضمن بقاء البلاد تابعة له.
فجاء إلى الجيش وانتقى منه أفراداً عندهم الاستعداد الكامل للقيام بما يريد ويخطط، فرفعهم إلى أعلى المناصب وذلك بعد أن أفسد عقلياتهم وشوّه نفسياتهم، وفرض عليهم مفاهيم الولاء له، والحفاظ على الحدود التي اصطنعها لمصلحته، وطلب منهم أن يكونوا رديفاً ومعيناً للأنظمة إذا كانت تابعة له، وخصيماً مبيناً لها إذا ما أفلتت من يده، والعمل على إعادتها إلى حظيرته. وكذلك عمل الغرب على إلزام هؤلاء القادة من الجيوش بحياة خاصة مستهترة، وجعل معيار ترقيتهم في مناصبهم مدى الولاء له.
فقادة الجيوش لم يُنتقوا لمناصبهم بناءً على ما تحمله نفوسهم من مناقبية الجيوش وأهلية القيام بواجب القتال، وإنما بناءً على ما تحمله عقولهم ونفوسهم من ولاء للغرب وتبعية له. ولكم سمعنا عن ضباط كبار يسرحون من الجيش في مختلف بلاد المسلمين بتهمة أن لديهم ميولاً إسلامية. وهؤلاء القادة في الجيوش لا يطمئن الغرب إلى ولائهم الكامل له فينصب عليهم المخابرات ويحصي أنفاسهم خوفاً من تحولهم عنه إلى جهات أخرى معادية. فالغرب يريد من القادة العسكريين أن يكونوا صمام أمان يضمن بهم بقاءه في البلاد ودوام سيطرته عليها واستمرار استغلال مواردها، ويواجه بهم كل عمل مخلص يهدد وجوده فيها. كذلك وضع الغرب لهذه الجيوش عقيدة عسكرية تتناسب مع ما طرحه من فكر دخيل على الأمة، فيصور لهذه الجيوش بأن الحدود التي اصطنعها مقدسة يجب منع التعدي عليها، وأن النظام الحاكم يجب المحافظة عليه، ويبث مخابراته بين الناس يحصي أنفاسهم بحجة المحافظة على أمن البلاد ونظامها. وهكذا تتكامل أدوار كل من النظام الحاكم والجيش للحفاظ على مصالح البلد الغربي، وقطع يد كل من يحاول أن يتطاول عليها. فينشأ من هذا الوضع أن يصبح الجيش بيد النظام في ضرب كل محاولة مخلصة تحاول أن تعيد السيادة للإسلام، وتجعل السلطة بيد المسلمين. كذلك فإن الغرب تختلف دوله فيما بينها على المصالح بل تتصارع. فعلى الجيوش أن تحافظ على النظام ذي التبعية لدولة غربية معينة، ومنع وقوعه بيد غيرها من دول الغرب الأخرى. وما نراه من صراع دول المسلمين فيما بينها إنما هو في الحقيقة صراع بين دول الغرب على مصالحها عن طريق أدواتها من الحكام والجيوش.
وكلامنا هذا عن الجيوش لا يطال كل الضباط والعسكريين، بل يشمل قادة الجيوش الذين يتحكمون في تصرفاتها ورسم سياستها. أما الباقون من الضباط والأفراد فإنهم ينشَّأُون على الانضباط والطاعة، والدخول في أي حرب تقررها القيادة، فهم ليسوا إلا أحجار الجنود في لعبة الشطرنج. وتلبّس عليهم الأمور فيفهمون الأوضاع بحسب ما تفسَّر لهم. وكثيراً ما ينقم هؤلاء الضباط على الأوضاع الخاطئة ويحاولون التعبير عن هذه النقمة التي تظهر بين الحين والحين، فيضربون من غير هوادة أو يسجنون أو يعذبون أو يسرّحون، هذا إن لم يُعدِموا. لذلك تعطى الصلاحيات الواسعة للمخابرات في الجيوش، وعناصر المخابرات هؤلاء يعاملون باقي الضباط والجنود كما يعاملون الناس بالذلّ والقهر والتخويف، وتعْطى لعناصر المخابرات وضباطهم صلاحيات تفوق كثيراً صلاحيات ضباط أعلى رتبة منهم، حتى إن عنصر المخابرات العادي قد يحكم ويتحكم بضابط كبير الرتبة. أما الضباط المخلصون في الأمة فكثيرون ولكنهم مطوَّقون، مراقَبون، ومفروض عليهم طريقة حياة معينة، وإذا أراد الواحد منهم أن يقوم بأي عمل ضد النظام فعليه أن يخترق أطواقاً وحواجز كثيرة، ومع ذلك نراهم يغامرون ويخاطرون لما يرون من ظلم وقساوة وعمالة في الأنظمة، ومن تمييز في الجيش بين ضباطه، ومن ذل في الأمة. ومن هنا نرى أن الأنظمة كثيراً ما تنشئ فرقاً ووحدات عسكرية خاصة تسلحها تسليحاً خاصاً، وتنتقي أفرادها وضباطها انتقاءً تحمي بها نفسها، وتبعد باقي الجيش إلى الحدود بعيداً عن العواصم حتى لا يشكلوا خطراً عليها، وتترك السلاح القديم غير الفعّال في يدهم وليكونوا رهن إشارة النظام للدخول في صراعات الأنظمة ذات الأوضاع المتشابهة التي تترك صراعها مع العدو الحقيقي.
ولما كان الغرب يعلم بأن القوة العسكرية هي الضامنة لبقائه، والحامية للنظام العميل له، وفي بعض الأحيان يخشى أن يتحوّل الحاكم عن العمالة له إلى غيره؛ لذلك نراه يعمل على ربط قادة الجيوش مباشرة به، وإيصالهم إلى الحكم إذا لزم الأمر. إن المثل الحي الذي يشهد على صحة هذا الكلام هو الدور الذي أعطي للضابط مصطفى كمال أتاتورك ذلك اليهودي الشاذ، ذو الحياة المستهترة، والذي يحمل العداء الطبيعي القوي للإسلام وأهله ودولته، فقد قام بدور كان فيه شيطاناً رجيماً. وقد مهد له للعب هذا الدور الإنكليز أعداءُ الإسلام التقليديون بعد أن قاموا معه بعدة مسرحيات أدت إلى إشهاره وإظهاره، حتى لقد سمّاه بعض المسلمين الغافلين: خالد الترك تيمناً بخالد بن الوليد رضي اللـه عنه. وما زلنا حتى اليوم نشهد أمثالاً حية عن دور الجيوش في تعزيز الحكام ودعمهم وحمايتهم إن كانوا متوحدي العمالة، وكثيراً ما تكون الأمور بيد الجيش ويكون الحكام دمى بأيديهم. هذا ما يجب أن يعي عليه المسلمون فيدركوا الأمور بجوهرها لا بمظهرها. فالغرب ما زال يلعب لعبة الساحر على المسلمين، ويلبّس عليهم الأمور ويظهرها على عكس حقيقتها. وكيف يكفّ الغرب يده عن اللعب بينما مصيره ومستقبله وحياته ورفاهيته، وغناه، وسيطرته على العالم وتحكمه بمصائر الآخرين يتوقف على ذلك، ولا يتصور إهمال الغرب لهذا الجانب الذي يبقي كل شيء عملياً بيديه.
أما الحكام، فحدثوا عنهم ولا حرج. فقد شكلوا من العمالة رأسها، ومن السدور في الغيّ شياطينه، ومن الإجرام أكابره. وضعوا الرأي والهدى والرحمة جانباً وأمسكوا بالسوط والسيف، وفرضوا على الأمة طاعتهم، وإلا كان هذا السوط أقرب إلى ظهورهم، وهذا السيف إلى ألسنتهم ورقابهم، وانطبق عليهم قول رسول اللـه صلى الله عليه وسلم: «إن أطعتموهم أضلّوكم، وإن خالفتموهم قتلوكم».
لقد شكّل الحكام رأس الحربة السامة التي غرزها الغرب الكافر في جسم هذه الأمة. ذلك أن الغرب يهمه من المنطقة ثرواتها، ويخاف من الأمة عقيدتها. وكانت خطته لتحقيق ما يريد، تقوم على جعل الحكم بيد أشخاص صنعهم على يديه فمكّن لهم وسلمهم مقدرات البلاد ليكونوا نواطير يحافظون له على ثروات المنطقة، ويمنعون الإسلام من العودة إلى واقع الحياة.
ومن المعلوم أن مقدرات البلاد كلها تكون بإشراف الحاكم، وأجهزة رعاية الشؤون من أمن واقتصاد، وتعليم، وإعلام، وسياسة خارجية وداخلية… تخضع لأوامره، وتنفذ توجهاته وتوجيهاته. وتصبح هذه المقدرات وهذه الأوامر والتوجهات والتوجيهات بيد الغرب ولمصلحته حين يرهن هذا الحاكم نفسه له. فيشغل البلاد ويدخل العباد في لعبة صراع المصالح بين دول الغرب. هذا ما يحدث بالنسبة لحكام المنطقة.
وما نراه من صراع بين حكام المسلمين ليس إلا تعبيراً عن صراع المصالح بين الدول الغربية التي يتبعون لها وليس للأمة فيه ناقة ولا جمل. ففي قضية فلسطين، على سبيل المثال، فإن هؤلاء الحكام لم يضعوا في سياستهم إزالة دولة إسرائيل كما هو مفروض شرعاً وسياسة، فإن هذا يدّعونه ادعاءً لإرضاء شعوبهم، فإسرائيل ليست عدواً لهم. وإطالة استمرار أمد الصراع في المنطقة إنما هو لأنه لم يحسم بين الدول الغربية المتصارعة فيما بينها. ولو حسم الصراع هذا لمصلحة دولة غربية معينة لانتهى، ولبقيت إسرائيل دولة مثل غيرها لأنها وجدت لتعيش عند هؤلاء الحكام لا لتزول، وتلك هي أوامر وتوجيهات الأسياد. وهذا ما تقتضيه مصالحهم.
لقد فتح هؤلاء الحكام أبواب بلادهم أمام الدول الغربية التي يتبعون لها وأمام شركاتها، وأغلقوها أمام أخرى… وعقدوا الصفقات وقدموا التسهيلات وأخضعوا النظام والشعب لسياسة هذه الدول… وربطوا مصالح شعبهم ورهنوا مصيرهم لغيرهم بل لأعدائهم… وأثقلوا البلاد بالديون التي تبلغ عشرات بل مئات المليارات من الدولارات التي ألزموا الأمة بسدادها وسداد فوائدها، فأفقروا الأمة بينما هم يعيشون وأقرباءهم والمقربين منهم في بذخ وترف، ويودعون المصارف الأجنبية الأموال الطائلة الخاصة التي سرقوها من الأمة للتأمين على مستقبلهم غير المضمون.
هذا ما أراد الغرب من الحكام أن يقوموا به وأن يكونوا عليه لكي يخدموا أهدافه، وهذا ما فعلوه ولبئس ما فعلوا.
وهذا الحاكم الذي ينتقيه الغرب على عينه، لا يعيّن لمساعدته في مراكز القرار والقيادة والمسؤولية إلا من كان على شاكلته. لذلك نراه يؤسس شبكة رهيبة من المخابرات تحصي على الناس أنفاسهم، ويحيط نفسه بوسط سياسي يدعمه في ما يقوم به، ويسخّر فئة من أصحاب القلم ليتكلموا زوراً وبهتاناً عن مآثره، ويسمح لفئة من التجار الفجار لجني الأرباح الطائلة وإفقار الناس وجعلهم ينشغلون ببطونهم عن العمل بقضاياهم المصيرية، ويسلم جهاز القضاء لأناس يصدرون الأحكام بحسب أهوائه ومصالحه، ويعين رجال دين في مناصب استحدثها لهم لإصدار الفتاوي التي تبرر له كل خيانة يرتكبها بحق الأمة ودينها وبلادها فيحلون ويحرمون بحسب ما يريد حاكمهم لا خالقهم…
هؤلاء هم حكام المسلمين، وممنوع عليهم من الغرب أن لا يكونوا على هذه الشاكلة. إنها سياسة واحدة يمارسها الغرب تجاه المسلمين منذ أن جاء إلى منطقتنا. إنها سياسة صارت أكثر تطوراً وخفاءً. ولكن وعي الأمة جعلها غير خافية بل ظاهرة لا تخفى على الأعشى.
ولما كانت هذه هي حال حكام المسلمين تولد العداء بين المسلمين وحكامهم، ورأوا فيهم أعداءهم الذين أورثوهم كل ذل، ومنعوهم من كريم العيش، وحرموا عليهم ما أحله اللـه وحرمه الغرب، وأحلوا لهم ما حرمه اللـه وأحله الغرب؛ فأبغضهم الناس ولعنوهم وصاروا يتمنون أن يريهم اللـه فيهم يوماً أبيضَ وهو يوم التخلص منهم.
إن الغرب يعادي الإسـلام الحقيقي لذلك نرى أتباعه من الحكام على نفس العداء، ومن نفس المنطلق، وإن الغرب صاحب مصلحة طويلة الأمد في منطقتنا نظراً لما تحويه المنطقة من ثروات دفينة هائلة، لذلك كانت سياسته في المنطقة هي زرع الأنظمة وتعهدها بالرعاية حتى تخدم مصلحته، وكان الحكام يسعون في تأمين مصالحه.
إن الغرب قد وزع الأدوار في مسرحية استعماره المأساوية لهذه الأمة. وجعل كل ممثل يأخذ تعليمات الدور منه. وهكذا نرى أن الغرب لم يترك المسلمين وشأنهم بل إن يديه تغوص في أعماق واقعهم، وعينيه في أغوار دخائلهم وأذنيه في خفايا سرائرهم، إنه ما زال يتدخل ويتحكم في مصائر المسلمين ونستطيع أن نقول إن كل مصائبنا ومآسينا هي من نسج يديه الدنستين.
2016-10-19