غـزوة الرجيع
1999/05/25م
المقالات
2,604 زيارة
بعد القرح الذي أصاب المسلمين في أحد، كان لا بد من تحركات عسكرية ترفع معنويات المسلمين، وتردع الكافرين عن التفكير في الاعتداء على المسلمين، وتعيد الهيبة إلى نفوس اليهود والمشركين من محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الأكرمين. وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني أسد، وعلى رأسهم طليحة وأخوه سلمة قد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سلمة، وكان أصيب يوم أحد، بجرح في عضده، ولكنه شفي منه، وعقد له لواء سرية من مائة وخمسين من المسلمين. وقال له: سر حتى تأتي أرض بني أسد، فأغِر عليهم، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وكان ذلك في المحرم من السنة الرابعة للهجرة. فلما وصل المسلمون إلى أرض بني أسد، تفرقوا وتركوا الكثير من الإبل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم ثلاثة مماليك، وقفل راجعاً إلى المدينة، وقد غاب أبو سلمة رضي الله عنه عن المدينة بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات في أواخر جمادى الأولى، وبعد انقضاء عدة أم سلمة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبدلها الله خيراً منه.
ثم كان يوم الرجيع، وقد اختلف البخاري وابن إسحاق في روايتيهما للوقعة، فروى البخاري عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمّر عليهم عاصم بن ثابت … فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم …. فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألاّ نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق فلما أعطوهم العهد والمـيـثـاق، نزلـوا إليهم، فلما اسـتمـكـنـوا منهم حَـلّوا
أوتار قسيّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرّوه، وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه؛ وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحدّ بها، فأعارته، قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه، حتى إذا أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. وكانت تقول ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ من ثمره، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقاً رزقه الله. فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزعٌ من الموت لزدت. فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً. ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يـبــاركْ عـلــى أوصــال شـلــوٍ مـمــزَّع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله. وروى البخاري أن عددهم كان عشرة.
أما ابن إسحاق فقال: حدّثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أحد، رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه. قال ابن إسحاق أن أمير القوم كان مَرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب. قال ابن إسحاق فخرجوا معهم حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل، غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلاّ الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فاخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم إنا والله، ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأما عاصم واثنان من أصحابه، فرفضوا عرض المشركين، وقاتلوهم حتى استشهدوا جميعاً. فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد، لئن قدرت على رأس عاصم، لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدَّبْر، فلما حالت بينهم وبينه، قالوا دعوه حتى يمسي فيذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادي، فاحتمل عاصماً فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى الله عهداً أن لا يمسّه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً تنجساً، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسّه مشرك، ولا يمسّ مشركاً أبداً، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته. أما الثلاثة الآخرون، خبيب وزيد وثالثهم، فلانوا ورقّوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم، فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران، انتزع الثالث يده من الوثاق، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، ودُفن بالظهران. أما خبيب وزيد، فباعوهما مـن قريش، فأما خبيب فابتـاعـه بنو الحـارث بن عامر بن نوفل كما في رواية البخاري، وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه، قال أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي. يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. إذ كانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه، فاضطجع لجنبه، زالت عنه.
وأورد ابن إسحاق أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان استعمل سعيد بن عامر على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية، وهو بين ظهرَيْ القوم، فذكر ذلك لعمر، فاستدعاه عمر فسأله: يا سعيد، ما هذا الذي يصيبك؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قُتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي، وأنا في مجلس قط، إلا غشي عليْ فزادته عند عمر خيراً. وكان عمر يقول: من سرّه أن ينظر إلى رجل نسيج وحده، فلينظر إلى سعيد بن عامر. وبذلك يبدو أن هناك خلافاً فيمن دعا على الكفار، هل هو خبيب بن عدي، أم زيد بن الدثنة، رضوان الله عليهما.
وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام @ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد @ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد @ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد )@ يعني تلك السرية، شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله، والقيام بحقه، حتى استشهدوا على ذلك، رضوان الله عليهم جميعاً .
1999-05-25