تعـقـيـب علـى مـقـالـة : « تأملات في كتاب أولويات الحركة الإسـلاميـة في المرحـلـة القادمة »
1999/06/25م
المقالات
1,866 زيارة
أثارت المقالة المنشورة في مجلة الوعي العدد (144) تحت عنوان «تأملات في كتاب: أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة» للشيخ الدكتور يوسف القرضـاوي، موجـة من التعليقـات. فمن قائـل إن المقال كان فيه قسـوة على الشـيخ، ومن ناصح أن الشيخ علم من أعلام الفكر الإسلامي، وله مؤيدون، وإن المقال سيلاقي استهجانهم، ووردنا كتابةً تعقيب من الشيخ عثمان صافي، نورده فيما يلي دون تعليق.
نقدر لصاحب المقالة غيرته على إسلامه، فقد أطلعنا على فكرة خطرة، بل لعلّه لا يعدلها شيء خطورة، ولا يفي ـ بالتالي ـ بشأنها مقالة تنشر في مجلة. وتبلغ الخطورة درجة أننا لو افترضنا شخصاً تجرأ واتهم صاحب الكتاب المردود عليه بأكثر من الانحراف، لما جاز أن يُتهم في دينه. وفي المقالة التي نشرت في مجلة الوعي ما يغني عن التوضيح حول هذه النقطة.
القضية باختصار، أن الكتاب المردود عليه ينم عن أن كاتبه ـ ومن يحمل معه هذا الرأي ـ يعاني من وضع انهزامي، وإلا فما معنى أن يتخاطر له أو لسواه فكرة إبدال الفقه الإسلامي بسواه معاصر ومتطور. ولعل أول ما يوجه إلى هذا الكاتب ـ ومن تراوده فكرته ـ سؤال: هل عُمِلَ في الفكر الإسلامي الموروث، ووُجِد من جراء تطبيقه ما نعاني من فشل؟ أم أن الأمر على نقيض ذلك؟ أي إنه لم يوصل أمة الإسلام إلى ما وصلت إليه وما تعاني منه إلا إغفال هذا الفقه وتعطيله، وليس العمل فيه. فكيف يستنكر منهج حياة لا يعمل به مع أنه سبق له أن أنقذ أمماً.
ومن البديهي أن الفقه المقترح ـ ويسمونه أحياناً الفقه المرحلي ـ هذا الفقه لا بد سينبني على تنازلات تمس رسالة الله عز وجل، بل تعطل ما تعطل منها. فالمبدأ الذي سينبني عليه هذا الفقه هو مبدأ «تراجعي». والسؤال البالغ الخطورة هنا: كيف يتأتى أن يكون التراجع عن المبدأ خادماً له؟!
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الله تعالى أنبأنا أنه أنزل وحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم كافياً وموفياً، وأوجب العمل به دون مساس أو زيادة أو نقص أو تحريف أو تعديل، حتى قيام الساعة. قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).
ثم من المصرح به في كتاب الله عز وجل أنه حظر أشد الحظر أن يعبث في الدين: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاتباع ونهى عن الابتداع في أحاديث معروفة. وعلى هذا مضى السلف الصالح رحمهم الله منذ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى أيامنا هذه، مع بعض التجاوزات التي لم تبلغ ما بلغه صاحب فكرة الكتاب. لماذا؟!
إنه مما ينبغي أن يُفهم ويكون واضحاً لدى القاصي والداني أن «دين الله» ليس محض النصوص من كتاب وسنة، ولكن «دين الله» يشمل الاجتهادات التي لم تفتأ تصدر عن أهل العلم، ابتداء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومروراً بالمجتهدين في جميع الأزمنة، وحتى أيامنا هذه.
أقول: إن الذي ينبغي أن يُعلم أن ما يسمى «دين الله» يشمل النصوص وتلك الاجتهادات التي هي ما يطلق عليه «الفقه الإسلامي».
الذي نخلص إليه أن أي تجرؤ على ادّعاء إبدال الفقه الموروث سيعني بالضرورة إلغاء هذا الفقه الذي تبين أنه هو الدين، لكونه ينتظم الأحكام الشرعية التي يجب على المسلمين الأخذ بها والعمل بها، كما أنه ليس لكل مسلم أن يأخذ أحكامه الشرعية من النصوص بمزاجية وبغير علم. ومما نقله إلينا التاريخ، أنه مرت فترة ضعف فيها الاجتهاد واضطرب الفهم، ولكن لم يُروَ قط أنه ارتؤي إنشاء فقه جديد، بل أوجب أهل العلم الالتزام بالاجتهادات التي سبقت للأئمة. وبهذا المعنى يقول صاحب جوهرة التوحيد للإمام «اللّفاني»:
«فواجِبٌ تقليدُ حَبْرٍ منهمُ
كذا حَكَى القومُ بلفظٍ يُـفهمُ».
على أن الأمة الإسلامية تجاوزت محناً من هذا القبيل وكانت تتخطاها مع حفاظ كل أقطاب العلم على ما ورثوه من أسلافهم في تطبيقهم لقواعد العلم وأصول الفقه ومنهج الاجتهاد، حتى كان أشد تلك الأزمات ما حدث في أواخر عهد الدولة العثمانية، فمنّ الله تعالى بأئمة أكفياء في الفقه وأصوله، فلم يبدلوا شيئاً لمن سبقهم، واجتهدوا ـ رحمهم الله ـ ولكن على ما بناه أسلاف أئمتهم ومن تلقوا عنهم العلم، وحينذاك صدر من يسمى «بالمجلة»، وهي قواعد شرعية استنبطت في مجموعها من الأدلة الشرعية، وآراء الفقهاء السابقين، ومثلت مرحلة من مراحل استمرارية الفقه الإسلامي وظل يُعمل بها حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، بل كانت ـ إضافة إلى الفقه الإسلامي العام ـ من أهم المراجع لفقهاء القانون في الغرب، وعن طريقها جرى حلّ ما لا يحصى من المشاكل الحياتية.
وهكذا نخلص إلى القول بأن المعضلة لا تتمثل في عدم صلاحية الفقه الذي يعم العالم الإسلامي وغير الإسلامي أيضاً، ولكن بتعطيله، وذلك لأسباب كثيرة معروفة، منها ما هو راجع إلى هبوط الفكر الإسلامي الفقهي، ومنها ـ بل على رأسها ـ محاربة هذا الفقه من الاستعمار الذي سدد أشد ضربة عليه حين غزا العالم الإسلامي واستأصل أحكامه الشرعية من الحياة ومن المحاكم ومن المدارس، وأبدله بما نقل إلى بلاد المسلمين من أفكار، وأنظمة هي في حقيقتها فقه غربي إن صح التعبير، وهو صحيح.
ولا ضرورة لأن نستقصي أسباب الوضع المضطرب والمتخلف، لمتابعة استمرارية الحفاظ على حيوية الفقه والاجتهاد، حتى بلغ الحال اقتراح ما يسمى بالاجتهاد الجماعي، ومنه ما يحدث فيما يسمى المؤتمرات الإسلامية.
غير أن حالاً مؤسفة ـ وتشبه أن تكون قاتلة ـ نعاني منها، تتمثل فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته على سؤال عن الساعة، فقال: «إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة»، وفسّر تضييع الأمانة بالقول: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
هناك تفصيلات ليس من غرضنا الدخول فيها، ولكننا نختصر القول أن الله تعالى أنزل وحيه على رسوله صلى الله عليه وسلم وأمره بتبليغه وألزم البشرية بأسرها أن تلتزم به على ما نزل دون أي انحراف عنه ولأي سبب. ولو أننا راجعنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم آية آية وحديثاً حديثاً لما وجدنا أثراً للسماح بإجراء أي تغيير على ما أنزل الله تعالى. ويذهب بعيداً في الوهم من يظن أن ما يواجهه المسلم بمفرده أو المسلمون بجماعتهم في طريقهم إلى حمل دعوة الله تعالى، من عقبات أو معاناة أن مثل هذا يبيح لهم أن يعبثوا في الدين تغييراً وتبديلاً.
ولكن الذي أمرنا به أن نسمع ونطيع ونعمل ونتكل على الله تعالى ونفوض أمورنا إليه ونصبر على ما يواجهنا تحملاً للأذى ـ والأقدار بيد الله تعالى ـ وليس لنا أن نفرط في ما كلفنا به. فالأمر بيد الله عز وجل، والله ناصر من ينصره وخـاذل مـن يخـذلـه.
و (لله الأمر من قبل ومن بعد). ونسأل الله تعالى عافيته، وصلى الله على سيدنا محمد .
الشيخ عثمان صافي
طرابلس/لبنان
1999-06-25