مع القرآن الكريم: من مقدّمات الاستخلاف والتمكين
2008/08/27م
المقالات
2,222 زيارة
مع القرآن الكريم:
من مقدّمات الاستخلاف والتمكين
(تهيؤ الأجواء)
إن النصر والتمكين هو ابتداءً منّةٌ من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وهو جائزة عظيمة لأهل الصبر والثبات، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص 5-6 ].
وهو مقدمةٌ لحمل الأمانةِ الربانيةِ -أمانةِ وحي السماء- قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء 73] قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: «أئمة أي قادةً في الخير ودعاةً إليه، وولاةً على الناس».
ولا بد من مقدّماتٍ اشترطها الحق تبارك وتعالى لحملِ هذه الأمانةِ الغاليةِ العظيمةِ الجليلة؛ (وحي السماء أمانة) وهي نفسُ المقدماتِ التي اشترَطها الحقُّ تعالى على أتباعِ الأنبياءِ والرسلِ قبلَ النصرِ والتمكينِ والاستخلاف، فما هي هذه المقدّماتُ التي تسبقُ حمل الأمانة؟!
وقبل الإجابةِ عن هذا السؤالِ، أقولُ إن الأمانةَ اليومَ ليستْ نبوّةً ولا رسالةً جديدة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد ختمَ النبوّةَ والرسالةَ بسيدِ المرسلينَ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، (إنها الاستخلافُ في الأرض)، وهي ميراثُ النبوّة، ووظيفةُ الأنبياءِ الأصفياء، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور 55] وقال: (يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص 26]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كانتْ بنو إسرائيلَ تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هَلك نبيٌّ خلفه نبيّ، ألا وإنّه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء… » الحديث، وقال: «العلماء ورثةُ الأنبياء… ».
وإن مقدّماتِ الاستخلافِ في الأرض لحملِ أمانةِ وحي السماءِ بعد الأنبياء قد بيّنها الحق تبارك وتعالى ورسولُه عليه الصلاة والسلام وهي:
أولاً: الإيمانُ الصادقُ الخالصُ لله تعالى. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر 51] وقال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم 47].
ثانياً: العملُ الصالح المنبثقُ من هذا الإيمان الراسخ . والعمل الصالح هو علامةُ صدقِ الإيمانِ في العقلِ والقلب، فهو أمارةٌ على صدقِ الإيمان، فهو من مقتضياتِ هذا الإيمانِ ولوازِمه التي تظهرُ على عبادِ الله المؤمنين. قال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال72].
ثالثاً: الاختبارُ والتمحيصْ: قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة 214]. وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة».
وعلامةُ النجاح في هذا الامتحانِ هو الصبرُ والثباتُ على الحقّ دون تغييرٍ ولا تبديل، ولا اتباعٍ للهوى والشهوات، ولا نظر إلى متعِ الحياة الدنيا، فإذا ثبتَ المسلم على البلاءِ والعذاب والمضايقةِ بسبب الإيمان والعملِ الصالح، فإن الله تعالى ينظرُ إليه بعينِ الرحمةِ والقبولِ في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بالتمـكـينِ والاســتخلافْ، وفي الآخرة بالجــزاء الأوفى في جـنات الخُــلد. قـــال تعـالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام 34].
رابعاً: تهيؤُ الأجواءِ لاحتضانِ أهل الإيمان والصبرِ والصدق والإخلاص . فلا بدّ من وجود حاضنةٍ تحتضنُ أهل الإيمان والتقوى، وهذه هي بدايةُ الجائزةِ من الله تعالى في الدنيا، حيث يُكرم الحقّ تعالى أولياءَه بأنصارٍ مخلصين يحبّون أهل الإيمان ويناصرونَهم على هذا الإيمان ويسيرون في ركابه. ويصبح الإسلام والاستخلاف في بلادهم رأياً عاماً نابعاً من وعي عام على الإسلام والاستخلاف على أساسه. فقد هيأ الله تعالى لرسوله وللمؤمنين معه بعد رحلةِ اختبار وابتلاء وامتحان وصدقٍ وصبرٍ وثبات، هيأ لهم حاضنةً طيبةً في أرض(طيبة)، احتضنتْ الرسولَ والمؤمنينَ، وناصرتهمْ وسارتْ معهم في طريق الحق.
قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر 8-9].
ولا بدّ من وقفةٍ قصيرةٍ عند مسألةِ التهيؤِ والاحتضان. فالدعوةُ لا بدّ لها من هذه المرحلةِ لتحصلَ النصرةُ والتمكينُ، وهي مرحلةٌ تسبقُ مرحلة النصرةِ لاستلامِ الحكم، ونقصدُ بالتهيؤِ والاحتضانِ وجودُ جمهرةٍ وحشدٍ من شبابِ الدعوةِ بحيثُ تبرزُ في المجتمع، ويكونُ لها وجودٌ ملحوظٌ بين الناس، ووجودُ رأيٍ عامٍ لفكرةِ الدعوةِ وعلى رأسها تطبيقُ الإسلام تطبيقاً انقلابياً شاملاً في كافّةِ مناحي الحياةِ عن طريق دولة الإسلام، وهذا الرأيُ العامُ يُشترطُ أن يكونَ نابعاً من معرفةٍ وفهمٍ، أيّ عن وعيٍ عامّ على أفكارِ الدعوةِ الرئيسيّةِ، وليسَ مجرّدَ مشاعرَ جيّاشةٍ تبرزُ وتنتهي بسرعة.
وكذلك بروزُ الاستعدادِ لدى الناس للوقوفِ بجانبِ حملةِ الدعوةِ. وقد طبق ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبلَ طلبِ النصرة لإقامةِ الدولة؛ أي قبلَ البيعةِ الثانية، بإرساله مُصعبَ (رضي الله عنه)، لمدّةِ عامٍ كامل إلى المدينة فعملَ على تهيئةِ الأجواء وإيجاد الرأيِ العام والاستعدادِ للوقوفِ بجانبِ الدعوة.
خامساً: النصرة والتمكين. وهذه هي المرحلةُ الأخيرةُ بعد تهيؤ الحاضنةِ في أرض الله، حيثُ يمنُّ الله تعالى على المؤمنينَ بأهلِ القوّةِ والمنعةِ من أبناء هذه الحاضنةِ، فينصرونَ دينَه، ويمكّنونَ لأهل الإيمان المخلصين، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال 26].
إن الناظرَ في أحوال حمل الدعوة يرى انطباقَ المقدّماتِ التي تسبقُ نصرَ الله وتمكينَه انطباقاً تاماً على المؤمنين بها، حيث آمنوا بالله رباً وبمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً ورسولاً، ووقفوا وسْطَ الشركِ والصّدِ عن سبيل الله صامدين ثابتين رغْمَ كلّ ألوانِ القهر والجبروتِ والتسلط والتعذيبِ الذي يعجزُ اللسان عن وصفِه؛ وقفُوا لا تلينُ لهم قناةٌ، ولا تفترُ لهم همّةٌ، ولا ينحني لهم رأسٌ ولا جذعْ، وسطّروا بصبرِهم سيرة أتباعِ الأنبياءِ السابقين من أنصار عيسى عليه السلام عندما نُشّروا بالمناشير وحمّلوا على الخشبْ، وسيرة أنصارِ موسى عليه السلام عندما ذبّحَ فرعونُ أبناءَهم واستحيا نساءَهم، وسيرة أصحابِ الأُخدودِ الذين أُحرقوا في النيرانِ ذات الوقود، وسيرةَ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كبلالَ وخبابَ وعمارَ وياسرَ وغيرِهم.
نعم، لقد آمنت هذه الثلّةُ الطيّبةُ إيماناً طيباً، وعملت عملاً صالحاً بحملها لهذه الأمانةَ لتمكينِها في الأرض بالاستخلاف…. وثبتوا وصبروا على ذلك، وها هي المكرمةُ الربانيّةُ قد بدأتْ تتنزلُ عليهم بامتدادِ الدعوةِ وقوّتها وكثرةِ أنصارها لتتهيأ الحاضنةُ الكبيرةُ في أي أرض الله شاء.
لقد بدأتْ الدعوةُ تقوّى وترسّخُ أركانُها في هذه الأرضِ، ولن يطولَ الزمانُ حتى تتهيأ هذه الحاضنةُ تهيؤاً يقدّمُ للنصرةِ والتمكينِ بإذنه تعالى. تماماً كما تهيأتْ أرض المدينةِ لرسولنا عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الغرّ الميامين.
وفي الختام نسألُه تعالى أن يعجّلَ بالفرجِ القريبِ في كلّ أرجاء الأرضِ بقيامِ خلافةٍ راشدةٍ على منهاجِ النبّوةِ يرضى عنها ساكنُ الأرضِ وخالقُ السماوات والأرض، ويفرح بها المؤمنون.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم 4-7].
أبو المعتصم – بيت المقدس
2008-08-27