سياسة إدارة المصالح في دولة الخلافة
1999/01/25م
المقالات
1,988 زيارة
إن الخلافة على منهاج النبوة قائمة بإذن الله بعد هذا الملك الجبري وإمارة الصبيان، وقد بشرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها الصحيح ومنها الحسن. ولسنا هنا بصدد سردها وبيان وجه الدلالة فيها، وإنما نريد أن نبين بإيجاز سياسة إدارة المصالح التي ستكون موضع التنفيذ إن شاء الله. والغرض من الكتابة الآن لفت نظر القراء الكرام إلى الفرق الكبير والبون الشاسع بين سياسة إدارة المصالح في دولتهم الإسلامية، وبين ما يلاقيه الناس اليوم من عناء، سواء في الدول المختلفة، أو ما يقال عنها أنها دول متقدمة تنادي بحقوق الانسان وتتشدق بالعدل والمساواة.
سياسة إدارة المصالح يجب أن تقوم على أسس ثلاثة: اليُسْر لا التعقيد، والسرعة لا الإقراد، والكفاءة لا الوساطة.
أولاً: اليسر
ويعني البساطة في النظام وعدم التعقيد. وهو وإن كان سبباً في السرعة وعاملاً من عوامهلا، إلا أنه ليس هي وإن أدى إليها. فمن التعقيد الطلبات والشاوى التي تحتاج إلى طوابع ورسوم تثقل على الرعية، وقد لا يستطيع البعض دفعها حين تكون الرسوم عالية، كرسوم بعض المحاكم، وتكاليف المحامين. وحتى في الدول التي تزعم أنها متقدمة وتحافظ على حقوق الإنسان، فإن الناس فيها لا يستطيعون دفع هذه الرسوم والتكاليف، ناهيك عن أن البت في بعض القضايا قد يستغرق سنوات.
أما في دولة الخلافة فإنه لا طوابع ولا رسوم ولا تعقيدات، فالدولة لا تلزم الرعية بالتنقل من دائرة إلى دائرة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن جبل إلى جبل، لإتمام معاملة واحدة، بل توفر ذلك كله في مكان واحد ودائرة واحدة دون تكاليف، بل إنها ستحاول أن يكون البت في الطلب أو القضية من قبل موظف واحد ما أمكن، دون أن تحوج المراجع إلى التردد بين عدد من الموظفين.
هذا إذا لم تتبن الدولة نظام النقابة على ذوي الأنساب وسائر القبائل والتجمعات السكانية عرباً وعجماً، وتسند إلى النقباء والعرفاء كثيراً من هذه الأعمال مما يسهل على الناس مراجعة نقيبهم أو عريفهم في مدينتهم أو محلتهم. وهذا النظام قد هجره الناس مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طبقه واعتمده وطبقه الخلفاء من بعده، ولو لم يكن له إلا ميزة واحدة هي منع تسلل غير معروف النسب بل غير المسلم إلى المراكز الحساسة في الدولة لكان حرياً أن يرجع الناس إليه، فإنه ممكن، والصعوبة تكون في بدء إعادة العمل به فقط. ولا يقال إن هذا التنظيم من العصبية، لأن المقصود به ضبط الأمور فقط دون التعصب، وممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم له يدل على جوازه، فقد كانت لكل قوم رايتهم، ولكل قوم منازلهم، وكذلك الصحابة فعلوه عندما كانوا يختطون مدينة جديدة كالكوفة، فقد ذكر الطبري في تاريخه منازل القبائل عندما اختطوا الكوفة. وقد فصل الماوردي في الأحكام السلطانية عمل النقيب نقابة خاصة والنقيب نقابة عامة. والدولة لها أن تتبنى من هذا النظام ما لا يخالف الأححكام الشرعية التي تتبناها، وكثير من الناس اليوم لا زالوا يعرفون أنسابهم وقبائلهم، عرباً كانوا أو عجماً.
ومما يتعلق بالتيسير على العباد والبساطة في النظام عدم اتخاذ البوابين والحجبة، فقد روى أحمد في مسنده عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وليس من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة». وأخرج أحمد أيضاً في مسنده بإسناد صحيح عن أنس يقول لامرأة من أهله: تعرفين فلانه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها وهي تبكي على قبر، فقال لها: اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لا تبالي مصيبتي. قال ولم تكن عرفته. فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بها مثل الموت، فجاءت إلى بابه، فلم تجد عليه بواباً، فقالت: يا رسول الله إني لم أعرفك. فقال: «إن الصبر عند أول صدمة».
وأخرج ابن الجوزي في المنتظم بإسناده عن أبي عثمان وأبي الحارثة وأبي المجالد قالوا: كان عمر بن الخطاب إذا بعث عماله يشترط عليهم أن (لا يتتخذوا على المجالس التي تجلسون فيها للناس باباً). وأخرج الطبري في التاريخ وأحمد في المسند واللفظ له عن عباية بن رفاعة قال: بلغ عمر أن سعداً لما بنى القصر قال: انقطع الصويت. فبعث إليه محمد بن مسلمة فلما قدم أخرج زنده وأورى ناره، وابتاع حطباً بدرهم، وقيل لسعد إن رجلاً فعل كذا وكذا، فقال ذاك محمد بن مسلمة. فخرج إليه فحلف بالله ما قاله. فقال:نؤدي عنك الذي تقوله، ونفعل ما أمرنا به، فأحرق الباب.ثم أقبل يعرض عليه أن يزوده فأبى. فخرج، فقدم على عمر. فهجَر إليه. فسار ذهابه ورجوعه تسع عشرة. فقال: لولا حسن الظن بك لرأينا أنك لم تؤد عنا. قال بلى أرسل يقرأ السلام ويعتذر، ويحلف بالله ما قاله. قال: فهل زودك شيئاً؟ قال: لا. قال فما منعك أن تزودني أنت؟ قال إني كرهت أن آمر لك فيكون لك البارد ويكون لي الحار وحولي أهل المدينة قد قتلهم الجوع وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يشبع الرجل دون جاره» انتهت رواية أحمد، وهذه الحادثة رواها الطبري في أحداث السنة السابعة عشرة وكأنها في أواخرها وكانت المجاعة قد بدأت لأنها كانت في السنة الثامنة عشرة والتي سميت عام الرمادة. وأخرج ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم واللفظ له عن عاصم بن حدره وقيل ابن حدرد قال: (لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بواب قط…». وأخرج أحمد والترمذي وقال غريب أن عمرو بن مرة الجهني قال لمعاوية: يا معاوية إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله عز وجل أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته» قال فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس. فيتبين مما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له حاجب ولا بواب وكذلك عمر، ويفهم من حديث معاذ الذي أخرجه أحمد وحديث عمرو بن مرة الجهني الذي أخرجه أحمد والترمذي تحريم اتخاذ الحاجب أو البواب.
أما ما ذكره خليفة في تاريخه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأذن عليه أنس مولاه، وأن أبا بكر كان حاجبه رشيد مولاه، وأن عمر كان حاجبه يرفأ مولاه، وأن عثمان كان حاجبه حمران بن أبان مولاه، وأن علياً كان حاجبه قنبر مولاه. وما أخرجه البخاري وأحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في حلقة من حلق الأنصار فلم يؤذن لي فرجعت وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع». الحديث، وما أخرجه البزار عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان كلما صلى صلاة جلس للناس، فمن كانت له حاجة كلمه وإلا قام، فحضرت الباب يوماً فقلت يا يرفأ، فخرج وإذا عثمان بالباب فخرج يرفأ فقال: قم يا ابن عفان قم يا ابن عباس فدخلنا على عمر وعنده صبر من مال. هذه الآثار لا تدل على أن رسول الله والراشدين من بعده اتخذوا حجاباً أو بوابين، لأنهم كانوا يديرون شؤون الناس في المساجد، وهذه الآثار كانت في بيوتهم لا في المسجد، والبيوت أماكن خاصة وحياة خاصة لا مانع من اتخاذ البوابين فيها، ثم إن من ذكروا كانوا من مواليهم ويعيشون معهم وليسوا موظفين، وهكذا يفهم كل أثر من هذا القبيل.
ثانياً: السرعة في الإنجاز
أخرج ابو نعيم في الحلية بإسناده عن ابي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إياكم والإقراد، قلنا يا رسول الله وما الإقراد؟ قال: يكون أحدكم أميراً أو عاملاً فتأتي الأرملة واليتيم والمسكين فيقال اقعد حتى ننظر في حاجتك، فيتركون مقْرِدين لا تقضى لهم حاجة ولا يؤمرون فينصرفوا، ويأتي الرجل الغني الشريف فيقعده إلى جانبة، ثم يقول: ما حاجتك؟ فيقول حاجتي كذا وكذا. فيقول: اقضوا حاجته وعجلوا). وأخرج ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن أبي بن أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته. وأخرج ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني. فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم؟! ثم أرسل إلى خوله بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله. قال فأفرضته. فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك. فقال: أولئك خيار، الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه غير متعتع. وأخرج أحمد والبخاري عن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبه فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وروي عن ابن شوذب قال: قال عمر رضي الله عنه: أيها الناس لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إن فعلتم ذلك تداركت عليكم الأعمال، فلم تدروا بأيها تبدأون ما ضيعتم. وأخرج البخاري عن أسلم قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله ما ينضجون كراعاً، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن أيماء الغفاري وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر، ولم ينض ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وحمل بينهما نفقة وثياباً ثم ناولها بخطامه ثم قال: إقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمك والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهماننا فيه.
هذه الأحاديث والآثار توضح بجلاء أن السرعة في إنجاز الأعمال من السنة، وأن الإقراد حرام.
ثالثاً: الكفاءة
هناك حقيقة ثابتة عند جميع الناس، وليس عند المسلمين فحسب، وهي أن حسن اختيار الكفاءات المختلفة للقيام بالأعمال المختلفة هو من علامات البناء الصحيح للمجتمع، وأن من علامات فساد المجتمع وانحطاطه عدم توخي الكفاءة فيمن يسند إليه العمل، ففي مثل هذه المجتمعات المتخلفة يختار للعمل من ليس كفؤاً بناء على مقاييس لا علاقة لها بالكفاءة، من هذه المقاييس: القرابة والمحسوبية والحزبية والولاء للكفار وخصاة الدول المستعمرة، وفي البلدان الاسلامية مقدار العداء للاسلام ودرجة والولاء للحكام، ومدى المداهنة في الدين وما يسمى بالاعتدال، وتقبل مفاهيم الكفر وقيمه، والسكوت عن الحق، والرضى بالمنكر، وعدم الاشتغال بالسياسة، والقعود عن التغيير، والاكتفاء بالدون من العيش، والقياس بالمنفعة والمصحلة لا بالحلال والحرام، حتى تحول الناس في الغالب إلى عبيد ونسوا تفكير السادة الأحرار.
واختيار الأكفاء يحتاج إلى معرفة الرجال، وهي مهمة صعبة تحتاج إلى بصيرة ونظر ثاقب، حتى لا يخطئ صاحب الصلاحية فيفشل العمل، وهذا لازم لكل صاحب صلاحية في الحكم أو في الإدارة. ومع أن موضوعنا هو سياسة إدارة المصالح إلا أن اختيار الأكفاء أمر مشترك بينهما، فنجد عمر بن الخطاب قال يوماً لجلسائه تمنوا، فقال بعضهم أتمنى ملء هذا البيت فضة أنفقه في سبيل الله وقال آخر ذهباً وقال آخردراً. فقال عمر: لكني أتمنى ملأه رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذ وحذيفة أستعملهم في طاعة الله.
وينبغي ألا يستعمل صاحب الصلاحية أهل السوابق السيئة، أخرج أحمد في المسند عن حذيفى قال: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً قال: «إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة، قاتلهم أهل تجبّر وعداوة فأظهرم الله عليهم ـ يعني أهل الضعف ـ فعمدوا إلى أهل التجبر وهم عدوهم، فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة». وأخرج أبن الجوزي في المنتظم عن الشعبي قال: كتب أبو بكر إلى خالد وعياض «أن استنفروا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغزون معكم أحد ارتد، حتى أرى رأيي» فلم يشهد الأيام مرتد. وأخرج ابن عساكر عن أبي عثمان: أمر أبو بكر خالداً أن ينزل تيماء ففصل ردءاً حتى ينزل بتيماء، وقد أمره أبو بكر أن لا يبرحها وأن يدعو من حوله بالإنضمام إليه ولا يقبل إلا ممن لم يرتد. وتبع عمر هذه السياسة فقد ذكر الطبري في التاريخ: وقالوا جميعاً: لا يستعين أبو بكر في الردة ولا على الأعاجم بمرتد، واستنفرهم عمر ولم يولّ منهم أحداً. فأبو بكر لم يستنفر ولم يولّ وأسقطهم من الاعتبار كلياً، أما عمر فاستنفر ولم يولّ.
وفي المقابل فإنه يجب أن يحفظ لأهل المواقف المحمودة مواقفهم، صحيح أنهم إنما عملوا لله، ومن عمل منهم لغير ذلك فالله حسيبه، الا أن الصحابة حفظوا مثل هذه المواقف. ذكر ابن الجوزي في المنتظم عن ابن إسحق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعص الزبرقان بن بدر السعدي على صدقات قومه بني سعد بن زيد بن مناه، وبعث مالك بن نويرة الحنظلي على صدقات بني حنظلة، وبعث عدي بن حاتم على صدقات طيء. فبلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانوا قبضوا الصدقات. فأما مالك بن نويرة فإنه ردها إلى قومه، وأما عدي والزبرقان فإن قومهما سألوهما أن يرداها عليهم فأبيا وقال: لا نرى إلا أنه سيقوم بهذا الأمر قائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك دفعناها إليه، وإن كان غير ذلك فأموالكم في أيديكم. فأمسكا الصدقة حتى قدما بها على أبي بكر. فلم يزل لهما بذلك شرف على من سواهما من أهل نجد. وكانت تلك الصدقة مما قوي بها أبو بكر على قتال أهل الردة. وقد كان المسلمون يحفظون لعدي هذا الموقف، روى البخاري وابن عساكر عن عدي قال: أتيت عمر في وفد فجعل يدعو رجلاً رجلاً يسميهم فقلت أما تعرفني يا أمير المؤمنين قال بلى أسلمت إذ كفروا وأقبلت إذ أدبروا ووفيت إذ غدروا وعرفة إذ أنكروا. وقال عثمان لحاجبه: لا تحجبه واجعله أو من تدخله فلعمري إنا لنعرف حقه وفضله، ورأي الخليفتين فيه فقد جاءنا بالصدقة يسوقها والبلاد تضطرم كأنها شعل نار من أهل الردة فحمده المسلمون على ما رأوا منه. وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار خيراً فكان صالحو المسلمين يحفظون هذه الوصية. روى أحمد بإسناد صحيح عن علي بن زيد قال: بلغ مصعب بن الزبير عن عريف الأنصار شيء فهمّ به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استوصوا بالأنصار خيراً أو قال معروفاً، إقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم فألقى مصعب نفسه عن سريره وألزق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين» فتركه.
ومما ينبغي لصاحب الصلاحية أن ينتبه إليه أن لا يولي معجباً برأيه، ولا من فيه تيه، ولا من يغمط النسا ويبطر الحق، فإن هذه الصفات تخرم الكفاءة، وقد عزل عمر بن عبد العزيز خالداً بن الريان لأن فيه شيئاً مما ذكر، ولا حاجة للتطويل في قصته. بل يولي ويستعمل من يعرف للناس فضلهم وأقدارهم كما فعل المأمون عندما اختار قاضياً لحمص فاختار الذي لا يعمط ولا ينتقص ويظهر ما يعمله من خير في الناس. ذكر ابن عساكر قال: لما أن وجه المأمون إلى جماعة من أهل حمص ليخرجوا إليه إلى دمشق فوقع اختياره على أربعة من الشيوخ بحمص هم: يحيى بن صالح الوحاظي، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وعلي بن عياش، وخالد بن خلي. فأشخصوا إلى دمشق، فأدخلوا على المأمون رجلاً رجلاً، فأول من دخل عليه أبو اليمان الحكم بن نافع، فساءله يحيى بن أكثم وحادثه، ثم قال له: يا حكيم ما تقول في يحيى بن صالح؟ قال فقلت له: أورد علينا من هذه الأهواء شيئاً لا نعرفه. قال فما تقول في علي بن عياش؟ قال قلت: رجل صالح لا يصلح للقضاء. فما تقول في خالد بن خلي؟ فقال: أنا أقرأته القرآن، فأمر به فخرج. ثم دخل يحيى بن صالح وحادثه ثم قال له يحيى: ما تقول في الحكم بن نافع؟ قال: شيخ من شيوخنا مؤدب أولادنا. قال فما تقول في علي بن عياش؟ فقال: رجل صالح لا يصلح للقضاء. قال فما تقول في خالد بن خلي؟ قال: عني أخذ العلم وكتب الفقه. قال فأمر به فخرج. ثم دعي علي بن عياش فدخل عليه فساءله وحادثه ساعة ثم قال له: يا علي ما تقول في الحكم بن نافع؟ قال فقلت له: شيخ صالح يقرأ القرآن. قال فما تقول في يحيى بن صالح؟ قال: أحد الفقهاء. قال فما تقول في خالد بن خلي؟ قال: رجل من أهل العلم، ثم أخذ يبكي فكثر بكاؤه، ثم أمر به فأخرج. ثم دخل عليه خالد بن علي، فساءله وحادثه ساعة، فقال له: ما تقول في الحكم بن نافع؟ فقال: شيخنا وعالمنا ومن قرأنا عليه القرآن وحفظنا منه. قال فما تقول في يحيى بن صالح؟ قال فقلت: أحد فقهائنا ومن أخذنا عنه العلم والفقه، قال فما تقول في علي بن عياش؟ قال: رجل من الأبدال إذا نزلت بنا نازلة سألناه فدعا الله فكشفها، فإذا أصابنا القحط واحتبس عنا المطر سألناه فدعا الله فأسقانا الغيث. قال ثم عمد يحيى بن أكثم إلى ستر رقيق بينه وبين المأمون رفعه فقال له المأمون: يا يحيى هذا يصلح للقضاء فوله. قال فأمر بالخلع فخلعت عليه فولاه القضاء.
ومن شروط الكفاءة أن يكون قوياً أميناً، رحيماً بالناس، صابراً على أذاهم، لا يؤثر ذا قرابة، ولا ينتقم لنفسه، بصيراً خبيراً بما يسند إليه، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وهناك صفات خاصة بأنواع الحكام والمديرين والموظفين تختلف باختلاف مهامهم، وبسط الكلام فيها يحتاج إلى مؤلف خاص، وليس هنا موضعه.
عبد الرحمن العقبي
1999-01-25