سؤال وجواب: من هو الشهيد؟
1993/12/28م
المقالات
7,773 زيارة
السؤال:
رويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة أحاديث تفيد أن الذي يموت بالطاعون شهيد وأن الذي يموت غريقاً شهيد، وأن الذي يموت محترقاً بالنار شهيد… الخ حتى بلغ عدد هؤلاء الشهداء ما يربو على العشرين صنفاً، والسؤال هو: أ- توجد في الفنادق الكبيرة برك سباحة يسبح فيها الرجال والنساء معاً عراة أو بملابس لا تستر العورات، وربما شرب هؤلاء الخمرة على حافات هذه البرك قبل أن ينزلوا في الماء للسباحة، فهل إذا غرق أحد هؤلاء الفساق والعصاة في هذه البرك يعتبر شهيداً لأنه مات غريقاً؟ ب- توجد بارات يختلط فيه الرجال والنساء ومجتمعون على موائد الخمرة، ويحدث كثيراً أن يقوم أحد هؤلاء السكارى بإشعال النار في هذه البارات فيموت هؤلاء السكارى محترقين بالنار، فهل يعتبر هؤلاء شهدا؟ ومتى يكون الغريق أو المحترق بالنار أو المطعون شهيداً؟
الجواب:
إن منزلة الشهادة عند الله منزلة عالة لا تتعداها سوى منزلة النبوة كما صرحت بذلك الأحاديث، فهذه المنزلة لا يبلغها إلا من رضي الله عنه، واستقامت أحواله، وقتل أو مات في سبيل الله وحتى هؤلاء الشهداء فإن منازلهم تتفاوت تبعاً لفضلهم وإخلاصهم، أما من مات في غير سبيل الله. أو قتل في غير سبيل الله فليس بشهيد، ولا يبلغ منزلة الشهادة. لقد خفي على كثير من الفقهاء أن الأحاديث التي أطلقت القول بأن المطعون شهيد وأن الغريق شهيد وأن المبطون شهيد… الخ قد جاءت أحاديث أخرى قيّدت هذا الإطلاق، فإذا جاءت أحاديث مطلقة وجاءت أحاديث أخرى مقيدة حُمل المطلق على المقيّد وعُمل بالمقيد، وهذه قاعدة أصولية يعرفها جميع علماء الأصول.
إن الأحاديث التي أوردت أنواع الشهداء فجعلها بعضُها خمسة أصناف، وجعلها بعضها الآخر تربو على العشرين صنفاً، قد جاءت أحاديث أخرى تقيد هذه الأصناف بالخروج في سبيل الله. أي تقيد المطعون والمبطون والغريق و… بحالة الخروج في سبيل الله، فيُعمل بالمقيّد ويحمل المطلق عليه، فيكون المطعون شهيداً إن هو أصيب بالطاعون وهو خارج في سبيل الله، ويكون الغريق شهيداً إن هو غرق وهو خارج في سبيل الله، ويكون المحترق بالنار شهيداً إن هو احترق بالنار أثناء خروجه في سبيل الله، وهكذا جميع الأصناف، فهي جميعها مقيدة بالخروج في سبيل الله. وعلى ذلك فإن من يموت بالطاعون وهو في بيته ليس شهيداً، وأن من يموت غريقاً في برك السباحة في الفنادق ليس شهيداً. وأن من يموت في البار محترقاً بالنار ليس شهيداً، فهؤلاء الأصناف شهداء إن كانوا خارجين للجهاد، وغير شهداء إن لم يكونوا متلبسين بالجهاد في سبيل الله. هذا ما دلّت عليه الأحاديث النبوية الشريفة التالية:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «انتدب الله عزّ وجلّ لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا الإيمان بي والجهاد في سبيلي أنه ضامن حتى أدخله الجنة بأيهما كان إما بقتل أو وفاة، أو أرده إلى مسكنه الذي خرج منه نال ما نال من أجر أو غنيمة» رواه النسائي.
2- عن سيرة بن أبي فاطه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه(1)، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك. فعصاه فأسلم، ثم قَعَد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدعُ أرضك وسماءك، فإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَلِ(2). فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد في جهد والنفس والمال فتقاتل فتُقتل فَتُنكح المرأةُ ويُقسم المال. فعصاه فجاهد، فقال رسول الله ﷺ: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته(3) دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة» رواه النسائي.
3- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن فَصَل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيداً، أو وقصته فرسه أو بعيره أو لدغته هامّة(4) أو مات على فراضه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد، وأن له الجنة». رواه أبو داود والحاكم وصححه، ورواه البيهقي جزءاً من حديث.
الحديث الأول قيّد القتل والوفاة بالخروج للجهاد في سبيل الله، والحديث الثاني قيّد القتل والغرق ووقص الدابة بالجهاد (ثم قعد له بطريق الجهاد) والحديث الثالث قيّد الموت والقتل ووقص الفرس أو البعير أو لدغ الهّامة كالأفعى والعقرب مثلاً، والموت على الفراش بالفصل في سبيل الله، أي بالخروج للجهاد. فهذه الأحاديث قيدت نوال الشهادة للمقتول وللميت وذكرت أصنافاً للموت هنا، قيدتها كلها بالخروج للجهاد، وهذا يعني أنها إن حصلت كلها في غير الجهاد فليست شهادة. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري. [وللطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً «المرء يموت على فراشة سبيل الله شهيد» وقال ذلك أيضاً في المبطون واللديغ والغريق والشريق والذي يفترس السبع والخارّ(5) عن دابته وصاحب الهدم وذات الخجَنْب] انتهى كلام الحافظ. فهذه الميتات كلها مقيدة بحالة الخروج في سبيل الله كما ينص على ذلك الحديث واصرح من هذه الأحاديث الحديثان الآتيان:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما تعدّون الشهيد؟ قالوا: الذي يقاتل في سبيل الله حتى يُقتل، قال: إن الشهيد في أمتي إذن لقليل: القتيل في سبيل الله شهيد، والطعين في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والخارُّ في دابته في سبيل الله شهيد، والمجنوب(6) في سبيل الله شهيد» رواه أحمد، وزاد في رواية ثانية «والبطن شهادة والنُفساء شهادة».
ب- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «خمسٌ من قبض في شيء منهن فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغَرِقُ في سبيل الله شهيد، والمبطون(7) في سبيل الله شهيد والمطعون في سبيل الله شهيد والنُّفَساء(8) في سبيل الله شهيد» رواه النسائي. ودلالة هذين الحديثين على ما تقول واضحة.
وعليه فإن من غرق في برك السباحة المختلطة في الفنادق الكبيرة ليس شهيداً وسيحاسبه الله على فسقه ومعصيته بالسباحة في هذا المكان الموبوء، ومن مات محترقاً بالنار في البار ليس شهيداً وسيعاقبه الله سبحانه على معاقرة لخمرة ويسقيه من طينة الخبال، كما صرحت بذلك الأحاديث، ولا ينفع هذا أو ذاك هذه الميتة أو تلك، فهي ميتة ليست في سبيل الله، بل في سبيل الشيطان. وغفر لله للفقهاء الذين اختلفوا في عدد الأصناف التي يدخل أصحابها الجنة بالشهادة، فمنهم من ذكر خمسة أصناف، ومنهم من ذكر تسعة، ومنهم من أوصلها إلى العشرين، ونحن نقول باحتمال أن تصل هذه الأصناف إلى مائة صنف، ولا قيمة لكل ذلك إذا علمنا أن أصحاب هذه الأصناف شهداء إن هم ماتوا في حالة الخروج للجهاد والقتال في سبيل الله وحسب، أما إن قتلوا أو ماتوا في غير سبيل الله فليسوا بشهداء سواء كانوا خمسة أو عشرين أو مائة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم .
(1) أَطْرُقُهُ: طُرُقُهُ.
(2) الطِّوَلَ: الحبل الذي تربط به الفرس.
(3) وقصته: أسقطته عن ظهرها.
(4) هامّة: حشرة أو دابّة من دوابّ الأرض.
(5) الخارّ عن دابته: الذي يقع (يَخِرّ) عن دابته.
(6) المجنوب: المصاب بمرض اسمه: ذاتُ الجَنْب.
(7) المبطون: المصاب بمرض في بطنه كالإسهال مثلاً.
(8) النّفَساء: من ماتت من أثر الولادة.
1993-12-28