أدب الخـطـاب في الإســلام
1999/05/25م
المقالات
2,135 زيارة
يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إنّ الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم – لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )-.
روى ابن إسحاق في سبب نزول هاتين الآيتين أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، أن يضرب حول المدينة خندق، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفره، وعمل معه المسلمون، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين رجال من المنافقين، وجعلوا يتظاهرون بالعمل القليل، ويتسللون إلى أهلهم بغير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذنه، أما المسلمون، فكان إذا نابت أحدهم نائبة، من الحاجة التي لا بُدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان فيه من العمل، رغبة في الخير، واحتساباً له. فأنزل الله في المؤمنين الآية الأولى، وأنزل في المنافقين الآية الثانية.
وهذا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فأمرهم بالاستئذان عند الانصراف، إذا كانوا في أمر جامع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كل ما تجمع له الناس نحو الجهاد والتدبير في الحرب، أو اجتماع في مشورة أو في صلاة عيد أو جمعة أو جماعة، وجعل هذا الاستئذان، عند الضرورة، مصداقاً لصحة الإيمان بالله ورسوله: (إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله). فجعل من كمال الإيمان الاستئذان قبل الانصراف، وهو من الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا إذا اسـتقرت في حياتها، فتصبح تقليداً متبعاً، وسجيّة نافذة، وإلاّ فهي الفوضى التي لا حدود لها.
وهذا ليس خاصاً بالجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عام في كل جماعة لها أمير، اجتمعت على أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين، فيندب الاستئذان من أمير الجماعة قبل الانصراف، ولا يكون الاستئذان إلاّ عند الحاجة، وجعل أمر قبول الاستئذان أو رفضه إلى الأمير، إن شاء أذن، وإن شاء رفض، وذلك متروك لتقديره للحاجة التي جرى الاستئذان من أجل قضائها، كما أنه متروك لتقدير الأمير للشخص صاحب الحاجة، هل هو صادق في استئذانه، أم أنه يتعلل بها لدوافع أخرى.
فقد عاتب الله رسوله الكريم، حين أذن لبعض المخلّفين بعدم الالتحاق بجيش العسرة، وقبل منهم ظاهرهم، وترك أمرهم إلى الله، فقال تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )-.والطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لمن أراد الاستئذان، دليل على أن الأفضل أن لا يستأذنوا، وأن يواصلوا مقامهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُقضى الأمر الذي اجتمعوا له.
ثم أرشد في الآية الثانية إلى أدب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن يكون فيه توقير وتبجيل لرسول هذه الأمة. قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، قال: فقولوا يا نبي الله، يا رسول الله. وهكذا قال مجاهد وابن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يُهاب نبيه، وأن يبجّل وأن يعظّم وأن يُسوَّد. وقال مقاتل: لا تُسموه إذا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا يا أبا عبد الله، ولكن شرّفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض، كما قال تعالى في سورة الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )- فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه، وفي ذلك توجيه ربّاني ضروري، أن للرسول جلاله، وأن للأمير وقاره، وأن للمربي احترامه، وأن للقائد هيبته. وفرق بين أن يكون هو متواضعاً هيناً ليناً، وأن ينسوا هم أنه مربيهم، ويتجاوزوا الحدود بين القائد والمقود، والمربي وتلامذته، بل يجب أن يحسوا منزلته في قرارة نفوسهم، ويستحيوا أن يتجاوزوا منزلته بحكم علمه ومركزه وسابقته.
وقد وردت آيات كريمة في أدب الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما يتعلق بعدم مناداته صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهو قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون – ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم )- كما أمر الله تعالى المسلمين بتقديم الصدقة قبل مناجاته عليه السلام، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم )- كما أمر الحق تبارك وتعالى المسلمين أن يتخيروا الألفاظ بين يدي رسول الله فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم )- كما أمرهم أن لا يسبقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في إصدار حكم حتى يبين لهم عن الله ما أنزل فيما يتعلق بشؤون دينهم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )-.
وقد أرشد الله تعالى رسوله الكريم إلى كيفية تعامله مع المسلمين، فأمره بالرحمة واللين لهم، قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) فمع اللين لهم، دعوة إلى العفو عن مسيئهم، والاستغفار لهم، ومشاورتهم في الأمر فيما تجوز فيه المشاورة أو يندب إليها.
هذه بعض آداب الخطاب للرسول الكريم، وإنه وإن كان بعضها مختصاً به صلى الله عليه وسلم مثل تقديم الصدقة بين يدي مناجاته، إلاّ أن كثيراً من هذه الآداب تتعلق بكل أمير أو قائد أو مربٍّ، فلا بد أن تحفظ لكلٍ منزلته، وأن تراعى هيبته، وأن يعامل باحترام وتوقير، فإن سقطت هيبته، لا يحترمه أحد، ولا يقيمون وزناً لرأيه، ولا يطيعون أمره، وفي ذلك تفريط بوحدة الجماعة، وضياع لمصلحة الناس. ويجب على المرؤوسين والمقودين أن يردّوا سهام الطعن الموجهة إلى أميرهم أو قائدهم، وأن يعاونوه بكل إمكاناتهم من أجل حمل الأمانة وتسيير أمور الجماعة. وهذا لا يعني السكوت عن الخطأ، أو التستر على التقصير، وإنما المحاسبة واجبة، وهي حق لا يصح مصادرته، ولكنه يكون في حدود أدب الخطاب، وبالأسلوب الحسن، وبتراحم المؤمنين وتوادّهم وتناصحهم. كما أن محاسبة المسؤول لمرؤوسيه لا تكون بروح التشفي والانتقام، والشماتة، ولكن بنفسية الطبيب المؤمن، الذي يعالج المريض بتؤدة، ويقطع العضو المريض بإحسان، وبذلك تكون الجماعة متآلفة متحابة في الله، وتكون عوناً لأفرادها على الشيطان، وعلى نوازع النفس الأمارة بالسوء، وهكذا تكون أهلاً لتوفيق الله وتسديده ونصره: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )- .
1999-05-25