(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) مع القرآن الكريم
2016/09/26م
المقالات
3,380 زيارة
مع القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) أي جاهدوا الكفار فينا أي في طلب مرضاتنا. قال السدّيّ وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال. قال ابن عطية: فهي قبل القتال العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته. وقال أبو سليمان الدارانيّ: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله. قال سفيان بن عُيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ). وقال الضحّاك: والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الإيمان. ثم قال: مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، كذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) أي طريق الجنة، قاله السدّيّ. قال النقاش: يوفقهم لدين الحق. وهو معهم سبحانه بالنصرة والمعونة والحفظ والهداية ومع الجميع بالإحاطة والقدرة.
وقد افتتحت سورة العنكبوت بتذكير الناس بالابتلاء والاختبار: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ@ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). وفيها تسلية للمستضعفين من المسلمين الذين كانت تضطهدهم قريش، وتعليم للعاملين في سبيل الله إلى يوم القيامة، أنهم سيلاقون العنت والصدّ من أقوامهم، وليبلَوُنّ في أموالهم وأنفسهم، فعليهم الصبر والثبات حتى يأذن الله بنصره. روى البخاري عن خبّاب بن الأرَت: “قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتوسّدُ بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا: فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشّط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه. ولكنكم تستعجلون»” وروى سعد بن أبي وقاص قال: “قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة»”.
وقد اختتمت السورة بتبشير المؤمنين الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه، الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوه، فلم ينكصوا ولم ييأسوا، صبروا على فتنة الناس، وفتنة النفس، الذين حملوا أعباء الدعوة إلى الله، وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق، يبشرهم بأنه تعالى لن يتركهم وحدهم، ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضى عنهم، وسينظر إلى جهادهم فيه فيهديهم أحسن السبل، وسينظر إلى محاولتهم الوصول إلى تحقيق غايتهم فيأخذ بأيديهم ويوفقهم إلى غايتهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجزيهم خير الجزاء: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) وهذا المعنى يتكرر في القرآن الكريم في سور متعددة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
أما متى يكون ذلك وكيف يكون، فالعلم عند الله وحده: فسيدنا موسى عليه السلام دعا على فرعون وملئه: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فاستجاب ربه له: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)، وجرى إغراق فرعون وزمرته بعد أربعين سنة من الدعاء فيما رواه الطبري. وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم باشر بحمل الدعوة إلى الله منذ نزل عليه الوحي، وجاهد في الله حق جهاده، ولم يأته النصر بإعزاز دين الله إلا في السنة الثالثة عشرة للبعثة على أيدي الأنصار رضوان الله عليهم. ولهذا فلا يستبطئن أحد النصر، ولا يرتابنَّ أحد في صدق العاملين في حمل الدعوة، واستقامة الطريق، ما دام النصر لم يتحقق بإقامة دولة الخلافة الراشدة، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ووعد الله حق: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ) .
2016-09-26