التقليد الأعمى وعبادة الرجال!
2007/10/25م
المقالات
2,052 زيارة
التقليد الأعمى وعبادة الرجال!
من ضمن المصائب التي ابتليت بها خير أمة أخرجت للناس، مصيبة التقليد الأعمى وعبادة الرجال، وتذكرني هذه المصيبة بقول ابن عباس (رضي الله عنهما) الذي رواه الإمام أحمد: «أراكم ستهلكون، أقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقولون قال أبو بكر وعمر».
ونحن هنا لا نقول بحرمة التقليد كما هو مطروح في علم أصول الفقه بضوابطه الشرعية الصحيحة، ولكننا أمام نوع سقيم من أنواع التقليد، حوّل بعض الناس من اتباع شرع الله إلى اتباع أشخاص لذواتهم ومناصبهم الرسمية أو الحزبية أو السياسية، وأصبحوا لا يطيقون سمعاً لآيات الله تعالى وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تدل على ما يخالف قول هؤلاء الأشخاص! ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم، ثم يولون مدبرين مستكبرين!
فقد ابتلى الله هذه الأمة الكريمة ببعض من يُطلق عليهم اسم علماء أو مفكرين أو قادة، تجاوزوا كل الحدود المتصورة وغير المتصورة في التجرؤ على دين الله تعالى، ولم يكتفوا بجعل المصلحة وكأنها مصدر التشريع الوحيد تقريباً، يخصص ويقيد وينسخ القطعيات الراسيات بها، بل تجاوز الأمر إلى هذه المصلحة العقلية ما يسمى بمصلحة الوطن أو مصلحة الحزب أو الجماعة، وتركوا شرع الله وراءهم ظِهرياً، قائلين هذه مسألة سياسية بعيدة عن الحِلِّ والحِرمة!
وعندما يأتي أحد حملة الدعوة يبين لأحد هؤلاء المقلدة المبتدعة حكم الله في المسألة مستدلاً بقول الله تعالى أو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعبس وجهه ويقدح الشرر من عينيه قائلاً: أأنت أعلم أم فلان؟! وإذا قيل له: هذا قول الله ورسوله، وزعيمك لم يأتِ بدليل، قامت الدنيا ولم تقعد!
فهل يثق هؤلاء بقادتهم وزعمائهم أكثر مما يثق المسلمون بأبي بكر وعمر؟! ومع ذلك غضب حبر الأمة ابن عباس عندما كان يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعارضه أحدهم بقوله قال أبو بكر وقال عمر، وشنّع عليهم كما في رواية أخرى قائلاً: «توشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقولون: قال أبو بكر وعمر».
لماذا؟
لأننا نتّبع القرآن والسنة ولا نتّبع أشخاصاً دون رسول الله، وقد رُوي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنه لما نازعه بعض الناس في بعض السنة قال: هل نحن مأمورون باتباع عمر أم باتباع السنة؟
فهل المسألة مسألة قلة ثقة بأبي بكر وعمر؟ لا وربي ولكنها مسألة اتباع الشرع دون الشخص.
ولا يوجد رجال معصومون في دين الله سوى الأنبياء، ولا يوجد في دين الله الحق رجال كأنهم نائبون عن الله في الأرضِ، أو كأنهم ينطقون وحياً.
صحيح أن مرجحات العامي الثقة في علم وتقوى من يقلد، فيأخذ العامي برأي من يقلده دون معرفة الدليل، ولكن عندما يُبيّن له بالدليل الواضح وبالتبسيط والشرح بعرض الآية أو الحديث وتبيان وجه الدلالة، فإن الأصل عند المقلد العامي أن يأخذ بالرأي الذي قد سمع دليله ويترك الرأي الذي لم يسمع له دليلاً شرعياً، وعندما يكون الأمر من المعلوم من الدين بالضرورة كحرمة الربا وحرمة الحكم بغير ما أنزل الله وفرضية الجهاد، فإن المقلد يأثم عندما يُبيّن له بالدليل الواضح خطأ قول مرجعه ويبقى على تقليده إياه.
فهل يثق هؤلاء بقادتهم -مرة أخرى- أكثر مما يثق الصحابة بعمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، الخليفة الثاني الراشد بعد أبي بكر (رضي الله عنه)، والذي نزل القرآن غير مرة مؤيداً لقوله، والذي لُقب بالفاروق، والذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان بعدي نبي لكان عمر» والذي قال عنه أيضاً: «والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك». ناقشته امرأة من عامة المسلمين في تحديد المهور واستوقفته، وهو خليفة المسلمين الراشد المبشر بالجنة، ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الصدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك؟! ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة أربعمائة درهم قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك. قالت: أما سمعت الله يقول: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) الآية. فقال: اللهم غُفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدُقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي.
أما مقلدة هذا الزمان فإنهم ينـزهون قادتهم عن مجرد أنهم يمكن أن يخطئوا!
وكذلك ناقشه الصحابة وطالبوه بالدليل عندما لم يقسّم سواد العراق، وهو عمر! فكيف برجال اليوم؟!
فما يفعله هؤلاء هو مثل ما يفعله من يعبدون الرجال لأنهم يطيعونهم طاعة عمياء، ولا يقبلون النصوص الصريحة إذا خالفت أقوال زعمائهم، ولا يلتفتون للنصوص إلا إذا وافقت أقوالهم!
وكلنا يعرف قصة عدي بن حاتم الطائي حيث روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير «… فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم.
فكانت العبادة هي الطاعة دون قيد في التحليل والتحريم، وهذا في دين الله أمرٌ جلل. فمن يصر على تقليد رجل بعد أن يُؤتى له بالدليل الصريح من نص القرآن أو السنة على خطأ قول المرجع الذي قلده، ولم يرجع عن تقليده، فإنه في هذه الحالة يكون واقعاً في إثم كبير لأنه لم يعتقد بأن الرجال الذين يقلدهم هم أهل تحليل وتحريم، وإنما لأن ثقته البالغة بهم جعلته يتعامل معهم وكأنهم لا يخطئون ويغمض عينيه ويتبعهم، وهذا ما لم يكن حتى في صحابة رسول الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدي بن حاتم لما قرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) فقال: يا رسول الله، ما عبدوهم فقال: «ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»، فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما أحله، والدين ما شرعه، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئاً في طاعته بغير سلطان من الله، وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك» (مجموع الفتاوى 1/98).
رحم الله علماءنا الأفاضل كم كانوا يغضبون في مثل هذه الحالة، مثل غضبة ابن عباس وغضبة الشافعي الذي يُروى أن رجلاً سأله فأفتاه فقال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله! فقال الشافعي: رح، أرأيت في وسطي زناراً؟ أتراني خرجت من كنيسة؟ أقول قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: أتقول بهذا؟!
فلنتق الله أيها المسلمون جميعاً، ولنعبد الله لا نشرك بعبادته أحداً، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف 110].
أبو زكريا – غزة
2007-10-25