المحنة والابتلاء
2016/09/26م
المقالات
2,388 زيارة
المحنة والابتلاء
بقلم: أبو ممدوح الربعي
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ).
ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ويقول في سورة الأنبياء: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ويقول في سورة الحجرات: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى).
إن كلمات الابتلاء والامتحان والفتنة تلتقي في معنى واحد وهو الامتحان والاختبار، فقد ورد استعمالها بهذا المعنى في القرآن الكريم في آيات كثيرة، وكذلك وضعها العرب واستخدموها في لغتهم لهذا المعنى.
إن الابتلاء سنة من سنن الله، فبتدبر آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ودراسة أحوال الناس والمجتمعات البشرية في
الأزمان المختلفة يتبين أن الله خلق كل الناس ليبتليهم، فالدنيا دار ابتلاء وليست دار جزاء، وعلى هذا فغاية المؤمن في هذه الحياة الدنيا إرضاء الله تبارك وتعالى، وذلك بالتزام أوامره سبحانه وتعالى فيحل حلاله ويحرم حرامه، والكف عن معاصيه، والعمل المتواصل لاجتياز الاختبار، وذلك بالإقبال على فعل الخيرات والإقلاع عن فعل السيئات وما يؤدي إليها، ليفوز بزحزحته عن النار وبدخوله الجنة، قال تعالى في سورة آل عمران: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ)، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ).
عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الكَيّس من دانَ نفسَه وعمِل لما بعد الموت، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هواها وتمنّى على الله الأماني» [رواه الترمذي وأحمد والحاكم بسند صحيح]، وروى البخاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال “ارتحلت الدنيا مدْبِرة، وارتحلت الآخرة مُقْبلة، ولكل واحدة منهما بَنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فكل أم يتبعها ولدُها، واليومَ عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل”.
إن الله تعالى قد كلفنا بالإيمان، والتكليف ابتلاء واختبار ليتبين مدى الإيمانِ والصبرِ والمقاومةِ للمنكرات، وقد أَقْدَرَ اللهُ كل إنسان على اختيار طريق الإيمان أو طريق الكفر، وجعله مسؤولاً عن اختياره: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، فمن اختار طريق الإيمان فقد ربح وفاز ونال السعادة يوم القيامة، ومن اختار طريق الكفر فقد خاب وفشل، ولا ينظرُ الله يوم القيامة إلى عمله سواء كان محسنا أو مسيئا، لأنه فَقَدَ الأصلَ لقبول الأعمال وهو الإيمان، فلا يتقدم إلى امتحان آخر ولا يتعرض لابتلاءات وامتحانات أخرى يثاب عليها أو يحاسب عليها يوم القيامة، لأنه اختار طريق الكفر وليس بعد الكفر ذنب: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
لقد قرر الله تعالى الابتلاء لكل من ينسب نفسه للإيمان ليظهر الصادقون من الكاذبين، وقد يكثر أدعياء الإيمان، والإيمان ليس مجرد دعوى، إنما هو تصديق جازم، ينطلق منه إقرار بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح. والمستقرئ للنصوص من القرآن والسنة وما جرى للرسل عليهم السلام وأتباعهم في حياتهم ومن بعدهم، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين، يجد أن هناك نوعين من الابتلاءات والامتحانات: الابتلاء الفردي. الابتلاء الجماعي.
أما الابتلاء الفردي فهو كفقدان عزيز، أو مرض عُضال، أو فقدان جزء من الجسم، أو ذهاب الأموال. وقد يبتلي اللهُ المؤمنَ بشيء قد لا تقبل به النفس كذبح الولد أو مفارقة بلده، وأهله وأقاربه، فكلها ابتلاءات صعبة يبتلي الله عز وجل المؤمنين بها لحِكَمٍ كثيرة وجليلة، وفوائد تعود على المؤمن المبتلَى وعلى الناس، إن هم اتعظوا واعتبروا، كتكفير السيئات والخطايا ورفع المنزلة لتحمله وصبره، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمٍّ، حتى الشوكةُ يُشاكها إلا كفّرَ الله بها خطاياه»، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يُشاك شوكةً فما فوقَها إلا كُتِبَ له بها درجةٌ ومحيت عنه بها خطيئة»، ومن فوائد الابتلاء أنه ينقي النفوس من الشوائب، والقلوبَ من الرياء، والعملَ من الشرك. وكذلك فان الابتلاء يظهر الناس على حقيقتهم، فمن الناس من يدعي الصبر وليس بصابر، ويدعي الزهد وليس بزاهد، فمن هنا كان الابتلاء لتمييز أصحاب الهمم العالية والنفوس القويمة والعزائم الفتية المؤمنة والقلوب الواعية المخلصة، من أصحاب الهمم الضعيفة والنفوس الساقطة والعزائم الخائرة والقلوب المريضة، فهنيئا للشاكرين على عطاء الله والصابرين على الابتلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن فان أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شَكَرَ فكان خيرا له، وإن أصابته ضَرّاءُ صبر فكان خيرا له».
أما النوع الثاني من الابتلاءات فهو الابتلاء الجماعي الذي يكون نتيجة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فأولياء الرحمن هم حَمَلَةُ الدعوة يقومون بالدعوة إلى الله، ومحاربة الشرك، وإبطال عبادة غير الله. انهم يعملون ليلاً ونهاراً لاستئناف الحياة الإسلامية ولتحكيم شرع الله في واقع الحياة، يأمرون بالمعروف ويَنهوْن عن المنكر ويسعوْن إلى إقامة حكم الله في الأرض، لتخليص العالم من الفسق والفجور وقبائح الأمور التي نتجت من تطبيق الأحكام الوضعية.
إن أولياء الشيطان يدركون الخطر من حَمَلَة الدعوة عليهم وعلى سلطانهم وامتيازاتهم التي سرقوها في غفلة من الأمة، فهم يهددون مصالحهم ويزعزعون ثقة الناس بزعامتهم ويعملون لاستئصالهم.
إن هؤلاء الطواغيت والذين يسيرون في رَكْبهم – الظانين أنهم مستهدَفون معهم – يقفون في وجه حملة الدعوة ويقاومونهم مقاومة شرسة، ويشنون عليهم حربا لا هوادة فيها ولا رحمة.
هذا هو الطريق: إيمان وجهاد وامتحان وفتن وابتلاءات، يقابله من حملة الدعوة صبر وثبات وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر، انه مدخر لمن يستحقونه ولن يستحقه إلا الذين يثبتون على البأساء والضراء حتى النهاية، لا يحْنون رؤوسهم للعاصفة، يهبهم الصراع والصبر عليه قوة حتى إذا ثبتوا انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المعاندين، سنة الله في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة.
أثناء الصراع المحتدم بين الحق والباطل تحدث فتن وامتحانات متعددة في صورها وأنواعها تلحق بحملة الدعوة منها:
1- التهديد بالأذى، وأساليبُهُ كثيرة، منها التهديد بالضرب والرجم والسجن والنفي والقتل والتنكيل والتهديد بالرزق.
2- الإغراء بالجاه والمال والسلطان فكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة الدين ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل، فهو مثل لا ينقطع وما هو بمحصور في قصة وقعت ولا في جيل من الزمان.
3- إلحاق الأذى الجسماني سواء في السجن أو خارجه لإكراه حملة الدعوة على التراجع عن موقفهم ومبدئهم، ولترك الدعوة والتكتل ولإذلالهم، ولابتزاز المعلومات منهم عن التكتل، ولإرهاب الناس وتخويفهم من حمل الدعوة. ومن أساليبهم في إلحاق الأذى، التعذيبُ بالنار والخنق وإلقاء القاذورات والضرب ونزع اللحم عن العظم والنشر بالمنشار والتغطيس في الماء والبصق في الوجه والربط بالحبال. هذه صور من التعذيب في عصر الجاهلية، وما يجري لحملة الدعوة في أيامنا هذه من أولياء الشيطان الذين تفننوا في اختراع الوسائل للتعذيب. ويتعرض حملة الدعوة لشتم الرب تبارك وتعالى وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم وشتم الآباء والأمهات والنيل من الأعراض وقلع الأظافر وتكسير العظام ونفخ الإنسان ونتف اللحية وإجلاس الإنسان على شيء حاد وسجنه مع الكلاب وتعذيبه بالكهرباء وإذابته بالأحماض.
4- النفي والتشريد فأسلوب الإخراج والإبعاد عن البلد والأهل أسلوب درج عليه أهل الباطل قديما وحديثا.
5- مصادرة الأموال، فصهيب وخباب صودرت أموالهما لثباتهما على الإيمان وحمل الدعوة.
الحملات الإعلامية التي يشنها أهل الباطل وأعوانهم لتشويه صورة حَمَلَة الدعوة، وخاصة عند الذين لا يعرفونهم، ولتنفير الناس منهم ولإقناع الناس بعدم التعاون معهم، ولتشكيك الناس في صدق الدعوة وحَمَلَتِها. ويهدفون من هذه الحملات الإعلامية المسمومة والدعايات المغرضة، أن يشنوا حربا على التكتل وقيادته وأفراده هادفين إلى تمزيق صفه وتفتيته وتدميره من الداخل، وذلك بتحسس مواطن الضعف في نفوس بعض من ينتمون إلى هذا التكتل لتشويش صورة تكتلهم وقيادتهم. فيعملون على شق الصف وزرع بذور الاختلاف والتنازع، الذي يؤدي إلى الفشل، والفشل يؤدي إلى ذهاب قوة الجماعة واندثارها قال تعالى في سورة الأنفال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). فالمطلوب من حامل الدعوة إذا سمع خبرا أن يبلغه إلى قيادته لتتخذ القرار المناسب الذي يخدم الدعوة، يقول الله تعالى في سورة النساء: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فالإشاعة تؤدي إلى خلخلة الصف وتمزيقه، فعلى حامل الدعوة أن يحرص دائما على أن تستمر صلته بقيادته وألا يقطع هذه الصلة مهما كانت الظروف والأحوال، فبقاء الاتصال فيه خير كثير، ولقد ظهر هذا الموقف جليا في غزوة أحد، لقد اضطرب موقف المسلمين وتفرقوا لهول الصدمة ومفاجأتها، ولكن سرعان ما التأم شملهم وتجمعوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاطوا به.
6- التصفية الجسدية فما من رسول من الرسل إلا وحاول قومه قتله بعد عجزهم عن صده بكل الوسائل والأساليب، وهذا الأسلوب كثر استخدامه في زماننا، فما من حامل دعوة تعجز أنظمة الكفر عن إضلاله وإغرائه وإرهابه إلا ويقررون التخلص منه، إما بوضع السم له، أو بإرسال من يقتله غيلة، أو يقدم إلى محاكمة صورية يحكم عليه بالإعدام وينفذ على الفور.
إن تسلط الفئة الظالمة والطواغيت في فترة من الفترات لا يعني أن الله معهم وينصرهم، فالله لا ينصر أعداءه، وإنما هو إملاءٌ للظالمين إلى أَجَل، قال تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، وهو ابتلاء للمؤمنين في الأصل، واختبار لهم ليميز الخبيث من الطيب، والكافر من المؤمن، والكاذب من الصادق.
إن أخطر ما يصيب التكتل في مرحلة الابتلاء وجود المتسرعين غير المنضبطين، إذ يَجرّون التكتل إلى اصطدام يؤدي إلى الفشل، فعلى التكتل أن يكون حازما مع هؤلاء، وعلى حملة الدعوة أن يوطنوا أنفسهم على هذه الابتلاءات، وأن يستعدوا لتجاوزها بعزائم قوية وقلوب مؤمنة بالنصر، فالصبر على الابتلاء والمحن والفتن مهما طال، سيُخْتَم بالنصر الذي وعدنا الله به، وستكون العاقبة للمؤمنين لقوله تعالى في سورة هود مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قص عليه قصة نوح وصراعه مع قومه، وصبره عليهم: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
اسأل الله تبارك وتعالى جلت قدرته، وعزت عظمته أن يثبتنا على طريق الإيمان، وأن يقبضنا إليه غير فاتنين ولا مفتونين، ولا ضالين ولا مضلين،وأن يجعلنا دائما من حملة الدعوة وحماتها، وأن يكرمنا بالمساهمة الفعالة التي توصل إلى الغاية المستهدفة وبشهود تحقيق تلك الغاية، وأن يجعلنا من رجال دولة الخلافة، والمشيدين لأركانها وما ذلك على الله بعزيز، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2016-09-26