الطب في النظام الرأسمالي (3)
2008/05/27م
المقالات
2,655 زيارة
الطب في النظام الرأسمالي (3)
الأبحاث العلمية:
يظن بعض الناس أن الثورة العلمية والتقدم المدني المتسارع في العالم الغربي سببه حضارة الغرب الرأسمالية وقيمها الديموقراطية، ويغفل هؤلاء أن المعارف والعلوم تتراكم مع الزمن، فالإنسان يتعلم ما توصل إليه سلفه من العلوم، ويعتمد عليه ليبحث ويتوصل إلى معلومات جديدة. فلا يستطيع عالم البيولوجيا بحث الجرثومة قبل اختراع الميكروسكوب، ولاختراع الميكروسكوب لا بد من اكتشاف قوانين الضوء.
ومع أن النهضة بالفكر الأساسي الشامل تؤدي إلى التقدم العلمي، فإن هذا الأمر لا يقتصر على مبدإٍ دون آخر؛ لأن الحضارة والمفاهيم عن الحياة تكون خاصة بكل أمة من الأمم ذات المبادئ المختلفة، أما العلوم التجريبية والصناعة فهي عامة، ولا تختص بأمة ولا بشعب معيّن.
إن المدقق في الحضارة الرأسمالية وأثرها على البحث العلمي، يلاحظ أنها تؤخر وتيرة تطوّر العلوم –ومنها الطب- وتحد من تقدم المدنية. وذلك لأن الغش والتزوير وسيلتان مشروعتان في النظام الرأسمالي إذا حققا الربح والمنفعة، وقد ترك هذا أثرًا جليًّا على الأبحاث الطبية، فبعض نتائج وتوجيهات الأبحاث الطبية هدفها: 1) زيادة عدد المُلائمين للعلاج (كما ذكرنا سابقا بالنسبة للعقاقير المخفضة للكوليسترول). 2) زيادة عدد ونوع الخيارات والتوصيات العلاجية الدوائية، بما في ذلك الانتقال من العلاج بدواء واحد إلى العلاج بعدة أدوية، واستخدام أحدث أنواع الأدوية مع أن الأدوية القديمة (التي انتهت مدة براءة الاختراع عليها) قد تكون بنفس المفعول. 3) التحول من التركيز على الوقاية والعلاج مرة واحدة إلى الرعاية والعلاج المُزمن حيث يُحافظ هذا على مبيعات الشركة.
وفي هذا السياق تعزف العديد من الشركات الدوائية عن إنتاج مضادات حيوية جديدة؛ لأن هذه الأدوية عادة تُعطى لمدة محدودة يتحقق بعدها الشفاء؛ لذلك فالأرباح من هذه الأدوية متواضعة مقارنة بالأدوية التي تؤخذ بشكل دائم (كالأدوية لعلاج المشاكل الجنسية، أو أدوية الكولسترول والسكري)، ونتيجة لهذا العزوف عن البحث والتجديد في مجال المضادات الحيوية بات العالم مهدداً بظهور جراثيم لا علاج لها؛ لأن الجراثيم تكتسب المناعة ضد الأدوية الموجودة.
ونلاحظ أن عدد المضادات الحيوية الجديدة التي أقرتها الـ(إف دي إي) (FDA) -الهيئة الأميركية المسؤولة عن الإذن بتسويق الأدوية- قد انخفض بشكل ملحوظ: فقد تمت الموافقة على 16 مضاداً حيوياً بين عامي 1983 و1987؛ و14 بين عامي 1988 و1992. ثم انخفض العدد إلى 10 بين عامي 1993 و1997. و10 أخرى في فترة السنوات الخمس الأخيرة، 1998-2003. وفي عام 2003، انخفض عدد المضادات الحيوية المقدمة للـ(إف دي إي) للمصادقة عليها بنسبة 10٪ عن العام السابق، مما يدل على أنه من المرجح ان تستمر وتيرة العزوف عن البحث والتطوير العلمي في هذا المجال المهم.
وكمثال على الجشع الرأسمالي واقتصاره على القيمة المادية، نرى أن مرضًا مثل الليشمانيا بنوعيها، الجلدي والحشوي، تصنفه منظمة الصحة العالمية بين أهم ست مشاكل صحية يعاني منها العالم، حيث يبلغ عدد الناس المعرضين للإصابة به ثلاثمائة وخمسون مليوناً من البشر. وكل عام هناك مليون ونصف إصابة جلدية، ونصف مليون إصابة حشوية. والنوع الحشوي يعتبر مميتاً إن لم يعالج، أما النوع الجلدي فمُشوِّه، ورغم حجم الانتشار الكبير لهذا المرض فما زال يعالج بأدوية اكتشفت منذ الحرب العالمية الثانية، وقد ظهرت مقاومة للطفيل لهذه الأدوية، ومع ذلك لا يوجد بحوث جدية على أدوية جديدة؛ لأن الفقراء هم المصابون بهذا المرض، وبالتالي لا يوجد مصلحة تجارية لشركات الأدوية لتقوم بتطوير أدوية جديدة، وبالمقارنة: نرى من خافضات الكولسترول عشرات الأنواع، ولا تزال الأبحاث تجري على قدم وساق لتطوير أدوية جديدة منها لأنها تعالج أمراض الأغنياء القادرين على الدفع.
وقد انتقدت كلير شورت -وزيرة التنمية الدولية البريطانية- شركات الأدوية لأنها فشلت في الاستثمار في الأدوية التي تعالج أمراض الفقراء، وقالت الوزيرة البريطانية: “المزيد من الأدوية واللقاحات مطلوبة بشكل عاجل لمعالجة أمراض الملاريا والتدرن (السل) والإيدز التي تقتل الملايين في دول العالم النامي، إننا نعيش في عالم يتميز بالاكتشافات التقنية التي يمكن أن تجلب المنافع الهائلة للبشرية، لكن الحقيقة مختلفة تماماً، إذ أن معظم الجهود تستهدف الأمراض التي يعاني منها العالم الصناعي. إن الحاجة لتحقيق الأرباح من الاستثمارات وبناء أسواق كبيرة للمنتجات قد جعلت شركات الأدوية الرئيسية تميل إلى تجاهل الأمراض التي تنتشر في الدول الفقيرة”.
وأضافت الوزيرة أن عشرة في المئة فقط من الأموال المخصصة للأبحاث تنفق على الأبحاث المتعلقة بالأمراض التي تؤثر على تسعين في المئة من الفقراء في العالم.
ويذكر أن الملاريا تقتل مليون شخص في العام، وكلهم تقريباً في أفريقيا، وتؤثر على خمسمئة مليون شخص في العام، بينما يقتل التدرن (السل) مليوني شخص في العام، بينما قتل الإيدز مليونين ونصف في عام 1998 وحده. ومع ذلك نجد أن نسبة 1% فقط من بين 1400 دواء جديد ظهر خلال الربع الأخير من القرن العشرين، خصصت لأمراض العالم الثالث.
أما قوانين براءة الاختراع فقد أخرت الانتفاع بكثير من المكتشفات المهمة؛ لأن الشركات تؤخر استعمالها لعدم قدرتها على حماية الاكتشاف. وخاصة في مجال الطب وصناعة الأدوية، فإنها الأكثر صعوبة من الناحية العملية وليس من الناحية القانونية. وهنالك أمثلة كثيرة تبين أن تصنيعاً لأدوية قد تأخر سنوات كثيرة مع أن الناس في أمس الحاجة إليها؛ وذلك لعدم التمكن من حمايتها بسبب بساطة الاختراع ـ لأنه إذا عُرف تمكنت الشركات الأخرى من إعادة الاختراع بطرق أخرى غير محمية ـ أو لأسباب عملية غير ذلك. وكم من دواء مفيد لم يتم إنتاجه لعدم توفر الجدوى الاقتصادية مع أهميته لحياة الآلاف من الناس.
أما بالنسبة لتزوير نتائج الأبحاث العلمية أو إخفائها خشية انخفاض الأرباح أو تقليص جمهور المستهلكين، فقد ذكرنا سابقًا ما قامت به شركة فيزر Pfizer من إخفاء نتائج دراسة أجرتها على دواء التهاب المفاصل “سيليبريكس” celebrex، وتبيّن فيها أن عدداً غير قليل من مستخدمي الدواء عانوا من سكتات قلبية وجلطات.
وأذكر هنا أن دراسة عن مخفضات الكولسترول كانت تجري في إحدى المستشفيات التي درست فيها، وكانت شركة الدواء ترعى البحث، الذي أُجري في نفس الوقت في عدة مستشفيات في أرجاء العالم، بحيث تجمع كل النتائج من كل المستشفيات لاستخلاص النتائج. وجاءت النتائج في المستشفى الذي درست فيه على غير ما تشتهي شركة الدواء، ومع أننا أرسلنا النتائج كما هي للشركة، فوجئنا بعد نشر البحث الكلي أن النتائج التي أرسلناها لم تنشر ولم يُذكر اسم المستشفى في الدراسة النهائية!! طبعًا لا حاجة لأن نذكر أن الدراسة النهائية صيغت بصورة تزيد من مبيعات الدواء محل البحث، وبالتالي ترفع أرباح الشركة.
وهكذا لم تسلم الأبحاث الطبية من فكرة النفعية في الغرب، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى إقامة التجارب الوحشية على الإنسان، واستغلال الفئات الضعيفة من المجتمعات لمثل هذه الأبحاث المؤذية، ونضرب المثال التالي من تاريخ الطب في المجتمع الغربي دليلاً على ذلك:
على مدى أربعين سنة بين 1932 و1972، أجرت خدمة الصحة العامّة في الولايات المتحدة (PHS) تجربة على 399 رجل أسود في المراحل المتأخّرة لمرض الزهري (السفلس). هؤلاء الرجال، غالبيتهم أجراء أمّيون من أحدى أفقر مقاطعات ألاباما، لم يُعلمهم أحدٌ أبدًا من أي مرض كانوا يعانون أو جدية هذا المرض. بإخبارهم أنهم يُعالجون لـ”الدم الفاسد”، لم يكن لدى أطبائهم نية بمعالجتهم من مرض الزهري على الإطلاق.
البيانات للتجربة كانت ستجمّع من تشريح جثث الرجال، ولهذا تُركوا عمدًا حتى يموتوا تحت وطأة المرحلة الثالثة من الزهري- الذي يمكن أن يتضمن الأورام السرطانية، أمراض القلب، الشلل، العمى، الجنون، والموت. “كما أرى الأمور” وضّح أحد الأطباء المتورطين “ليس لدينا أي اهتمام إضافي بهؤلاء المرضى إلى أن يموتوا”.
كان يلزم أن تبقى طبيعة التجربة الحقيقية مخفية عن المشاركين لضمان تعاونهم. حياة هؤلاء الأجراء المُعدمة سهلّت خداعهم. عن طريق إغرائهم بفرصة العناية الطبية المجّانية -لم يرَ أحدٌ منهم تقريباً طبيباً في حياته- أصبح هؤلاء الرجال البسطاء بيادق في ما وصفه جيمس جونز، مؤلف كتاب ” الدم الفاسد”، بـ “أطول تجربة غير علاجّية على البشر في تاريخ الطب”.
كان الهدف من وراء الدراسة اكتشاف كيف أثّر مرض الزهري على السود مقارنة بالبيض -كانت النظرية أن البيض كانوا أكثر عُرضة للمضاعفات العصبية نتيجة للزهري، بينما كان السود أكثر عُرضة للضرر المتعلق بالقلب والأوعية الدموية. ليس من الواضح كيف كانت الإجابة لتغيّر من علاج مرض الزهري.
بالرغم من أنّ PHS وصفت الدراسة كذات أهمية علمية عظيمة، فإن منافعها الفعلية منذ البداية كانت ضبابية. مضت أربعون سنة تقريباً قبل أن يُلقي أحد المتورطين في الدراسة نظرة صعبة وصادقة في النتائج النهائية، ويُقرّر بأنّ “لا شيء من المُتعلّم سيمنع، يَجِد، أو يعالج حالة واحدة من مرض الزهري المعدي، أو يدفعنا للاقتراب من مهمّتنا الأساسية للسيطرة على المرض التناسلي في الولايات المتحدة”.
عندما أُثير انتباه أجهزة الإعلام في 1972 للتجربة، وصف مذيع الأخبار هاري ريسونير التجربة كتجربة “استخدم فيها البشر كحيوانات مختبر في دراسة طويلة وغير مفيدة عن كم يحتاج مرض الزهري لقتل شخص ما”.
حتى نهاية التجربة، مات 28 من الرجال مباشرة من مرض الزهري، ومات 100 من العوارض ذات الصلة، 40 من زوجاتهم كانت قد أُعْدِيَت، و19 من أطفالهم وُلدوا مصابين بمرض الزهري الخَلْقي.
ولكن كيف اقتنع هؤلاء الرجال بتحمّل مرض قاتل باسم العلم؟
لإقناع الجالية بدعم التجربة، أحد الأطباء الأصليين اعترف بأنه “كان من الضروري مواصلة هذه الدراسة تحت غطاء إثبات الدواء وتزويد العلاج.” في بادئ الأمر، وُصف للرجال دواء مرض الزهري الذي كان معروفًا –bismuth، neoarsphenamine، وزئبق- لكن بكمّيات صغيرة بحيث شوهد تحسُّن في 3 بالمائة من الرجال فقط.
هذه الجرع الدوائية الرمزية وفرت علاقات عامة حسنة ولم تُخِل بالأهداف الحقيقية للدراسة. في النهاية، استبدل كل علاج السفلس بعلاج مفبرك- أسبيرين.
لضمان مجيء الرجال لفحص السائل الشوكي -فحص مؤلم وممكن أن يكون خطرًا-، ضلّلهم أطباء PHS برسالة مليئة بالدعاية الترويجية: “فرصة أخيرة للمعالجة المجّانية الخاصّة”. الحقيقة بأنّه في النهاية يتطلّب الأمر تشريح الجثث التي أخفيت أيضاً.
كما وضّح أحد الأطباء، “لو أدرك السكان الملوّنون بأنّ قبول العلاج المجاني يعني تشريح الجثة بعد الموت، سيترك كل أسود مقاطعة ماكون…” حتى وزير الصحة في الولايات المتحدة شارك في إغراء الرجال للبقاء في التجربة، بإرساله شهادات التقدير لهم بعد 25 سنة على انطلاق الدراسة.
وَعْدُ الاعتراف من قبل جهاز حكومي رفيع المستوى حجب سمات الدراسة المثيرة للقلق بالنسبة للبعض. على سبيل المثال، مَدَحَ طبيب من توسكيجي قائلاً “عُرضت الفوائد التعليمية لأطبائنا وممرضاتنا بالإضافة إلى المكانة الإضافية التي ستُعطى للمستشفى.” وهنا تبرز آفة تصوير الحياة على أنها منفعة في الحضارة الغربية، فقد أجريت هذه التجربة الوحشية وعُذّب المشاركون من أجل منفعة معهد توسكيجي وحفنة من الأطباء “المتحضرين” بالحضارة الغربية.
إحدى السمات المُرعبة جدًّا في التجربة كانت كيف منع PHS بحماسة هؤلاء الرجال من تلقي العلاج. عندما وصلت العديد من الحملات الوطنية لاستئصال المرض التناسلي إلى مقاطعة ماكون، مُنع الرجال من المشاركة. حتّى عندما اكتشف البنسلين -العلاج الحقيقي الأول لمرض الزهري- في الأربعينات، أنكر رجال توسكيجي الدواء عمدًا.
أثناء الحرب العالمية الثانية، سجّل 250 من الرجال للتجنيد واستُدعوا بالتّالي للحصول على علاج لمرض الزهري، لكن PHS أعفتهم من ذلك. تعبيرًا عن سروره بنجاحهم، أعلن ممثل PHS: “حتى الآن، نحن نُبعد المرضى الإيجابيين المعروفين عن الحصول على العلاج”. استمرّت التجربة على الرغم من قانون هيندرسن (1943)، قانون صحة عامّة يتطلّب فحص وعلاج المرض التناسلي، وعلى الرغم من تصريح هلسنكي (1964) التابع لمنظمة الصحة العالمية، الذي حدّد بأنّ التجارب التي تستخدم بشرًا تتطلّب “موافقة مطلّعة”.
أخيرًا، افتضحت القصّة في الواشنطن ستار في 25 يوليو/تموز 1972، في مقال كتبته جين هيلير للأسوشيتد بريس. مصدرها كان بيتر بوكستان، مختص سابق في PHS للمرض التناسلي وأحد القلّة الذين نفخوا في الصافرة على مرّ السنين. الـPHS، على أية حال، بقى غير تائب، مدّعيًا أن الرجال كانوا “متطوعين” و” كانوا دائمًا سعداء برؤية الأطباء”، وأدعى ضابط صحة في ولاية ألاباما والذي كان متورطًا أيضًا “شخص ما يحاول عمل جبل من كومة ترابية صغيرة”.
تحت وطأة الدعاية والإعلان، أنهت الحكومة التجربة، وللمرة الأولى زوّدت الرجال بالعلاج الطبي الفعّال لمرض الزهري. فريد جراي، المحامي الذي دافع عن روزا باركس ومارتن لوثر كنج سابقًا، رفع دعوى جماعية أدت إلى تسوية خارج المحكمة بتعويض 10 مليون دولار للرجال وعوائلهم. جراي، على أية حال، سمّى البيض فقط والمنظمات البيضاء كمتّهمين في القضية، مُصوِّّرًا توسكيجي كقضية سود وبيض، بينما هي في الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك- أطباء ومؤسسات سود كانوا متورطين من البداية حتّى النّهاية.
PHS لم يقبل مقارنة أجهزة الإعلام لتجربة توسكيجي بالتجارب المروّعة التي قام بها الأطباء النازيون على ضحاياهم اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك، بالأضافة إلى المطابقات الطبية والعنصرية، عرض PHS نفس الدفاع المفلس أخلاقياً الذي عُرض في محاكمات نوريمبيرج: ادعوا بأنّهم كانوا ينفّذون الطلبات فقط، مجرّد أسنان في عجلة PHS البيروقراطية، فهم معفيون من المسؤولية الشخصية.
إنّ التبرير الآخر للدراسة -لمصلحة العلم- زائف على حدّ سواء. البروتوكول العلمي كان رديئًا منذ البداية. بما أن الرجال في الحقيقة تلقوا بعض العلاج لمرض الزهري في بداية الدراسة، مهما كان ناقصًا، فقد فسدت نتيجة الدراسة عن “مرض الزهري غير المعالج”.
وحديثًا، طفت إلى السطح سنة 1999م قضية حقن مئات الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز على يد خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني، وقد توفي حتى الآن خمسون طفلاً ويعيش الباقون في مستشفى في منطقة معزولة تدعى الرحبة غرب مدينة بنغازي. وبعيدًا عن الأبعاد السياسية للقضية، فإن الفيروس الذي حُقن به الأطفال هو من سلالة مُعاد تركيب مكوناتها، أو معدلة وراثياً من النوع (GRfo2-AG)، حسب تقرير كومانديني. وهذه السلالة لايوجد تطابق لها مع أي نوع من أنواع السلالات المسجلة في مصرف الجينات، أي أنها حالة خاصة لم تسجل قبل إطلاقاً. وهذايؤكد أن الفيروس الذي كان مخبأ في الزجاجات التي وُجد بعضها في منـزل إحدى الممرضات اللواتي كن أداة تنفيذ لهذه المؤامرة. إن هذا الفيروس تم تصنيعه في معامل، وهذا لايمكن أن يتأتى لممرضة.
وقد اعترفت إحدى الممرضات وتُدعى كرسيتينا بأنها تلقت الفيروس من شخص يدعى جون لحقنه للأطفال مقابل مبلغ من المال، وأنه قال إن ذلك لغرض الأبحاث الطبية.
ولا نستبعد من هذه المعطيات أن تكون إحدى شركات الدواء وراء هذا العمل لإيجاد علاج أو تطعيم للإيدز أو التقدم في هذا الاتجاه، لأن مثل هذه التجارب يُمنع تطبيقها على البشر بموجب بيان هلسنكي.
الخلاصة:
وهكذا نرى أن النظام الرأسمالي (على عكس ما يظن المضبوعون بحضارة الغرب) أضر بالتقدم العلمي ونزاهة الأبحاث. وفي الحقيقة ليس الأمر كما يدعي الرأسماليون، من أن فكرة الربح والمنفعة المادية تشجع البحث العلمي والاكتشاف، فإن طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها هي التي تدفعه إلى الابتكار والاكتشاف والاختراع، علاوة على القيم المعنوية التي تحققها هذه الأعمال. والأدلة في التاريخ والحاضر كثيرة، فما الذي دفع العلماء المسلمين إلى الاختراع والاكتشاف؟ وما الذي دفع السوفييت والصينيين أيام المعسكر الشرقي إلى الاختراع بدون مقابل مادي، حتى إن كثيراً من هؤلاء العلماء فقراء معدمون!
ولقد لاحظ أحد الأطباء الأميركان الباحثين أن المكافأة المادية لها مفعول عكسي، وأنها لا تشجع على الابتكار بل على العكس تقلله، وأنها تجذب إلى الميدان أصحاب الميول المادية وليس أصحاب العقول الصافية المتخصصة. وقد نشر ذلك البحث في مجلة علمية مرموقة (Boston Medical Journal) ما أثار حفيظة دعاة الملكية الفكرية. وقد أشار أبو الطيب القنوجي في كتابه “أبجد العلوم” إلى خطر طلب العلم لأجل القيمة المادية فقط لا غير فقال: “على أنه من تعلم علمًا للاحتراف لم يأت عالمًا، إنما جاء شبيهًا بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد (أي لما صار للمُدرسين رواتب معلومة)، أقاموا مأتم العلم، وقالوا: “كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل، فيكون سبباً لارتفاعه، ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها”.
والدولة الإسلامية لن تكون بحاجة لمثل هذه القوانين لتشجيع الابتكار والاختراع؛ وذلك لأنها تتبنى عقيدة الإسلام ووجهة نظره في الحياة، فلا تقيس الحياة بالمادة، ولا يقيس رعاياها أعمالهم بالنفعية، وإنما توازن بين تحقيق القيم فتحدث التوازن في المجتمع وتحقق السعادة والرخاء لرعاياها كلهم، قويهم وضعيفهم، كما وأنها لا تقيس اقتصادها بالإنتاج أو معدلات النمو، بل بتحقيق جميع الحاجات الأساسية لكل فرد بعينه وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية.
وقد حثّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوي، والبحث عن الدواء، فقال عليه أفضل الصلاة والتسليم: «عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء» (رواه الترمذي)، وقال أيضاً: «ما أنزل الله داءً إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله» (رواه أحمد).
وبالرغم أن لجميع أفراد الرعية الحق في إنشاء المختبرات العلمية المتعلقة بكافة شؤون الحياة ومنها الطب، فإن على الدولة الإسلامية أن تقوم هي بإنشاء هذه المختبرات. وتهيئ الدولة المكتبات والمختبرات وسائر وسائل المعرفة في غير المدارس والجامعات لتمكين الذين يرغبون من مواصلة الأبحاث في الطب وسائر العلوم والمعارف، ومن مواصلة الاختراع والاكتشاف وغير ذلك، حتى يوجد في الأمة حشد من المجتهدين والمبدعين والمخترعين.
وقد حرّم الإسلام الغش، ومنه تزوير الأبحاث العلمية، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من غشّ فليس منا» (رواه الترمذي)، وفي رواية: «من غش فليس مني» (رواه مسلم).
هذه بعض الجوانب التي تلقي بعض الضوء على ظلام الرأسمالية وما سببته من عناء للبشر في مجال الطب والعلاج، ولم نذكر في هذا البحث ما أنتجته الحضارة الرأسمالية من أمراض جديدة نتيجة الحرية الشخصية والانحلال الخلقي، كمرض الإيدز، وما تسببت به مفاهيمها العفنة من أمراض نفسية عند من حملوها وعاشوا تحت ظلها، فحسب منظمة الصحة العالمية: 25% من سكان العالم اليوم يُعانون من مرض نفسي (وحسب إحصائيات أخرى، النسبة تصل إلى 50%). وما بين 10% إلى 15% من سكان العالم يُعانون من مرض الاكتئاب، ونسبة مُشابهة منهم يُعانون من مرض القلق.
إن الحديث عما انبثق عن هذا الأساس المهترئ والجذر المتعفّن من فروع متآكلة وثمار فاسدة يطول ولا ينتهي، ولا يكون العلاج إلا بقلع هذا الجذر من أصوله، واستبداله بشجرة الإسلام الطيبة، مستأنفين حياة إسلامية على نهج الحبيب المصطفى، تحت راية دولة الإسلام الثانية بإذن الله.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء 51]. [انتهى]
أبو الغيث – فلسطين
2008-05-27