أميركا… والخيار السياسي في الصومال
1993/12/28م
المقالات
1,707 زيارة
حدث في الآونة الأخيرة تغير في السياسة الأميركية تجاه الصومال، فقد أعلنت الولايات المتحدة تخليَها عن المنطق العسكري في التعامل مع الأزمة في الصومال، وتبنّيها المنطق السياسي وحل الأزمة بالحوار مع الفصائل الصومالية المختلفة. فقد أعلنت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أن مطاردة اللواء محمد فارح عيديد قد توقفت. وقال روبرت أوكلي مبعوث الرئيس الأميركي إلى الصومال إن المنشورات التي كانت تقول بأن عيديد رجل عصابات ويجب القبض عليه كانت خطأ. وفي الجهة المقابلة أعلن اللواء عيديد وقف إطلاق النار من جانبه وقام يوم الخميس 14/10 بإطلاق سراح اثنين من الرهائن أحدهم طيار أميركي والآخر نيجيري. وقد رحبت الولايات المتحدة بذلك وأعلنت أنها سوف تُشرك اللواء عيديد في تسوية الأزمة بدلاً من القبض عليه وذلك يوم السبت 16/10 وأعلنت أن موعد انسحابها من الصومال سيكون في مارس 94. وإزاء هذا الوضع خرج اللواء عيديد والتقى ببعض الصحفيين. وقد أعلنت المنظمة الدولية من جانبها على لسان كوفي عنان مبعوث الدكتور بطرس غالي إلى الصومال أن المنظمة الدولية لم تكن مستعدة لتحمل هذا الوضع ـ إراقة دماء من القوات الدولية ـ ولهذا فهي تفكر جدياً في الأمر الآن. وكلنا نعلم أن المنظمة، تساندها أميركا، كانت قد أعلنت مكافأة قدرها 25 ألف دولار لمن يُعطي معلومات تساهم بصورة مباشرة في القبض على اللواء عيديد باعتباره المسؤول المباشر عن العنف في الصومال. وقد جاء هذا التغير في سياسة الولايات المتحدة بعد مقتل 18 جندياً أميركياً وإصابة 60 آخرين وإسقاط طائرتيْ هليكوبتر أميركيتين. وهناك ثلاثة احتمالات لهذا التغير المفاجئ في سياسة الولايات المتحدة التي كانت قد أعلنت أن مهمتها في الصومال مهمة «إنسانية ـ إنقاذية».
الاحتمال الأول: وهو أن الولايات المتحدة تعاني من مأزق داخلي كبير مع الرأي العام الذي ما زال واقعاً تحت تأثير أنباء الضربة المذلة التي وجهها الصوماليين إلى قواته بقتل بعضهم وجرح وأسر الآخر. يساند هذا الاحتمال ـ على ضعفه كما سنبيّن فيما بعد ـ تصريحات قائد القوات الإيطالية منذ أشهر والتي هدد فيها بالانسحاب من العاصمة الصومالية مقديشو ـ وقد فعل ـ معترضاً على السياسة الأميركية في الصومال، والتي حولت مهمة الأمم المتحدة الإنسانية ـ على حد قوله ـ إلى عداء مستحكم بين الشعب الصومال وقوات الأمم المتحدة. فربما تكون هذه التصريحات قد شكلت أدوات ضغط على الإدارة الأميركية وأوجدت رأياً عاماً داخل أميركا عن الممارسات الوحشية الأميركية في الصومال والتي ولدت سلسلة ردود الأفعال الانتقامية من جانب الصوماليين. مما جعل الإدارة الأميركية تفكر جدياً في الانسحاب.
الاحتمال الثاني: أن هذا التحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه الأحداث في الصومال وترحيبها بإقامة مجلس وطني انتقالي يتولى السلطة في الصومال وتشارك فيه جميع الفصائل الصومالية بما فيها تحالف عيديد مجرد خدعة الغرض منها القبض على اللواء عيديد زعيم التحالف الوطني في الصومال بعد ظهوره بصورة طبيعية في الصومال.
الاحتمال الثالث: أن الولايات المتحدة ـ إثْرَ انحسار النفوذ السوفياتي ـ حرصت على تبني النظرية البريطانية القائلة: أن المسيطر على مضائق البحار لا يد أن يسيطر على الطرق البرية أيضاً. وبما أن الانكفاء السوفياتي عن المواقع الحيوية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط ترك فراغاً كبيراً فإن النفوذ الأميركي ناشط لملء هذا الفراغ. ومن الطبيعي أن يبدأ بمناطق النفط وخطوط نقل النفط. وتمثل الصومال ـ كموقع مطل على أهم خطوط النقل اليورانيوم ـ في الاستراتيجية الأميركية الاستعمارية أرضاً لابد من السيطرة عليها. وفي بداية الأزمة اجتمعت الفصائل الصومالية المتناحرة في مصر التي ربما تكون قد لعبت دوراً مرسوماً لها في البحث عن الفصيل أو الرجل الذي يمكن أن يقوم بدور خادم المصالح الأميركية في الصومال بعد انسحاب قوات الأمم المتحدة، لأنه لا يُعقل أن تستمر أميركا ومنظمتها في الصومال إلى الأبد، فلا بد أن تخرج يوماً ما، ولكن قبل أن تخرج لابد وأن تُسلم البلاد إلى عميل يحفظ مصالحها الحيوية في المنطقة. والظاهر أنها توسمت في اللواء عيديد القدرة على لعب هذا الدور، وخبرة أميركا في صناعة العملاء خبرة ناجحة. فقد صنعت جمال عبد الناصر على عين بصيرة جعلت منه محط أنظار العالم العربي ومُنقذ شعوبها من الإمبريالية الأميركية ومُخلصها من الاحتلال الصهيوني الغاشم، فأوجدت بذلك القاعدة الشعبية العريضة التي تساند عبد الناصر، مما مكّنه من السيطرة على المنطقة بأسرها، حتى عملاء إنجلترا في المنقطة لم يُسمع لهم صوت بجانب صوته. فإذا كانت هذه أميركا وهذه هي نظرتها إلى القرن الأفريقي فإنه لابد وأن يكون عميل الصومال الجديد من هذا النوع الذي يمتلك قلوب الشعب الصومالي… فتُعلن أميركا مكافأة قدرها 25 ألف دولار لمن يقدم معلومات تساهم في القبض على محمد فارح عيديد، ثم تقوم بافتعال معارك معه ومع مؤيديه، فتُعلن أميركا عن إسقاط طائرتي هليكوبتر ومقتل 18 جندياً أميركياً وإصابة 60 آخرين في معركة مع عيديد لتُعلي بذلك اسهم اللواء عيديد عند الشعب الصومالي. وفي الوقت نفسه توجد لنفسها مبرراً لإعلانها اتجاهها لحل المشكلة الصومالية بالطرق السياسية.
وإذا نظرنا إلى حرب الخليج نجد أن أميركا فقدت من جنودها أضعاف هذا العدد ولكنها استطاعت أن تُخفي عن شعبها هذه الأعداد من القتلى لأن سياستها في هذه الحرب كانت تستدعي بقاءها في الخليج. أما في الصومال فهي تعلن عن مقتل 18 جندياً وتعبر هذا مبرراً لانسحابها من الصومال، واتجاهها للتفاوض مع الفصائل الصومالية، وستكون النتيجة الطبيعية لهذه المفاوضات انسحاب الأمم المتحدة وتتويج عيديد رئيساً للصومال. ويبدو أن منظمة الوحدة الأفريقية تلعب دوراً ما في هذه العملية. فقد فوضت المنظمة رئيس أثيوبيا للتعامل مع الأزمة في الصومال والذي طالب مجلس الأمن بإصدار تعليمات صريحة للعاملين في الصومال بالتعاون مع منظمة الوحدة الأفريقية، والالتزام بالاتفاق الذي أبرمه مع الفصائل الصومالية المتناحرة. كما قال في تصريح له في 29/10 بأن سياسة الأمم المتحدة المصرّة على أن اللواء عيديد هو المسؤول المباشر عن العنف في الصومال سياسة غير متّزنة. والذي يرجّح لديّ الاحتمال الثالث هو أن القول بأن أميركا غير قادرة على القبض على اللواء عيديد أمر غير مقبول وخاصة أنه قد تمّ تفجير مقر عيديد وهو غير موجود فيه، مما يوجد له دعاية وساعة في أرجاء الصومال. وكما أن عيديد لن يكون أكثر قوة من رئيس بنما نورويجا الذي استطاعت أميركا القبض عليه في عقر داره ومحاكمته في أميركا. أما القول بأن أميركا تنسحب من الصومال نتيجة لضغط الرأي العام داخلها ولتصريحات قائد القوات الإيطالية فأمر غير مقبول أيضاً، لأن المصالح وحدها هي التي تقرر تحركات أميركا على الساحة الدولية. وأما الرأي العام فمن السهل تطويعه وتضليله. وبالتالي فإن أميركا لا تترك الصومال إلا بعد أن تطمئن على مصالحها التي كانت هي السبب الرئيسي والوحيد لذهابها إلى الصومال. أما عن تصريحات قائد القوات الإيطالية فإنه من الممكن اعتبارها مناورات سياسية ـ على اعتبار أن الصومال كانت تحت احتلال إيطالي ـ الغرض منها إحراج الولايات المتحدة دولياً ومحاولة لتسلم قيادة القوات الدولية في الصومال لتُسيرها حسب مصالحها. ولكن إيطاليا دولة غير فاعلة في المسرح الدولي، كما أنها تدور في فلك أميركا، وربما تكون تلك التصريحات بإيعاز من أميركا لإيجاد مبرر لخروجها من الصومال كما أسلفنا القول. وأما عن دور إنجلترا وفرنسا، في هذه العملية فإنه يبدو أنهما لا دور لهما وأن مشاركتهم في قوات الأمم المتحدة هي لإثبات أن لهم دوراً في رسم السياسة الدولية، وحتى لا تنفرد أميركا بالعالم. ولهذا فقد اتهمت المعارضة البريطانية جون ميجور بالتهوّر لأن واشنطن ستقوده للمشاركة في مغامرات عسكرية مثل ضرب ليبيا وتحرير الكويت وإنقاذ الصومال. كل هذا ولا شيء يعود على المصالح البريطانية ومثلها الفرنسية. والمستفيد الوحيد هو أميركا والتي تعتبر العالم بقالة أميركية c
شريف عبد الله زايد ـ بكالوريوس علوم
الناصرية ـ سمنود ـ غربي ـ مصر
الاثنين 01/11/93
1993-12-28