العولمة: آخر إفرازات الرأسمالية
2016/09/27م
المقالات
2,401 زيارة
العولمة: آخر إفرازات الرأسمالية
ليست العولمة مجرد شعار اقتصادي رأسمالي فحسب، ولا هي وجه من وجوه الرأسمالية المتعددة الأوجه، ولكنها فكر مبدئي رأسمالي شامل لكل مناحي الحياة، وإن كان المنحى الاقتصادي أبرزها، وهي هجمة حضارية رأسمالية شاملة تجتاح العالم ومنه العالم الإسلامي، وهي غزوة فتاكة شرسة يستخدم فيها سلاح المال الفتاك -باعتباره عصب الحياة- تكتسح الشعوب ومنها الشعوب الإسلامية، ولا تجد أدنى مقاومة لها من قبل حكام المسلمين وبطاناتهم من المنتفعين الوصوليين الذين يشاركون الكفار في استعمارهم الجديد هذا ويروجونه لشعوبهم باعتباره قدراً مقدوراً.
واشتقاق لفظة العولمة آت من العالمية، والعالمية المقصودة هنا هي عالمية الرأسمالية، أي جعل الرأسمالية هي مبدأ العالم وحضارته، واحتكار لفظ العالمية هنا وتخصيصه بالرأسمالية نوع من التعالي والفوقية وهو احتقار للمبادئ الأخرى وتجاهل لوجودها، وهو يماثل احتكار المبدأ الرأسمالي لمصطلح الديمقراطية، مع أن الديمقراطية تشترك فيها مبادئ وفلسفات غير رأسمالية.
والعولمة هي عبارة عن دمج وتطويع الاقتصاديات المحلية ضمن الاقتصاد العالمي، عن طريق تحكم النمط الاقتصادي المخصخص بالاقتصاد العالمي وجعل التصدير في كل بلد يستهدف السوق العالمي كما يستهدف السوق المحلي سواء بسواء، وهذا يقتضي إزالة جميع القيود والحواجز أمام انتقال الأموال والسلع والمنافع، فالسوق العالمي والاقتصاد العالمي لا يعني اقتصاديات الدول المقفلة أو المحمية وإنما يعني الاقتصاد المفتوح أو ما يطلق عليه اقتصاد السوق المفتوح أمام كل القوى الاقتصادية.
ومنشأ مصطلح العولمة أول ما ظهر كان في شهر تشرين ثاني عام 1992 في مجلة Criminal Politics Magazine وهي مجلة أميركية وكان تحت اسم Globalology وترجم للعربية بالعولمة أو الكوننة أو الكوكبة ولكن لفظ العولمة شاع وغلب على ما سواه . ونشرت المجلة المقال المعنون ب : The Carroll Quigley Clinton Connection علاقة الرئيس كلينتون بالبروفيسور كارول كويجلي الذي كان أستاذه في جامعة جورج تاون وكان يدرس مواداً اقتصادية واستراتيجية في إحدى كليات الجامعة التخصصية. ويذكر المقال أن هذا البروفيسور كان يسمح له بالاطلاع على تقارير سرية ويطلب منه دراستها والمشاركة في إعداد أبحاث تفيد الحكومة، واستمر في الدراسة والإعداد لمدة عشرين عاماً وخرج بأفكار اقتصادية تتعلق بالنظام العالمي الجديد. وكان منذ البداية قد وضع أسساً لأبحاثه ودراساته ويدل عليها قوله: “ليس من السهل خلق نظام عالمي مبني على التحكم بالاقتصاد العالمي ككل ولذلك لا بد من استخدام البنوك المركزية في الدول ضمن اتفاقيات سرية تبرم من خلال اجتماعات ومقابلات ومؤتمرات”.
وتبلورت هذه الأفكار تماماً وخرجت إلى حيز الوجود في مطلع التسعينات وساعد على قطف ثمارها سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء العصر الشيوعي وخروج الاشتراكية من الميدان، وأصبح لا مناص من التمهيد والتخطيط لإيجاد اختراق واسع النطاق للبنى الاقتصادية من أجل تصديعها ومن ثم هدمها وإحلال مفاهيم رأسمالية جديدة محلها، مثل مفاهيم العولمة واقتصاد السوق وحرية التجارة باعتبارها النماذج الأحدث والأمثل التي تناسب القرن الحادي والعشرين.
ومن هنا كان لا بد من إيجاد العولمة ومن إيجاد رجالها، فكان هذا المصطلح وكان (كلينتون) رجل المرحلة حيث بدأت العولمة مع بداية حكمه .
وبما أن الرأسمالية مجموعة من المذاهب والتيارات المتعددة فكان لا بد من حسمها لصالح التيار الأقوى الذي تتبناه أميركا. فلقد كانت رأسمالية ( آدم سميث ) و (ريكاردو) والتي منحت صلاحيات واسعة للملكية الفردية وساعدت على تكريس الإقطاعيات والاحتكارات الكبيرة التي تمخض عنها حدوث قلاقل وثورات ضد الرأسمالية بسبب الحنق الشديد والتذمر العارم الذي انتاب الشعوب بسبب تحكم الأفراد بشكل فج بجهود المجتمعات ما مهد الأرضية لظهور أفكار الاشتراكية والشيوعية والقطاع العام، فاضطرت الرأسمالية للتراجع عن تعنت الملكية الفردية وأدخلت توقيعات جديدة على المبدأ وتكيفت مع الواقع الجديد، وكان تكيفها تراجعاً حيث سمحت لأفكار الاشتراكية بالدخول ضمن الإطار الرأسمالي، وهكذا وجدت فكرة اشتراكية الدولة ومنح القطاع العام دوراً كبيراً للتخفيف من فحش الظلم الذي أحدثته الملكيات الفردية شيئاً قليلا.
ولكن بعد تهاوي الاشتراكية وسقوط الشيوعية كان لا بد من العودة إلى أصل الرأسمالية، وكان لا بد من إلباسها ثوباً جديداً لئلا تقع مرة ثانية في مطبات جديدة، ولئلا تحصل الثورات من جديد، ومن أجل ذلك تم اختراع فكرة (العولمة) وتم إحالتها إلى القطاع الخاص حتى تتنصل الدول من مسؤولياتها تجاه نتائجها التي قد تكون مدمرة.
وتفوق أميركا دولياً واقتصادياً وسطوتها على أهم القطاعات الإنتاجية لا سيما العسكرية منها، واحتكارها لبعض القطاعات الحساسة مثل قطاع الكمبيوتر والمعلوماتية، وبعدها عما جرى في أوروبا من صراعات وحروب ساهمت في إيجاد تيارات اقتصادية متناقضة أضعفتها وأفقدتها وحدتها، كل هذه العوامل جعلت من أميركا الدولة الوحيدة التي حافظت على نمطها الرأسمالي الذي لم يتأثر بأية أفكار اشتراكية لا قديماً ولا حديثاً مما ولد شعوراً عند معظم دول العالم بأن النهج الأميركي الاقتصادي هو النهج الأمثل وهو الذي يجب أن يتخذ قدوة ويستلزم تقليده، فاستغلت أميركا الفرصة في الوقت المناسب -بداية التسعينيات- بعد أن تخلخل الموقف الدولي وطرحت نموذج العولمة ضمن طرحها للنظام العالمي الجديد لتقضي على ما تبقى من مفاهيم الاشتراكية والحماية الاقتصادية والقطاع العام والتي لا زالت موجودة في دول العالم ولا سيما في الدول الأوروبية.
ولكي تجعل أميركا من العولمة واقعاً اقتصادياً عالمياً، لجأت إلى الضغط على دول العالم وخاصة على الدول الأوروبية القوية لتحويل اتفاقيات (الجات) التي كانت تقتصر على التعرفة الجمركية إلى منظمة دولية تفرض قوانين العولمة على العالم فترفع القيود الضريبية والجمركية وتزيل ضوابط الحماية وتخصخص اقتصاديات الدول، لتسمح بتسلل الرساميل والمنتجات الأميركية الضخمة إلى الأسواق المحمية والمغلقة مثل أسواق الكومنولث البريطانية والدول الفرانكفونية الفرنسية ودول منظومة الاتحاد السوفياتي البائد بحماية قانونية دولية.
وعملت الولايات المتحدة الأميركية كذلك على إيجاد تكتلات اقتصادية ضعيفة وألحقتها بها ونافست بها تكتل دول الاتحاد الأوروبي فحمت دول القارة الأميركية من تكتل (النافتا) ودول جانبي المحيط الهادي ضمن تكتل (إيباك) ودول جنوب شرق آسيا ضمن تكتل (اسيان) وأدخلت روسيا في تكتل «إيباك» وربطت الصين بعلاقة اقتصادية خاصة بها، فلم تبق لأية دولة ولا لمجموعة دول قدرة على منافستها، وحتى دول الاتحاد الأوروبي لا تقوى على منافستها بعد تكتيل معظم دول العالم بدواليبها.
وجعلت أميركا للعولمة مقومات رئيسية لا تنجح إلا بتطبيقها وأهمها:
1- الخصخصة: وهي تحويل القطاع العام إلى القطاع الخاص. ومبررها في ذلك ضعف أداء القطاع العام وسوء إنتاجيته وفساد القائمين على إدارته.
2- المؤسساتية: وتعني اعتبار الدولة مجموعة مؤسسات، وما الحكومة فيها سوى مؤسسة صغيرة اقتصادية إن لم تكن الأصغر، وهي مؤسسة يقتصر عملها على القيام بالأعمال الديبلوماسية وتملك جيشاً صغيراً ودوائر أمنية وهيئات استشارية تعمل جميعاً لخدمة القطاع الخاص، وإن أرادت أن تقوم بعمل مالي فيجب أن تتساوى مع آية مؤسسة أخرى فتعامل معاملة القطاع الخاص. وعلى سبيل المثال فإن مؤسسة Forum التي يديرها أربعون ألفاً من خيرة المتخصصين الذين يضعون البرامج ويهندسون كل شيء بمقدورها أن تتفوق على أية دولة.
ومن هنا يجب أن تكون القاعدة وفقاً للمؤسساتية أن الحكومة هي إحدى مؤسسات الدولة المتخصصة ومهمتها الحكم بشكل رئيسي، فهي تحكم ولا تملك. وأما بقية المؤسسات فهي تملك ولا تحكم.
3- الشركات: وهي مؤسسات اقتصادية بارزة تسيطر على الاقتصاد سيطرة حقيقية، موجود منها الآن آلاف الشركات منها مائتا شركة عملاقة تسيطر على معظم الاقتصاد العالمي، ومن بينها مائة واثنتان وسبعون شركة تسيطر عليها خمس دول هي أميركا واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وتقوم الحكومات بمساعدة هذه الشركات على اختراق الاقتصاد العالمي والسيطرة عليه.
4- البنوك: وهي دعامة الشركات لا سيما العملاقة منها وشريكتها في اجتياح اقتصاديات الدول الضعيفة فضلاً عن أن البنوك نفسها هي شركات بحد ذاتها.
5- الأسواق المالية: وهي أسواق الأسهم والسندات والعملات وهي التي يجني من ورائها أرباب الأموال الأرباح الطائلة من غير تقديم جهد فعلي ولا استثمار حقيقي، واقتصادها اقتصاد طفيلي يعتمد على المنافسة غير المتكافئة وعلى ما يشبه القمار والنصب والاحتيال. وللأسواق المالية أهمية بالغة في عولمة الاقتصاديات المحلية ومن الأدلة على ذلك قول (كلينتون) في قمة (فانكوفر) بكندا لدول (إيباك): (إن أولوياتنا هي تعزيز الأسواق المالية في آسيا) ووصف (هاشيموتو) رئيس وزراء اليابان الدور الأميركي بأنه يسعى لتقزيم آسيا وتسويق العولمة. وقال (مهاتير محمد) رئيس وزراء ماليزيا: (إن أي بلد يتلقى مساعدات الصندوق يتعين عليه فتح سوقه المالي). ولقد اشترط صندوق النقد الدولي لمساعدة كوريا الجنوبية للتغلب على أزمتها الأخيرة فتح أسواق السندات أمام المنافسة الأجنبية.
6- حرية التجارة: وهي أساس من أسس اقتصاد السوق وقاعدة من قواعد العولمة، وتقوم منظمة التجارة الدولية بفرض شرط فتح أسواق الدولة أمام السلع الأجنبية لقبولها كعضو ينضم إلى المنظمة، ولقد تعهدت إحدى وعشرون دولة شاركت في قمة (فانكوفر) بكندا بحرية التجارة لتسعة قطاعات إنتاجية جديدة، وهذا أمر أصبح من البداهة بمكان بحيث لا تستطيع دولة إنكاره، وهذا الأمر يجعل أميركا والدول الصناعية تسيطر على التجارة الدولية لضعف إمكانية التنافس لدى الدول الصغرى.
7- فرض أفكار الحضارة الرأسمالية وقيمها على الدول أجمع: إذ تشترط الدول الغربية على دول العالم القبول بالديمقراطية بشكل أو بآخر، ولكن أميركا بدأت في الآونة الأخير بالتركيز على ضرورة أخذ مجموعة من الأفكار كشرط أساس ومصاحب لدخول العولمة ومن هذه الأفكار العلمانية والعقلانية والتفاهم بين الشعوب والتمتع بالحريات وتحديد النسل والتعددية وسيادة القانون وتنمية الفكر المدني وتطوير المناهج ومعالجة البطالة والتضخم بطريقة معينة وما شاكل ذلك من أفكار وقيم وطراز معيشة وفقاً للنمط الحضاري الغربي وجعل ذلك كله ثقافة عليا جديدة فوق كل المبادئ وفوق كل الحضارات. وهذا يفسر تصريحات كثير من حكام الدول المنحطة ومنها دول العالم الإسلامي التي تركز على هذه الأفكار وعلى شعاراتها والتي كان آخرها تصريحات الرئيس الإيراني (خاتمي) والتي ركز فيها على التعايش بين الشعوب والمصالحة بين الإيرانيين والأميركيين وعلى تكريس سيادة القانون وتنمية الفكر المدني.
8- تكريس أفكار التجزئة والتقسيم واللبننة: حيث تشجع أميركا في حلولها وتدخلاتها على تفتيت البلد الواحد إلى كيانين أو أكثر إن استطاعت، وذلك حاصل في البوسنة والعراق والسودان والأفغان وغيرها من أجل جعل الاهتراء الوطني والتناقض القومي والشلل الجغرافي كأسس صالحة لاستقبال العولمة الأميركية والقبول بها كقدر لا راد له ولا غناء عنه واعتباره كقطار سريع متوجه نحو القرن القادم، ومن لا يركب فيه فمصيره العزلة والهامشية أو الذيلية والانسحاق.
وبعد… فالعولمة إذن سهم مسموم رمتنا به الرأسمالية، وسلاح فتاك أشهرته أميركا في وجوهنا، وبدلاً من أن نواجهه ونتصدى له بكل ما نملك من قوى، نجد الحكام وبطاناتهم المضبوعين بالأمركة وكثير من الجهلة يروجون للعولمة وكأنها قضاء مفروض عليهم جبراً عنهم، ويسعون لتكييف واقعهم بحسب هذا الوباء الذي يُعدون لاستقباله وكأنه البلسم الشافي لجراحات شعوبهم.
إن كثيراً من علماء الاقتصاد -حتى في الغرب نفسه- أدركوا خطورة العولمة على العالم وتوصلوا إلى نتيجة واحدة أجمعوا عليها وهي أن تطبيق العولمة سيفضي إلى زيادة الهوة بين الفقراء والأغنياء، وقد قال عابد الجابري، وهو اقتصادي من المغرب، في أحد مؤتمرات العولمة أن للعولمة ثلاث سلبيات هي:
1- اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء اتساعاً متزايداً يجعل الحياة المعاصرة في كل بلد مطبوعة بالازدواجية والانشطار اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
2- اتساع الهوة بين أطفال الأغنياء وأطفال الفقراء وظهور جيل منقسم إلى قسمين لكل منهما عالمه الخاص.
3- إقصاء وتغييب البعد الإنساني في النشاط التجاري والتنموي وتكريس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
إن هذه النتائج وغيرها ثمار طبيعية لأفكار الكفر التي أفرزتها الرأسمالية. والحقيقة أن العولمة هي غول المستقبل الذي لا يبقي ولا يذر وإن لم يجد من يواجهه فسيحيل العالم إلى شقاء كامل وبؤس عارم ولسوف يأكل الأخضر واليابس ولن يوقفه إلا قيام الدولة الإسلامية التي وحدها تملك وضع حد لهذه العولمة التي تقوم على سلطان المال والثروة ولا تعترف بسلطان غيره ولا ينفع معها الفكر والنقاش والإقناع، فالدولة الإسلامية هي الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من أخطار المجاعة والفناء والانسحاق التي هي نتائج طبيعية لإفرازات الرأسمالية الكافرة.
أحمد الخطيب – القدس –
2016-09-27