رجـل الدولـة
2016/10/18م
المقالات
4,525 زيارة
رجـل الدولـة
إن أيَّ أمة تحمل مبدأ وتسعى إلى تطبيقه وحمله إلى العالم لا بد لها من رجال سياسيين أفذاذ ورجال دولة قادرين على إدارة دفّة الحكم وحمل المبدأ حملا مؤثرا إلى العالم كله. وهذا القول وإن كان ينطبق على كل أمة مبدئية إلا أنه للأمة الإسلامية أمْثَل. والرجل السياسي قد يكون رجل دولة وقد لا يكون، أما رجل الدولة فهو رجل سياسي أولاً، والبحث الآن منصبٌّ على رجل الدولة، من هو؟ وما هي التربة الصالحة لإنباته، والبيئة الصالحة لتربيته؟
ويجب أن لا يذهب الظن أن رجل الدولة هو الذي يتولى سُـدة الحكم أو يتقلد منصـباً رفيعـاً في الدولة، أو الذي يتـقِـن فنَّ البروتوكول واسـتعراض الجنود، وغيرُه من الناس ليسوا برجال دولة ولا سياسيين، كلاّ، فالأمر على غير ذلك تماما.
والملاحظ وللأسف الشديد أن الحكومات في البلاد الإسلامية، خاصة، قد زَرعتْ في أذهان الناس أن رجل الدولة هو من الحكام فقط، وأن غيرهم يطلق عليهم العامة أو الشعب، والسلطة الحاكمة هي فقط المعنية بهذه التسمية والتي يناط بها السياسة والعمل السياسي، وهذا تدليس وتضليل ومغالطة. فالحاكم وإن كان رئيس دولة أو دون ذلك قد يكون رجل دولة وقد لا يستحق أن يكون شيئا، وقد لا يكون مواطنا شريفا؛ وعلى العكس فقد نجد رجلا من أفراد الناس رجل دولة بمعنى الكلمة حتى لو لم يتعاط أي عمل من أعمال الدولة أو انخرط في وظيفة من وظائفها الحساسة، مِثْل هذا الرجل العادي التاجر أو المزارع أو مَنْ خلف محراثه قد ينطبق عليه وصف رجل الدولة ولا ينطبق على غيره ممن لا يتقِنون إلا الحركات التشنجية في استعراض الجند ويملأون أعْين الناس ذهاباً وإياباً في تجوالهم، واهمين أو يوهمون الناس بأنهم إنما يمارسون أعمالاً سياسية لخير البلاد والعباد وخاصـة وهم يلوون ألسـنتهم ببحوث وتنظيرات كلها بَقاق في بَقاق؛ أو بتصريحات فارغة تُوهِم بافتتان العالم بهم وببلادهم وإنجازاتهم، وما هم في حقيقة الأمر إلا عبء على شعوبهم يضاف إلى فاتورة الأعباء التي ترزح تحتها بسببهم. فَمَنْ هو رجل الدولة إذن؟
إنه القائد السياسي المحنك؛ هو الشخص الذي يتمتع بعقلية تفكِّر بالحكم وشؤونه؛ ويمتلك نفسية طيبة لينة، هو أيضا المرء الذي لديه المقدرة على تسيير شؤون الدولة إن كان في موقع الحكم؛ أو معالجة ما يطرأ من مشكلات في محيطه ثم يُورِدُها مَوْرِدَها السليم ويصرفها كما تقتضي الحكمة، سِيّان أكان في الحكم أو كان بين الناس؛ وهو أيضاً الرجل الذي يستطيع أن يتحكم في علاقاته مع الناس الخاصة والعامة دون التخلّي عن قيَمه ومُثُلِه وأفكاره.
هذا هو رجل الدولة. وقد تبيّن لنا أنه قد يكون في سُدَّة الحكم وقد لا يكون. وقد يوجد في الأمة الإسلامية وقد يوجد في أُمم أخرى. فهل وُجِد رجال دولة في الأُمَّة الإسلامية على مَرِّ التاريخ ومنذ أن استضاء العالم بنور الإسلام على يد رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم؟ أجل لقد كانت الدولة الإسلامية ومنذ تأسيسها في المدينة المنوّرة ومن قبلُ والمسلمون مستضعفون في مكة المكرمة وعلى مَرِّ التاريخ حافلة بجَمْع غفير من رجال دولة عظام، وكلُّهم كان يتمتع بعقليات ونفسيات تؤهلهم أن يكونوا في الذروة بين رجال الدولة والسياسة في العالم على مَرِّ العصور، واستمر الحال كذلك حتى نهاية الدولة العباسية على وجه التحديد، وقد نقل لنا التاريخ أخبارَ العديد منهم.. في غضون الستة قرون ونيف، أما بعد ذلك فلم يخل التاريخ الإسلامي، من أولئك الرجال الأفذاذ حتى أشرف القرن الحادي عشر الهجري أو الثامن عشر الميلادي، وبعد ذلك أخذ الاضْمِحْلال في إنبات هؤلاء الرجال، وقَلَّ الذين يتمتعون بعقليات الحكم والعقليات السياسية؛ وبعد أن هُدِمت الخلافة فإن هذا النوع من الرجال صار نادراً. وذلك لأن البيئة التي يخرج منها هذا النوع من القادة السياسيين قد مُحِيَت من الوجود، ولم نعد نرى من أبناء الأمة الإسلامية من يتمتع بعقلية الحكم هذه، والإحساس بالمسؤولية عن الناس وعن العالم.
والسؤال الآن: ما هي البيئة المناسبة لإيجاد رجل دولة في أيّ أمّة من الأمم؟ أيْ ما هي التربة المناسبة لإنباتهم؟ والجواب: إن التربة المناسبة والبيئة الصالحة التي ينبت فيها رجل الدولة وينمو هي الأمة التي تتمتع في واقعها العملي وفي علاقاتها الداخلية والخارجية بعقلية الحكم؛ وتكثر فيها أفكار الحكم، ويشعر أبناؤها أنّهم خُلِقوا ليكونوا أُمناء على الآخرين ومسؤولين عنهم سواء الذين يعيشون معهم أو مَنْ هُم خارج حدودهم ويتملكهم هذا الإحساس بالمسؤولية، لرعاية شؤونهم وهدايتهم إلى الخير.
أو أولئك الأفراد – من أُمَّة ما – الذين يتملكهم شعور بأهميتهم الذاتية بين أمم الأرض فيتحرّك هؤلاء لأن يكونوا في الصدارة بين هذه الأمم، وأكثر من هذا تجدهم يصارعون كي يتسنّموا المركز الأول في إدارة دفّة العالم. هذه هي البيئة الصالحة لإنْبات وتَعَهُّد رجال الدولة. ولذلك فلا يُقتصر وجودهم على المسلمين فقط.. ونستطيع القول إن في بريطانيا مثلاً رجال دولة سواء من هم في الحكم أو يعملون في وظائف عامة، وكذلك الحال في أمريكا وفرنسا وروسيا وألمانيا.. ولكن من يدلُّني على أُمّة بين الأُمم تضاهي الأُمَّة الإسلامية في عقيدتها وأنظمتها القيادية المنزلة من عند اللـه لهداية الناس كافة والتي جعلت حَمَلَتَها شُهداءَ على الناس، رجالَ دولة وسياسة وقادة فَتْح وهداية فأصبحت الأفكار السياسية والقيادية والحكم سجِيَّة من سجاياهم، فرسالة الإسلام أصلاً عقيدة وأفكاراً وأنظمة كلها سياسية قائمة بالفعل على هداية الناس ورعايتهم وليس مجرد حُكمهم والتحكم بهم كما فعل الطواغيت والمستعمرون. ولم يذكر لنا التاريخ أمة من الأمم يُرْخِص أبناؤها أرواحهم في سبيل هداية الآخرين، أو أن أُمّة من الأمم اعتنقت الإسلام قد ارتدت عنه. بل إنهم عندما رأوا عدل الإسلام وصِدْق الفاتحين وتفانيهم في هدايتهم انضووا تحت لوائه، ومنهم الذين أسلموا وكان منهم رجال دولة وسياسة وقادة فتح والواقع يصدّق هذا.
قلنا إن التربة الصالحة لإنبات الرجال لا بد أن يكون لها واقع عملي سياسي يمارسه الناس ويرونه أمامهم. فلا غرابة إذن، إذا رأينا أن هذا النوع من الرجال قد انعدم بعد ذهاب سلطان الإسلام من الوجود، فلم نعُد نَجِد الأُمة تُنجبهم ولا عادت التربة صالحة لإنباتهم، ذلك أنه لا يكفي أن تكون الأفكار الإسلامية السامية والعقيدة الإسلامية العقلية أعظمَ الأفكار والعقائد في العالم كله حتى يوجد الرجال، لأن هذه لم يعد لها جانب عملي في حياة الناس، حتى وإن جعلت المسلم يسير سيراً سليماً في حياته ولا يقارن بغيره ممّن فَسَدت عقائدهم واختلطت القيم عندهم، كل هذا لا يجعل من المسلم رجل دولة، لأن هذه الأفكار وهذه المشاعر والأنظمة لم يعد المسلمون يمارسونها فيما بينهم ولا فيما بينهم وبين غيرهم وإنما هي موجودة في عقول بعضهم وفي بطون الكتب، فكيف يتأتى لهذه الأمّة أن يخرج منها رجال دولة عظام كما كان سابقاً!؟ والمسلم لا يتغذى بالمفاهيم التي تجعل منه رجل سياسة ودولة حتى ولا يراها عملياً في حياته ولا في الأوساط السياسية التي يشاهدها، بل قد عُمِّيَ عليه هذا الأمر كله فلم يعد يُسمَح له أن يمارس السياسة كما هي: أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؛ وأصبح محظوراً عليه القيام بالأعمال السياسية مثل محاسبة الحكام والمشاركة في اتخاذ القرارات التي توافق شرعه، فما بالك بأن يتطلع ليكون مسؤولاً عن رعاية غيره من الناس أو العالم والدولة تحظر هذا ولا تسعى إليه في برامجها ومناهجها في تخريج هذه الأجيال، فلا الحياة العملية المشاهدة صحِّية، ولا الحياة التعليمية المقنَّنة عملية، تعني بالمفاهيم التي تجعل من المسلم رجل مهمات وتشعِرُه بمسؤوليته عن الآخرين وهدايتهم وحقه في محاسبة حكامه؛ فهذا ربعي بن عامر يقول لرستم «إن اللـه ابتعثنا واللـه جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللـه، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام. فمن قَبِل منا ذلك قَبِلْنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يَلِيَها، دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً.. قال رستم قد سمعتُ مقالتكم فهل لكم تؤَخِّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال نعم.. وإن مما سَنَّ لنا رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألاّ نمكِّنَ الأعداء من آذاننا ولا نُؤَجِّلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث.. فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندَعك وأرضك، أو الجِزاء فنقبل ونكف عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع.. أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال رستم أسيِّدُهم أنت؟ قال ربعي لا. ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم..، فلمّا ولّى راجعاً قال رستم لأصحابه وَيْحَكُم لا تنـظـروا إلـى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة».
للـه دره، أي رجل دولة كان ربعي بن عامر! وأيَّةُ أحلام كانت لهؤلاء الصحابة الكرام ورجال محمد صلى اللـه عليه وآله وسلم!! الذين بُني الإسلام بهم حتى عز وعزت به أمم شتى..
هذي المكارم لا قَعْبان مِن لَبَنٍ
شـيـبـا بماء فعـادا بعـد أبوالا
ومثل هذه العشرات بل الآلاف ممن تربّوا على يدي رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وخلفائه بعد أن كانوا رعاة إبل وغنم. أقول أما في هذه الأيام بعد أن قُضِيَ على سلطان الإسلام فمن أين سيأتي الإبداع ومن أين ستتولّد الثقة وتُتَعلم أفكار الحكم لدى الأجيال المضطهدة وهم يَرَوْن الحكام نواطير وصنائع للدول الكبرى لإرضائها لا للتحرُّر منها ومزاحمتها، وإزاحتها عن مواقعها أو التصدي لها؟ بل كيف يشعر المسلم أنه مسؤول عن الناس أو يفكِّر مجرد تفكير، من تقويض الدول الكافرة لينقل إليها هدى الإسلام وعدله – كما نطق بذلك رجل الدولة الفذ ربعي بن عامر لأعتى قادة فارس – وتتكون لديه العقلية والنفسية القيادية وهو يرى هذه الدول تَمُنُّ عليه بالفُتات والقروض ودولته تتفاخر بحصولها عليه بِقحَة ونذالة؟! ورسولنا الكريم صلوات اللـه وسلامه عليه وعلى آله يقول: «اليد العُليا خير من اليد السُفْلى» فمن باب أولى أن يصاب بالإحباط لا بالشموخ والتطلع.. أو كيف تخرج أجيال تحسّ بأهـميتها وعظـمـة مـا أكرمـها اللـه به – الإسلام – وهي ترى رأي العين الصَّغارَ الذي تتسَرْبل به دولهم بين الدول؟ ليس فقط كونها لا وزن لها في السياسة الدولية ولا تأثير يُذْكر لها علـى الموقـف الـدولـي وإنـمـا كـونها لا تستطيع أن تذبّ عن نفسها أو تحافظ على حقوقها، أو تدفع الاعتداءات المتكررة عليها بل وإذلالها في عقر دارها كما يحصل في الكثير من بقاع الوطن الإسلامي الحزين؟!
والآن ولكي يتمكن المسلمون من النهوض عليهم أن يأخذوا بهديه صلى الله عليه وسلم وأن يسلكوا نفس السبيل فهو الموصل للغاية التي ننشدها وهي إيجاد شخصيات إسلامية تأخذ على عاتقها مهمة النهضة الحقيقية والتغيير المطلوب، ومتى ازداد هذا النفر في صفوف الأمة وأصبح له واقع فقد وُجدت فعلاً التربة المناسبة التي تُنبت هذا النوع من الرجال: إن للـه بقايا من خلقه لم يتحيّروا في ظُلمتها، هم البقيّةُ الـخَيّرة من هذه الأمة الذين رَكبوا نهج السبيل الذي بيَّنْتَه لهم يا رسول اللـه، وقاموا على العلم الذي مهده لهم الصَحابةُ الكرام، ومَنْ تبعهم من الأئمة الأفذاذ والأبدال العظام، فلم يُسايروا أهلها على ما فيها من شُبُهات، وموبقات، وحلول عرجاء أو أنصاف
حلول؛ مصابيح الهدى في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، هم خصماء الشياطين من أبالسة الإنس والجن، بهم يُصلح اللـه البلاد ويدفع عن العباد. وإني لعلى يقين أن ما أصبح عليه المسلمون اليوم يشكل النواة المخلصة النقية ويبعث على الرضا ويملأ القلب اطمئناناً.
إن وجود الإسلام حياً في واقع الحياة وعودة الخلافة إلى الدنيا سيجعل صورة رجل الدولة حية مجسمة أمام المسلمين مما سيُعَجِّل في استنبات الآلاف منهم.. وحتى لا نذهب بعيداً فقد أنجب الآلاف من رجال الدولة عندما طبقوا الإسلام وحملوه قيادة فكرية، فَمَنْ مِثْلُ أبي بكر في المسؤولية وبُعْد النظر وهو رجل من مكة تربى على يد رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فأصبحت له تلك الدراية والحكمة في فنون السياسة وقيادة المعارك فأنقذ بذلك الدولة الفتية وسيّر الجيوش.. وهذا عمر قد أجهز على إمبراطوريتين في بضع سنين وقد كان في القمة في المسؤولية والقيادة والحكم، وسُمِعَ وهو يقول «لو أن دابة بسواد العراق عثرت لخشيتُ أن يسألني اللـه عنها لِمَ لم أُمَهِّد لها الطريق» وهذا علي ومواقفه، وذلك هارون الرشيد يصله كتاب ملك الروم يتوعده وينقض عهده ويقول له «… فإذا قرأتَ كتابي فاردُدْ ما حصل قِبَلَك من أموالها وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك» تُرى ما فعل الرشيد؟! هل لجأ إلى أحد من الأمم يرفع الخسيسة عن أمته ودولته؟!… ولكن التاريخ يقول لقد استفزه الغضب ثم دعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب بسم اللـه الرحمن الرحيم من هارون – أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.. قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه..» ثم شخص إليه من يومه حتى أناخ بباب هِرَقلة ففتح وغنم واصـطـفى وخرّب وحرق وأجاب إلى الموادعة قال الشاعر:
أعطاك جزيـتـه وطأطأ خدَّه
حذر الصوارم والردى محذور
وقال آخر:
ورايات يحل النصر فيها
تمر كأنها قطع السـحـاب
هؤلاء وغيرهم كثير كانوا في سُدَّة الحكم، فما بال بقية أبناء الأمة ألم يكن منهم رجال دولة من طراز رفيع؟ بلى فهذا عبد اللـه بن عباس والحسين بن علي وأحمد بن حنبل وابن تيمية والأحنف بن قيس وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقتيبة الذي أقسم ليطأن أرض الصين بقدميه ثم موقفه مع ملك الصين؛ وموسى بن نصير وتفكيره بفتح القسطنطينية..
أما الإمام أحمد بن حنبل فإنه يتعرض للضرب والتضييق حتى يقول بخَلْق القرآن فيُؤْثر الضرب والسجن على القول بهذا القول الخاطئ كي لا يَضِل به المسلمون، حتى قال له رجل قُلْ لهم بلسانك وانْجُ، فقال ابن حنبل.. إن كان هذا عقلك فقد استرحت!».
فأي مسـؤولـيـة وأمانـة هذه التي كان يتمتع بها رجال الإسلام؟!
-
ونذكر هنا بالإعجاب موقف السعدين مع رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم يوم الأحزاب لما أراد رسول اللـه أن يجري صلحاً بينه وبين غطفان.. حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح.. قالا: يا رسول اللـه أمراً تحبُّه فتصنعه؟ أم شيئاً أمرك اللـه به؟ أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال بل شيء أصنعه لكم.. فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.. فقال سعد بن معاذ: يا رسول اللـه قد كنا وهؤلاء على الشرك باللـه.. لا نعبد اللـه ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلاّ قِرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللـه بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا حاجة، واللـه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللـه بيننا وبينهم. فقال النبي أنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجتهدوا علينا.. أ.هـ).
وبعد: في أي المراتب والذرى نضـع مثل هذين السعدين بين رجال الدولة في العالم على مر التاريخ؟
-
وهذا طراز فريد آخر من رجال الدولة يندر وجوده في العالم. قاموا على دين اللـه وحملوه فكانوا بسلوكهم وأمانتهم وصـدقهم قدوة لغيرهم، أما إيمانهم فقد كان عجباً شد أنظار أهل البلاد التي يعملون فيها وأثار دهشتهم حين وجدوا التاجر منهم إذا خسر أو بارت تجارته أو غرقت مراكبه لم يحزن ولم يقتل نفسه كما يفعل غيره.. فلما سألوا وجدوا أن الإسلام (دينَهم) قد علّمهم أن الرزق بيد اللـه.. فكان هذا السلوك وهذه الأمانة مدعاة لإسلام أهل تلك البلاد..
وهكذا انتشر الإسلام في أندونيسيا وماليزيا والفليبين على يد التجار المسلمين دون إيجاف عليها بخيل ولا ركاب.
لقد استبيحت ديار المسلمين، وانمحت منها قيم الإسلام الرفيعة وأفكاره التي تصنع الرجال وتولد الأبطال وتفجر الطاقات، فاختلط الحابل بالنابل، فصرت تعرف وتنكر، وذَرَّ قرن التقليد فذاع العَجْز والضعف، وطغت فئة المعوقين في السياسة والحكم. والمفزع حقاً أنهم أرْخوُا الحبل للدول الكافرة تصول وتجول تنشر أفكارها وتعيثُ في الأرض الفساد، فعكف الناس على عجل قوم موسى يتمسَّحون به ويقدِّسونه حتى ذاع صيت الأوروبي والأمريكي واستحكمت في النفوس المفاهيم الرأسمالية على عفنها وفسادها، مثل الديمقراطية والتعددية، والحريات وحقوق الإنسان! ثم أصبحنا نسمع كلمات مثل سلام الشجعان وأبطال السلام، وهدم الحواجز النفسية والمهمات المقدسة، والشجاعة السياسية في تسليم الأرض والمقدسات!
وباختصار لقد انمحت شخصية الأمة وأصبح الغرب مركز التفكير والمحاكاة وتولّى الأمر غيرُ أهله وصدق رسول اللـه صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق… وينطق فيها الرُّويبضة. قيل يا رسول اللـه وما الرّويبضة قال: الرجل التافه يتحدث في أمر العامة».
إن الإسلام الذي أنجب أولئك الغر الميامين أمثال خالد، وقتيبة، وموسى، والنعمان، وأبو عبيد، وعقبة؛ لقادر على أن ينجب غيرهم حين نعود بالإسلام السياسي ليتسنم ذرى المجد من جديد، وتعقد الألوية للفاتحين، وتسير السرايا تحمل الهدى والنور، كما بدأنا عزنا بالإسلام سيعود بالإسلام.. إن البذرة الصالحة لرجل الدولة في الأمة قد نبتت وإنها لأمارة فأل وبارقة أمل على قرب التغيير وعودة الخلافة الإسلامية كمـا بشـر رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم. إنـهـم يـرونـه بعيدا ونراه قريبا.
وآخر دعوانا أن الحمد للـه رب العالمين.
دكتور/ أحمد عبد اللـه العمر
2016-10-18