موقع الأمّة وسواد الناس من تغيير واقع المسلمين
1999/07/25م
المقالات
2,285 زيارة
إن الأمة الإسلامية التي نحن جزء منها تنقسم كما تنقسم الأمم إلى فئتين اثنتين.
أما الفئة الأولى فهم الذين يساهمون لإحداث التغيير، وتعرف الفئة الأولى هذه من خلال الحركات الفاعلة في الأمة، سواء أخطأت هذه الحركات سبيل الوصول إلى الهدف أم أصابت، قامت على العقيدة الإسلامية أم على غيرها، وسواء ارتبطت بأعداء الأمة والغرب، أم كانت خالصة من صميم الأمة، قائمة على عقيدتها، عاملة لإنهاضها.
هذه الحركات والأطر من الفئة الأولى، فئة الحركيين الذين يمثلون جزءاً يسيراً جداً من أبناء الأمة. أما السواد الأعظم، عامة الناس، فئة الأكثرية الكاسحة، فتمثل الفئة الثانية من الأمة، والتي لسبب أو لآخر رضيت بالقعود وآثرت الصمت والسكون. وهذه الفئة، أي عامة الناس.. سواد الناس.. الشارع.. هم المعنيون هنا في هذه العجالة. ما هو دورهم بوصفهم عامة الناس -هؤلاء الذين لم ينخرطوا في العمل ضمن أية منظمة -؟ ما هو وزنهم؟ ما مدى تأثيرهم؟ أين يقعون من معادلة التغيير؟ هل لهم أدنى أهمية؟ وإذا كان، فمن أي زاوية تلك الأهمية؟ وما هي إمكانية إهمالها والاستغناء عنها؟.
إن الإجابة على هذه الأسئلة جميعا يقتضي منا اعتبار حقيقتين بدهيتين:
أولهما: إن النظام السياسي الذي يحكم بلد ما، يصوغ حياة الناس بطريقة ما، والنظام السياسي أشبه بالقالب الذي تنصهر بداخله الحياة لتتشكل بشكله. فالنظام السياسي ومن يطبقه مسؤولان عن شقاء الناس أو سعادتهم، وهما، أي النظام والحاكم، يأخذان بيد الأمة إلى رحاب الطمأنينة وآفاق المجد، أو يأخذان على يد الأمة فيعاديانها ويقهرانها، لترتكس في مستنقع الذل والصغار.
هذه أولى الحقيقتين، أما الثانية: فإن كل نظام سياسي، وكل حاكم، يحتاجان إلى قوة تمكنهما من الحكم، أي تمكنهما من الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، ولولا الحاجة إلى القوة التي تسند النظام السياسي، وتدعم الحاكم، لكان الوصول إلى سدة الحكم أمراً في متناول كل من أراد، وهذا غير وارد، لأن المسألة أولاً وآخراً هي وجود القوة التي تسند النظام، وتسند الشخص أو الجهة في الحكم.
وفي الوقت الذي يتوفر فيه السند اللازم، للحكم يصير الحاكم قادراً على صناعة الأحداث والوقائع، وخير مثال على ذلك ما نراه في عالمنا الإسلامي من حكام ذوي سلطة مطلقة، يتحكمون في البلاد والعباد، يقربون إلى الحكم من يشاءون، ويقصون عنه من يشاءون، فتارة يعين المجلس الوزاري وتارة يعفى، ونعيش مرة الأحكام العرفية، ومرة أخرى الحياة المدنية. حيناً مع البرلمان تعييناً، وحيناً مع البرلمان انتخاباً،كل هذا يقوم به رجل واحد أطلقت يده في أموال الناس وأبدانهم ومصائرهم، ولا شك أن قدرة هذا الرجل بوصفه حاكما ليست مستمدة من طاقاته الشخصية كذكائه ومعارفه وما إلى ذلك، لأن صلاحيات الحكم طاقة هائلة تستمد من مصدرها، وهذا المصدر الذي يولد الطاقة هو السند وهو الذي يقرر من يكون في الحكم. وكما سبق فإن صاحب القرار في تأهيل النظام، وتأهيل الشخص أو الجهة، للحكم هو ما يعرف بالسند، وهذا السند إما أن يكون سنداً طبيعيا وإما أن يكون سنداً خارجيا.
والسند الطبيعي معناه أن الأمة، صاحبة السلطان، هي التي تسند حاكمها، فهي اختارته عن رضا واقتناع ليكون لها حاكماً، فيكون الحاكم بنظامه السياسي يعكس رغبة الأمة وتوجهها. وهذا السند الطبيعي الذي نتكلم عنه الآن نراه فاعلا ومتحكما في الدول الحقيقية في عالمنا اليوم. فسند الحكم في دول أوروبا سند طبيعي وفي أمريكا واليابان كذلك، وربما في دول أخرى في العالم من مثل الصين وكندا، فالحاكم والنظام السياسي الذي يطبقه يحددهما الشعب في أمثال هذه الدول.
وهنا لابد من ملاحظة أنه ليس من السهل زعزعة الأنظمة التي تتربع على سدة الحكم بسند طبيعي. وكذلك لا بد من ملاحظة أن السند الطبيعي كان الأكثر شيوعا في توفير الدعم اللازم للأنظمة فيما مضى من تاريخ الأمم، بمعنى أن الأنظمة الحاكمة في التاريخ اعتمدت في الغالب على السند الطبيعي بحيث استمد الحكام قوتهم من الأمة بوصفها صاحبة السلطان. وهذا ظاهر في عدة حوادث تاريخية منها:-
ما حصل في بريطانيا عندما تقدم الملك تشارلز الأول من حبل المشنقة لينفذ بحقه حكم الإعدام على يد الإنجليز الثائرين بقيادة البرلماني الإنجليزي كرومويل، وذلك سنة 1649، ولكن سرعان ما تاق الإنجليز لملكهم وحكمه فوجهوا دعوة إلى شارل الثاني ليعود ملكا سنة1660. ومن ذلك ما قام به أبو العباس عبد الله (أبو العباس السفاح)، إذ كان في عهد الأمويين يجمع المؤيدين للإطاحة بهم، وينجح في الحصول على السند اللازم ويبايع بالخلافة سنة 748.
نعم، هكذا كانت الأسانيد، وهكذا يكون الوضع الطبيعي فيها، وقد كانت هي الأكثر شيوعا، لان أساليب الصراع بين الأمم كانت عسكرية، أو حربية في العادة، ولم يكن الاستعمار -بمعنى بسط السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية- قد خرج إلى الوجود بعد. فالاستعمار لم يبدأ إلا في القرن الخامس عشر. ومع ظهوره، باعتباره صعيداً جديداً للصراع، صارت الدول المستعمِرة تبتدع الأساليب والوسائل التي تمكنها من وضع يدها في حلاقيم الأمم. وكان ضرب السند الطبيعي من أجل إضعافه والقضاء عليه، إحدى أشد تلك الوسائل فتكاً وإمعاناً في السيطرة، وتجذيرا للاستعمار. فعن طريق القضاء على السند الطبيعي، تتمكن الدول المستعمرة من تنصيب حكومة جديدة تسندها وتمكنها من الحكم، لتأتمر الحكومة الجديدة بأمرها ولتنجز لها مصالحها.
لقد ظهر هذا الأسلوب أول ما ظهر في مقاطعة الكونجو البلجيكية سنة 1908، ثم ظهر في بلاد المسلمين عندما تم إلغاء الخلافة وعزل الإسلام عن الحكم سنة 1924، حيث قام الكفار أولا بدخول بلاد المسلمين بعساكرهم، ثم قبل سحب جيوشهم قاموا بتنصيب حكام يأتمرون بأمرهم، وما من شك في أن القضاء على السند الطبيعي عند الأمة الإسلامية والذي يسند نظام الخلافة، … كان ثمرة جهود متواصلة، وعمل دؤوب امتد قرابة 250 عاما. ذلك أن دول الكفر بدأت تعمل للقضاء على سند الخلافة في القرن السابع عشر، ونجحت في إلغاء الخلافة سنة 1924، ولازالت تعمل حتى ساعتنا هذه من أجل المحافظة على تغييب السند اللازم للخلافة، من أجل منع عودتها.
نعم إن السند الطبيعي الذي يلزم للحكم والحاكم كان غائبا عن الوجود عندما هدمت الخلافة. ويتضح ذلك من غياب ردة الفعل -المناسبة لحجم الحدث- من قبل المسلمين عندما هدمت الخلافة. إذ أن المسلمين لم يعتبروا هدم الخلافة مسألة حياة أو موت، وسكتوا راضين أو غير مبالين، بل لقد قام بعض العرب منهم بإعلان الحرب على الخلافة كما حصل من الحسين بن علي، حين أطلق الرصاصة الأولى من قصره بمكة المكرمة، وكانت الرصاصة الأولى في جسد الخلافة. وهذا يخالف ما كان عليه المسلمون في فتنة عثمان رضي الله عنه، حيث كانوا يمثلون ويتلبسون بدور السند الطبيعي. ولهذا رأيناهم فئتين: إحداهما بايعت علياً عليه السلام بالخلافة، ووقفت معه تقاتل من دونه، وأخرى تقف مع منافسيه من أجل المطالبة بقتلة عثمان، خليفة المسلمين، والاقتصاص منهم.
وعملية تغيير الحاكم الذي سنده طبيعي، أي تسنده أمته أو شعبه، عملية شاقة لأنها تقتضي تحويل إسناد الأمة له إلى إسناد البديل.
أما اليوم فإننا نرى شريحة واسعة من الفئة الثانية من أبناء الأمة، وهي فئة الأكثرية ترى أنها لا تصلح أن تكون سنداً، ولهذا تقعد عن العمل من أجل التغيير، ومن لا يصلح من أبناء الأمة أن يكون سنداً للإسلام والخليفة، فإنه يكون سنداً للأوضاع القائمة، بما فيها من بعد عن الإسلام، وتفريط بحقوق الأمة ومصالح العباد والبلاد. ومن لا يعرف من أبناء الأمة معالم نظام الخلافة ومتى يكون النظام نظام خلافة ومتى لا يكون، لا يصلح أن يكون سنداً للخلافة. لأنه لا يميزها عن غيرها ولا يعرف في أي حالة تفقد هويتها. كما لا يصلح سنداً من يظن أن الخلافة والنصر لا يكونان في زماننا، أو يظن أن الحركات قاطبة مرتبطة مع الكافر… أو أن المسلمين يفتقرون إلى الرجال الواعين المخلصين القادرين على تسيير نظام الخلافة، أو أن قوى الكفر لن تمكننا من الخلافة، ولن يكون بإمكاننا الوصول إليها، أو أنه لا وزن له ولا وزن لغيره من سواد الناس وانه سواء أبى أو رضي… فلا أحد يستطيع عمل أي شيء، أو أنه إنما يحصل التغيير فقط بنزول المهدي أو عيسى المسيح عليه السلام.
إن من يظن شيئا من كل ذلك أو مما يماثله إنما يفتّ في عضد الأمة، ويبعث فيها اليأس والاستكانة، ويطيل في عمر الأنظمة المتسلطة، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
والناس في عدم إحساسهم بقدرتهم على التغيير، وعدم إدراكهم أنهم أصحاب السلطان الحقيقيون، معذورون، لأنهم لم يشاركوا في نصب حاكمهم منذ تنصيب الإمام علي حاكماً للمسلمين، إذ أصبح الحكم منذ تولى معاوية الخلافة وراثياً، ثم بعد أن قضي على الخلافة، صار أعداء الأمة ينصبون الحكام في غيبة عن الأمة وإرادتها.
وخلاصة القول إن الخلافة القادمة والقائمين عليها من أبناء الأمة المخلصين لن يصلح أن يكون سندهم من الخارج -أي من دول الكفر – فهو أمر لا يكون ولن يكون. فلا بد أن يكون سندهم من الداخل، من الأمة، من سواد الناس وعامتهم. ولن يكون للخلافة أمل في الولادة والبقاء دون أن يتوفر لها السند اللازم من الأمة. فلا يظنن أحد من أبناء الأمة أن مسألة الخلافة مسألة متوقفة على العاملين لها والساعين لإيجادها فحسب. بل عليه وعلى الأمة، وعلى كل واحد من أبناء الأمة أن لا يستهتر بوزنه وأن يحرص على الخلافة واعياً لا متمنياً وراجياً، لأنه هو وأمته السند. فقيام دولة الخلافة مرهون بقرار الأمة أن تسترد سلطانها وأن تمنحه لمن يحكمها بالإسلام .
أبو إبراهيم ـ الخليل
1999-07-25