خذوا الإسلام جملة!
2008/06/27م
المقالات
2,480 زيارة
خذوا الإسلام جملة!
لقد منّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بأن بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً لهم وهادياً وداعياً إلى الحق، وبعث معه رسالة الإسلام لتكون دستوراً للحياة، فتحل مشاكل البشرية وتورثهم الهناء والسعادة في الدارين. قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) [الإسراء 105].
وكانت إرادة الله أن يكون سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن تكون رسالته خاتمة الرسالات باقية إلى يوم الدين. (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب 40]. وبقاء هذه الرسالة ليس بقاء عقيدة وأمراً روحياً فحسب بل هو بقاء إيمان بها، وحكم بمقتضاها، وعمل بموجب أحكامها.
لم يمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بعد أن اكتملت الرسالة اكتمالاً يرفع عنها النقص والاحتياج إلى كل مكمل أو مبتدع. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة 3]، فرسالة الإسلام كاملة منزهة عن كل نقص. ومن كمالها أن شملت حلولاً لكل مشاكل الحياة، سواء ما وقع منها في الماضي، أم ما يقع في الحاضر، أم ما سيقع في المستقبل؛ وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل].
فما من جديد قد يطرأ في هذه الحياة الدنيا ويحتاج إلى معالجة إلا قد شرع الله له من الأحكام ما يشمله. وشمولية الإسلام ليست آتية من مرونته وتطوره كما أدعى بعض المتأخرين بل آتية من اتساعه.
فليس الإسلام مرناً ليتطابق ويجري تطويعه ليوافق كل ما يجد، وليس الإسلام متطوراً ليطرأ عليه التغيير والتبديل كلما تبدلت وتغيرت الظروف. روى ابن ماجه وغيره عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موعظةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف (الذلول) حيثما قيد انقاد» أخرجه الترمذي بمعناه وصححه.
نعم، ليس الإسلام مرناً فيطوى، ولا متطوراً فيُغير، ولكنه شامل واسع، وسعته آتية من أن الله شرع الأحكام على نحو يغلب عليه العموم والإطلاق أكثر من الخصوص والتقييد. وإن كان ورد من الأحكام ما هو خاص، ولكن غلب عليها العام المطلق إما بنصه، أو بما وضع فيه من أمارات دالة عليه. فحرمة الميتة حكم عام ويدخل فيها كل ميتة مما نعرفه ومما لا نعرفه إلى يوم الدين، اللهم إلا ما ورد تخصيصه كالحوت والجراد. والإلهاء عن صلاة الجمعة حرام، سواء أكان بالبيع أم باللعب أم بأي شيء مما نعرفه أو لا نعرفه من الملهيات. والحكم بغير ما أنزل الله حرام، سواء أكان ذلك بالديمقراطية أم الجاهلية أم الشيوعية أم غير ذلك مما نعرفه أو لا نعرفه من مبادئ غير الإسلام.
وهكذا جاءت أحكام الإسلام لتشرع لنا أحكاماً عامة، أو تضع لنا أمارات دالة لتتسع وتشمل كل ما قد يطرأ أو يجد على البشرية.
وعند تطبيق الإسلام كاملاً تتجلى روعة التشريع وحسنه للبشر، فتسعد البشرية وتدرك أن هذا التشريع من لدن حكيم عليم، فقد دخلت الشعوب في الإسلام لما رأت من حسنه وروعته حينما طُبق، فأحكام الإسلام تعاضد بعضها بعضاً، فيكتمل بمجموعها البناء ويزهو، ونذكر على سبيل المثال:
لما جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث، لم يكن ذلك ظلماً للأنثى أو انتقاصاً من حقها، فالشرع لم يوجب عليها العمل للنفقة على البيت، بل جعل نفقتها واجبة على زوجها أو أبيها أو أخيها أو عمها (المحارم) الأقرب فالأقرب، وهكذا لم تكن المرأة مستضعفة مهانة، بل مصونة محترمة.
ولما حرم الله الربا وحرم أن يجرَّ القرض أي منفعة كانت لقوله عليه الصلاة والسلام (كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا)، فقد رغب في الإقراض، وجعل من أقرض مرتين كمن تصدق مرة واحدة، وأوجب على الدائن الصبر في حالة عسر المدين، وجعل للمدين حقاً في الزكاة، وأوجب على الدولة سداد الدين حين انقطاع الأمل أو من يسد من أهله. وهكذا شجع الإسلام تحريك المال، وفك أزمة المحتاج دون خسارة الدائن أو إذلال المدين واستغلاله ومضاعفة دينه بالربا.
ولما حرم الله كنز المال، فقد شرع العمل والتجارة ورغب بهما، ولم يوجب على التاجر ترخيصاً يثقل كاهله أو ضريبة تسرق ماله، بل فتح له الأبواب على مصراعيها ليتاجر بماله، وأجاز له الشراكة، فأباح له أن يضارب بماله مع من يثق ويحب، فيستفيد من لا يجد مالاً ليعمل ومن لا يجد وقتاً ليعمل، فيجني أرباحاً لنفسه ويقدم الخير لغيره ويساهم في بناء اقتصاد أمته.
وهكذا كل أحكام الله تعالى، تبدو متجانسة متعاضدة فيما لو طبُقت كلها ولم يجر تقطعيها، ولكن حينما تبتر الأحكام عن بعضها البعض، فيُعطل أحدها ويُتجاهل أخر ويؤخذ بثالث، تظهر المعالجة وكأنها غريبة لا تنسجم أو لا تصلح. وهذا ما أبتلينا به حينما غابت دولة الإسلام.
فلو قلت لأحدهم إن الربا حرام وإن البنوك مصارف ربوية لا يجوز التعامل معها وهو إثم عظيم، قال لك: ومن أين آتي بالمال لتأسيس شركة؟ فلو قلت له: اقترضه، قال لك: ومن يقرضني بلا فائدة في ظل غياب مفاهيم طاعة الله وحب الجنة؟ أو ربما قال لك آخر: وأين أضع مالي، أأتركه في بيتي ولا أمان؟ أم أتاجر به ولا أقوى على ذلك وأخسر لما وضعته الحكومات من تراخيص ومعيقات، ولما فرضه النظام الرأسمالي الذي جعل الحياة فقط للشركات العملاقة، والباقون لا يجدون إلا الفتات!
وهكذا، يبدو وكأنك تطرح طرحاً لا ينسجم مع متطلبات الحياة، أو لا يتماشى مع العصر!
إن المشكلة تكمن في عدم أخذ الإسلام جملة. حتى بات إقناع بعض المسلمين بضرورة النزول عند حكم الله حين الحديث عن المعالجات وكأنك تتحدث عن مثاليات أو خياليات، وحتى لو قلت له قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65]، ولو سلم معك عقدياً، إلا أنه تبقى في نفسه ثغرة يعجز عن ملئها.
ولعل هذا ما يُفسر حاجة حملة الدعوة إلى تكرار القول بأن العقل لا يحكم على الشرع، والشرع فوق العقل، مع أن الأصل أن تكون هذه المعلومة مسلمة لا شية فيها عند كل مسلم ولا حاجة لنقاشها.
والإسلام غير معنيّ بتقديم حلولٍ لمشاكل المبادئ الأخرى، فمشاكل المبادئ الأخرى كالرأسمالية التي جعلت حياة الناس جحيماً، وأدخلت البشرية في تناقضات لا تنتهي، هي من تُطالب بحل مشاكلها لنفسها ولا يُطالب الإسلام بحل مشاكلها.
فمن الظلم للإسلام أن تقيّمه من خلال محاولة تطبيق حكم شرعي واحد ضمن سلسلة من الأحكام الرأسمالية المتواصلة، فلا يُقيّم الإسلام بتحريمه للربا وللمصارف الربوية من خلال ما تُدعى البنوك الإسلامية التي أساءت للإسلام وأحكامه بتسمية نفسها به، فقزمت الإسلام والنظام الاقتصادي في الإسلام إلى معاملة المرابحة، فبدت معالجة الإسلام وكأنها نشاز، هذا فضلاً على أن المرابحة معاملة باطلة محرمة ويكفي أنها حيلة على الربا.
مع أنه أن يُطلب من الإسلام أن يحل مشكلة الربا والحاجة للمال في ظل نظام رأسمالي بكل عناصره وبنيته هو النشاز.
إن عدم أخذ الإسلام جملة يؤدي إلى:
أولاً: غضب الله تعالى، لأنه قد أوجب علينا أخذ الإسلام كله دون استثناء، وأي ترك لحكم من أحكامه طواعية يعني الإثم والعذاب، قال تعالى: (وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر 7].
ثانياً: عدم تطبيق الإسلام كله يسبب الشقاء والمشاكل للإنسان، لأن كل حكم من الأحكام الشرعية يُعطل يعني ضياع خير عميم ونعمة كبيرة، فقد قال تعالى : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس 57] وقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124].
ثالثاً: عدم أخذ الإسلام جملة يظهر تناقضات في الأحكام واختلافاً بينها، فتبدو وكأن بعض الأحكام مستحيلة التطبيق، فقد قـال تعــالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء 82]، مما يعني أن ظهور التناقضات أمر حتمي عندما تغيب الأحكام الشرعية كلها أو بعضها، ولعل ما يحدث هذه الأيام في الدول الرأسمالية من تغيير وتعديل دائم في القانون لظهور المشاكل والتناقضات لهو دليل على ذلك أيضاً.
رابعاً: عدم أخذ الإسلام جملة والقبول بتطعيم نظام الكفر ببعض الأحكام الشرعية، أو تقديم حلول شرعية لمشاكل المبادئ الأخرى يسبب تشويهاً لصورة الإسلام الحقيقي، ويورث ضبابية عند المسلمين مما يعني الإساءة إلى الإسلام، ولنا في الحركات الإسلامية التي دخلت في أنظمة الحكم الفاسدة في البلاد الإسلامية مثال على ذلك، فقد أساءت إلى الصحوة الإسلامية وأخرت النهضة الحقيقية.
خامساً: إن تقديم حلول لمشاكل الأنظمة والمبادئ الأخرى يعني إطالة لعمر الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، فإنه من الطبيعي أن تظهر المشاكل والمصائب في البلاد الإسلامية نتيجة لتطبيق الرأسمالية العفنة، وعند تقديم أي حل من الحلول الإسلامية المجتزأة يعني ذلك تخفيفاً من هذه المشاكل وإطالة لعمر الأنظمة. ولا نعني بهذا الكلام عدم تناول المشاكل ومعالجتها من ناحية شرعية، بل نعني أن تقديم الحلول لا يجب أن يكون انجراراً وراء الواقع وتفاصيله، بل يجب أن يجري التفكير وأن يُطرح الحل على مستوى حل مبدئي لا حل ترقيعي. فليس حل مشكلة الفقر تأسيس لجان زكاة في الوقت الذي لا يمكن فيه حل مشكلة الفقر ما دام النظام الرأسمالي مطبقاً والذي من طبيعته تكديس رأس المال، ولا حل مشكلة الأيتام والمسنين فتح دور للأيتام والمسنين، في الوقت الذي تسود فيه أفكار النفعية ويطبق فيه نظام بشري ظالم.
هذا بعض ما يؤدي إليه تجزئة الإسلام وعدم أخذه جملة، فالحذر الحذر من المساومة على هذه القضية.
فيا أصحاب الأفكار والفلسفات إن أردتم أن تروا عظمة التشريع الإسلامي وصلاحه فخذوا الإسلام جملة.
ويا أبناء الحركات الإسلامية إن أردتم أن تنصفوا الإسلام وتنتصروا له فاعملوا على أن يصل كله إلى سدة الحكم، ولا تقبلوا أن يُجزأ الإســلام فيفــرق بين الصلاة والزكاة. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة 85].
وفي الختام، لا بد لنا أن نؤكد أن أخذ الإسلام كله غير منقوص ولا مجتزأ واجب لا خيار فيه، وأمر مبتوت فيه ولا خلاف، ولكن اقتضى التأكيد على حاجة البشرية إلى ذلك فوق كونه واجباً شرعياً.
المهندس: أبو بكر عسّاف
2008-06-27