تقوم بين المسلمين حركات وجماعات وجمعيات وأحزاب إسلامية، وكل فئة منها تزعم أنها تفهم الإسلام أكثر من غيرها وأن عملها في خدمة الإسلام أصح وأفضل من عمل غيرها. فمثلاً هناك جماعات تصوّف تقصر نشاطها على التصوف، وهناك جماعات تقصر نشاطها على المواعظ ودعوة الناس إلى العبادة والأخلاق، وجماعات تقصر نشاطها على تحفيظ القرآن وتجويد قراءته، وجماعات تقصر اهتمامها على العقيدة، وجماعات تقصر اهتمامها على الجهاد (القتال)، وجماعات تحصر اهتمامها بإصلاح الأفراد، وجماعات تقصر اهتمامها بإقامة الدولة الإسلامية وهكذا…
والحقيقة أن هذه الأمور لم يتركها الشرع الإسلامية لمزاج كل فئة وهواها واستنسابها. هذه الأمور يجب أن تكون مأخوذة من الشرع ومسيّرة بأحكامه.
وإذا عدنا إلى أول مسألة عند الإنسان، مطلق إنسان قبل أن يصبح مسلماً، نجد أنها البحث عن العقيدة. الإنسان من صغره منذ تفتّحِ عقلِهِ على الحياة يتساءل في نفسه ويسأل من حوله: مِنْ أين جاءت هذه الحياة وهذه الأشياء؟ وإلى متى ستستمر؟ وأين يذهب الأموات؟ وهل بعد الموت من حياة أو حساب؟ وهل الإنسان مسؤول عما يقدم أو يؤخر في هذه الحياة، أو هو حرّ طليق؟
وقد قصّ علينا القرآن الكريم كيف كان سيدنا إبراهيم عليه السلام يناظر قومه ويعلمهم التفكير للاهتداء إلى العقيدة الصحيحة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ).
وحين ينتهي الإنسان من مرحلة التفكير والبحث عن العقيدة، ويتوصل بتوفيق الله إلى العقيدة الصحيحة، العقيدة الإسلامية، ويؤمن بأن الله خالق كل شيء ويؤمن بيوم الحساب والجنة والنار، ويؤمن بأن محمداً رسول الله وأن القرآن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عند ئذٍ يلجأ إلى القرآن والسنة يأخذ منهما مَنهَج حياته.
في المرحلة الأولى كان عقل الإنسان هو الأداة الوحيدة للبحث والتفكير للاهتداء إلى العقيدة الصحيحة. وبعد ذلك يصبح دور العقل ليس التفكير والبحث في الكون فقط، بل التفكير والبحث في الكتاب والسنة لفهم ما أوحى الله لعباده.
وأول ما يواجه المسلم من المنهج الرباني يتمثل في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). ومعنى العبادة هنا هو الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية كلها من المباح إلى المندوب إلى الفرض والمكروه والحرام. فالتاجر والزارع والصانع الذي يعمل المباحات ويجتنب المحرمات مراعاة لأحكام الله هو داخل في عبادة الله.
وثاني درجة تواجه المسلم في المنهج الرباني تتمثل في قوله ﷺ: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا». وإذا أنعمنا النظر في الأوامر والنواهي نجد أنها تتضمن الأحكام التكليفية الخمسة جميعها، فالأمر يكون للوجوب أو للندب أو للإباحة، والنهي يكون للتحريم أو للكراهة.
المباحات يختار منها المسلم ما يروق مزاجه ويوافق عقله ويناسب مصلحته.
والمندوبات يجتهد أن يعملها والمكروهات يجتهد أن يجتنبها ولو لم تَرُقْ مزاحه وتوافق عقله وتناسب مصلحته لأن في ذلك ثواباً له عند ربه، فإن لم يلتزم بها يخسر هذا الثواب، ولا إثم عليه.
وأما النواهي فإن على المسلم أن يتركها جميعها إلا حيث يجد رخصة شرعية كأكل الميتة للمضطر.
وأما الواجب (الفرض) فتواجه المسلم عند بحثه الدرجة الثالثة من المنهج الرباني، فقد جعل الشرع الفرض (الواجب) نوعين: فرض عين وفرض كفاية. وفرض العين هو ما طلبه الشارع من كل فردٍ بعينه ولا يسقط عنه ولو قام جميع المسلمين به. وأما فرض الكفاية فهو الذي إذا أقامه بعض المسلمين يسقط عن الباقين. والأصل في المسلم أن يقوم بالفرض العيني والفرض الكفائي. لكن إذا تزاحم هذان الفرضان في بعض الحالات بحيث إذا قام بأحدهما لا يستطيع أن يقوم بالآخر، ففي هذه الحالات يتم تقديم الفرض العيني على الفرض الكفائي.
ولا بد من ملاحظة الفرض الكفائي قد يتحول إلى فرض عين في بعض الحالات. فالصلاة على الجنازة فرض كفاية، ولكن إذا لم يكن مع الجنازة إلا شخص واحد فإن صلاة الجنازة تتعين عليه (أي تصبح فرض عين عليه). وإذا صدمت سيارة شخصاً فإن إسعافه فرض كفاية، ولكن إذا لم يكن في المكان إلا شخصان ولا يستطيع أحدهما بمفرده أن يسعفه يصبح إسعافه فرض عين على الاثنين. وهكذا…
والدرجة الرابعة من المنهج الرباني تواجه المسلم عندما تتزاحم عليه الفروض العينية بحيث لا يستطيع أن يقوم بها جميعاً، فصار لا بد أن يقوم ببعضها دون بعضها الآخر. وهنا يرد السؤال: هل هو مخير بانتفاء الفروض التي يقوم بها، أو أن الشرع هو الذي يضع سُلّم الأولويات ويُلْزم المسلم به؟ والجواب هو أن المسألة ليست انتقائية وليست عائدة لاختيار الشخص بل هي مسألة شرعية. فلو فرضنا أن شخصاً عليه دين واستحق سداده، وأسرته بحاجة، وهو لا يملك ما يكفي الأمرين، فأي الواجبين يُقدّم؟ تسديد الدين الذي حان وقته فرض عين عليه، والنفقة على أسرته فرض عين عليه، والمبلغ الذي معه لا يكفي إلا لأحدهما. والشرع هنا قدم نفقة الأسرة على سداد الدين إذا كانت نفقة الأسرة على الحاجات الضرورية، وقدّم سداد الدين إذا كانت نفقة الأسرة على الحاجات الكمالية.
إذاً الشرع هو الذي وضع سلّم الأولويات حينما تتزاحم على المسلم الفروض. ولكن هذا السلّم ليس من الوضوح بحيث يتفق عليه جميع المسلمين، بل هو بحاجة، غالباً، إلى اجتهاد. وللمجتهد أجران إن أصاب وأجر واحد إن أخطأ. والمهم أن نعلم أن هذه الأمور هي أمور شرعية تحتاج إلى اجتهاد واستدلال وليست انتقائية أو مزاجية.
ونعود إلى الحركات والأحزاب والجماعات والجمعيات الإسلامية التي حددت لنفسها أهدافاً وأعمالاً بحيث تقصر نشاطها عليها، هل كانت في ذلك مستندة إلى اجتهاد شرعي أو إلى رغبة وهوى وانتقاء؟ وبالتدقيق نجد أن غالبيتها لم تستند إلى اجتهاد شرعي صحيح. فكل حركة أو جماعة لا تعمل على هدم أنظمة الكفر القائمة في البلاد الإسلامية هي حركة أو جماعة عاصية لله ورسوله. وكل حركة أو جماعة أو حزب أو جمعية لا تعمل عملاً جدياً على إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية وتحكم بما أنزل الله هي عاصية لله ورسوله.
العمل لهدم دول الكفر وأنظمة الكفر وإقامة الدولة الإسلامية (دولة الخلافة) هو في الأصل فرض كفاية، ولكن الكفاية غير حاصلة حتى الآن بالذين يعملون، وبذلك يأثم كل مسلم لا يعمل. وهذا يعني أن فرض الكفاية في هذه المسألة قد تحوّل إلى فرض عين، ويبقى فرض عين إلى أن تحصل الكفاية ويقام هذا الفرض بالفعل.
وتبرز أهمية هذا الفرض حينما ندرك أنه ليس فرضاً عادياً، بل إن وجود الدولة الإسلامية هو أساس من أسس الإسلام الكبرى. فغياب الدولة الإسلامية نتج عنه تعطيل تسعة أعشار الشريعة الإسلامية، ونتج عنه هيمنة الأفكار الغربية والحضارة الغربية والأخلاق والأذواق الغربية على عقول أبناء المسلمين ونتج عنه انسلاخ عدد كبير من أبناء المسلمين عن عقيدتهم ليحملوا عقيدة العلمانية وفصل الدين عن الحياة، ونتج عنه أن أصبحت بلادنا مجزأة وديارنا مستعمرة وخيراتنا نهب الناهبين، ونتج عنه أن احتل بلادنا وداسوا كرامتنا وانبطحنا على الأرض مستسلمين. ولا يمكن أن نتخلص من كل هذه الشرور إلا بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة.
ومع هذا نسمع بعض من يدعي العلم يقول: لسنا مكلفين بإقامة الخلافة لأنه ليس بوسعنا إقامتها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ونقول لهؤلاء: ليس بوسعكم إقامتها فوراً، ولكن بوسعكم أن تعملوا وتهيئوا لإقامتها. والرسول ﷺ لم يستطع إقامة الدولة الإسلامية فوراً بل أقامها بعد عمل ثلاث عشرة سنة. وجهود المسلمين حين تتواصل وتتضافر تستطيع إقامة الدولة الإسلامية. الفرض هو القيام بالعمل وأنتم تستطيعون القيام بالعمل. فمن التزوير والتضليل أن يُقال: إن الله لم يكلفنا.
جميع الحركات تستطيع أن تعمل لإقامة الخلافة: فالذي يعمل لتصحيح عقائد المسلمين يستطيع أن يدعوهم مع ذلك لإقامة الخلافة. والذي يعمل على تخريج الأحاديث يستطيع أن يدعو المسلمين إلى إقامة الخلافة. والذي يهتم بتعليم القرآن يستطيع أن يدعو المسلمين إلى إقامة الخلافة، والذي يهتم بالدعوة إلى العبادة والمواعظ يستطيع أن يدعو الناس لإقامة الخلافة. وكل مسلم مهما كانت مهنته، وسواء أكان في جماعة أم لم يكن، يستطيع أن يدعو المسلمين لإقامة الخلافة.
وإذا كانت بعض الحركات لا تستطيع أن تدعو إلى إقامة الخلافة لأنها تخاف من السلطات فعليها أن تتذكر أن خشية الله أولى من خشية المخلوقين. وإذا كانت مشغولة عن الدعوة لإقامة الخلافة بأمور أخرى تظنها أهم نذكّرها بأن جميع ما تتذرع به ليس أهم وليس بمستوى العمل لإقامة الخلافة والحكم بالقرآن الكريم.
قال تعالى: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى).