مع القرآن الكريم:
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).
يأمر الله سبحانه أن نقاتل في سبيل الله الذين يقاتلوننا، وهم الذين عندهم القدرة على قتالنا من الكفار المحاربين دون الذين لا قدرة لهم على قتالنا كالنساء والأطفال والشيوخ وأحبارهم ورهبانهم، فإن قاتل هؤلاء قاتلناهم. أما في الحكم العام فنحن مأمورون بقتال الأعداء القادرين على القتال كما ذكرنا.
وينهانا الله سبحانه أن نعتدي في قتالنا؛ فلا نقتل طفلاً أو شيخاً أو امرأةً، أو نتجاوز أوامر الله في القتال كالغدر والغلول والمثلة أو قطع الشجر إلا ما اقتضته السياسة الحربية بنص شرعي.
فقد كان يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجيش الذي يرسله للقتال: “اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تُمَثِّلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع“.
-
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)أي قاتلوا في سبيل الله المقاتلين من الكفار وليس فقط الذين يبدؤونكم بالقتال، بل الذين عندهم المقدرة على قتالكم؛ لأن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال وليس حرباً دفاعية، بمعنى أن لا نقاتلهم إلا إذا قاتلونا.
فإن آيات الله سبحانه وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبين أن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام وفتح البلاد وإعلاء كلمة الله.
– (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) التوبة/آية123.
– (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) البقرة/آية193.
– (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة/آية29.
وغيرها كثير… وكلّها تدلّ على مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام.
وكذلك سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
-
“اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر …” (أخرجه أحمد).
-
والحديث “ادعهم إلى ثلاث خصال، فأيهن أجابوك فاقبل منهم…” (رواه مسلم).
والفتح الذي تمّ في عهد رسول الله وعهد الخلفاء الراشدين شاهد على ذلك، وكله مبادأة للكفار بالقتال لإعلاء كلمة الله.
ويكون معنى الآية (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ):
قاتلوا في سبيل الله مُقاتِلةَ الكفار أي المقاتلين منهم، ولا تعتدوا فلا تقتلوا الذين لا يقاتلونكم من النساء والولدان والشيوخ والأحبار والرهبان الذين في صوامعهم، فإن قاتلوا فعندها يُقتَلون، فقد مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على امرأة مقتولة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “ما كانت هذه لتقاتل” (أحمد وأبو داود) وأنكر قتلها، ومفهوم هذا الحديث أنها لو قاتلتْ تقتل.
ومعنى (وَلَا تَعْتَدُوا) أي لا تتجاوزوا أحكام الشرع في قتال العدو، فلا تفعلوا ما حرّم فعله في القتال، وليس معناه أن لا تبدؤوا عدوكم بالقتال بحال من الأحوال.
ولذلك فإن قول الذين قالوا إن الآية تعني أنه في أول الإسلام كان القتال فقط إذا اعتُدِيَ على المسلمين، ثم نسخت فيما بعد بالآيات الدالة على مبادأة القتال، هذا القول مرجوح لأن النسخ لا يُعمد إليه إلا إذا وُجد التعارض من كلّ وجه، وهنا لا تعارض، فالآية لا تعني أن لا نبدأ الكفار بالقتال بل أن لا نعتدي بتجاوز الحدّ في قتالهم، فلا نزيد عما أجازه الشرع في قتالهم كما بينا، وليس معنى (وَلَا تَعْتَدُوا) أي لا تبدؤوا القتال بل أن لا تتجاوزوا حدود الشرع في قتالهم كالتمثيل وقتل الأطفال… إلخ، ولذلك فلا تعارض بين آيات القتال وبالتالي لا نسخ.
-
القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الله وليس لمصلحة أو سمعة أو رياء، يقول صلوات الله وسلامه عليه وقد سئل عن الرجل يقاتل سمعة ورياء… فقال: “سئل النبي عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” (البخاري ومسلم).
فالذي يقاتل رياء أو وطنية مجردة أو مصلحة دنيوية فليس في سبيل الله، ولذلك فالنية تعتبر في الجهاد وهو كالعبادات، النية شرط صحة فيه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران/آية142.
-
5. يبين الله سبحانه في كثير من آياته وأحاديث رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمور القتال والسياسة الحربية، وفي الآية التالية (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)يبين الله سبحانه أمرين من أمور القتال:
أ – إنه يصح قتال الكفار المحاربين في كل مكان إلا مكاناً واحداً استثنته الآية الكريمة وهو (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بشرط أن لا يقاتلونا فيه فإن قاتلونا فيه قاتلناهم، كما هو مبين في ما بعد.
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي في كل مكان وجدتموهم فيه لأن (حيث) ظرف للمكان.
ب– إنه يجب إخراج الكفار المحاربين من كل مكان أخرجوا المسلمين منه، ولا يصح إقرارهم على البقاء فيه، وكل اتفاق معهم لإقرارهم يعتبر باطلاً (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي حيث وجدتموهم. والثقف: الوجود على وجه الأخذ والغلبة.
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أصل (الْفِتْنَةُ) في لغة العرب عَرْضُ الذهبِ على النار لتنقيته من الغش، ثم استُعمِل في معنى الابتلاء للمؤمنين بتعذيبهم، ومحاولة صرفهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله، ونشر الشرك بينهم، وهي هنا كذلك فإنها بيان من الله للمؤمنين أن لا يتقاعسوا عن قتال الكفار، فهم قد حاولوا فتنتهم عن دينهم بشتى أنواع العذاب، والفتنة أشدّ من القتل، فكأنهم قتلوا المؤمنين مراراً بمحاولة فتنتهم تلك، فلينشط المؤمنون في قتالهم دون هوادة.
-
ويبين الله للمؤمنين أن لا يقاتلوا الكفار عند المسجد الحرام إلا إن قاتلوهم فيه (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ). قرأ حمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم… حتى يقتلوكم… فإن قتلوكم…) أي دون ألف. وقرأ باقي القراء السبعة بالألف.
أما قراءة (ولا تقتلوهم) فهي نهي عن القتل وعن القتال، لأن القتل لا يتم دون قتال. والقراءة الأخرى (ولا تقاتلوهم) فهي نهي عن المقاتلة سواء أحدث القتل أم لم يحدث.
فالقراءة الأولى لها معنيان (القتال، والقتل). والقراءة الثانية لها معنىً محكم واحد (القتال)، والقراءتان متواترتان، والمحكم قاضٍ على غير المحكم، فيكون النهي عن القتال سواء أحدث قتل أم لم يحدث. أي أن مجرد القتال عند المسجد الحرام (حرام)، إلا ان يبدأ الكفار بقتالنا فنقاتلهم.
أما ما حدث من حوادث قليلة من القتال عند الفتح، وقتل بعض من أهدر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دمهم لأنهم كانوا يؤذون الإسلام والمسلمين، ولم يخرجهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقتلهم خارج مكة، فذلك حكم خاص بساعة من نهار أُحِلَّتْ للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص الحديث الذي أخرجه البخاري، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
أي أن النهي لا يشمل قتالنا للكفار إن هم بدؤوا قتال المؤمنين في الحرم، فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله غفور رحيم (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
-
ثم يأمر الله سبحانه المسلمين أن يقاتلوا الكفار ليُقضى على ما يسببونه من فتنة للمسلمين: الشرك والصدّ عن سبيل الله وتعذيب المؤمنين ومحاولة صرفهم عن دينهم، وكذلك حتى يكون الدين لله خالصاً. فإن انتهى الكفار عن شركهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله فليوقف المسلمون القتل عنهم، لأن القتل لا يكون إلا للظالمين، وما داموا قد تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام فلم يعودوا ظالمين.