دافِعوا عن الدين لا عن الرجـال
1999/10/24م
المقالات
2,141 زيارة
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
الحوار يمكن أن يوصِلَ إلى نتيجة أو تقارب إذا اتصف أطرافه بالنزاهة والموضوعية، وبالعلم بالقضية موضعِ البحث، وبالبعد عن الغضب والهوى. وإلا فلن يؤدي إلاّ إلى تباعد وتباغض.
نشرت مجلة الأمان في العدد 365 ـ 23 تموز 1999 مقالاً تحت عنوان: (دفاعاً عن العلامة القرضاوي في تأصيل فقه الأولويات). جاءت تتمته في العدد 366 ـ 30 تموز 1999، وهي مقالة تشبه كثيراً من المقالات أو الأبحاث، من حيث تعلقها بأجواء البحث وعدم بلوغها أعماقه أو أطرافه، ومن حيث اعتمادها على المبررات لا على الأدلة.
هذه الكلمة ـ ههنا ـ هي حوار، ودعوة إلى حوار موضوعي، يرفع مستوى البحث، فيبحث عن الحقائق ولا يكتفي بالقشور. والمسألة مسألة حقائق أو آراء أو فتاوى، وليست مسألة رجال. وإذا كان البـحـث في الرأي أو الفـتـوى فلـيُـحصــر فيهما. وبناءً على ذلك يقال إن فلاناً مخطئ أو مصيب، أو إنه مجدِّد أو محرِّف. فالرجال يُعرفون بالحق ولا يُـعـرف الحق بالرجـال. أما أن يتـم التمسك برجل، فيصبح كل ما يقوله صواباً أو تجديداً ولو خالف الوقائع وناقض الحقائق فهذا خطأ ويجب التسليم برفضه.
وعليه، فإن كان (المُـدافِع) عن الشيخ القرضاوي أو عن غيره مصراً على الدفاع عنه، بعيداً عن مضمون وأدلة آرائه وفتاويه، فإن هذا لن يوصل إلى الحق ولا إلى الصواب.
فمثلاً قال (المُـدافِع) عن القرضاوي: «كتبت إحدى المجلات الإسلامية مقالاً .. وكانت الكاتبة فتاة لا يُدرى أين تفقهت ولا على يِدِ مَنْ؟ حوى كلاماً مرسلاً من الدليل، مفعماً بالتهجم على الشيخ القرضاوي، باعتباره من أصحاب الفقه التبريري والترقيعي والترخص والانهزام أمام الثقافة الغربية». ولم يناقش الأخ (المُـدافِع) شيئاً من المقال الذي ذكره، وإنما اكتفى بالغمز: «لا يدرى أين تفقهت ولا على يد من؟».
وهكذا رد أو نقد أو تعليق لا قيمة له، لأنه لا شأن (للمُـدافِع) أين تفقَّهتْ ولا ما هي شهاداتها، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، والدين النصيحة، والحكم على كلام الفتاة أو غيرها يعتمد على مضمونه ومدى مطابقته للواقع، مثل الحكم على كلام فضيلة الشيخ القرضاوي، ولأن كثيراً من فتاوى الشيخ القرضاوي، خاصة في السنوات الأخيرة، تـناقض النصوص وتغير الأحكام الشرعية لتتوافق مع قوانين الحضارة الغربية. يشهد بذلك كتابـه «أولويات الحركة الإسـلامية» وفتاويـه الكثيرة على الشاشات الفضائية. فماذا ينفع مع الحقيقة قول قائل: إنها فتاة لا ندري أين تفقهت ولا على يد مَنْ؟
ويتابع (المُـدافِع) عن الشيخ القرضاوي فيتهجَّمُ على مجلة «الوعي» ويتهمها بالحدة في شتم العلماء وأكل لحومهم. ولا يملك الأخ (المُـدافِع) ومَنْ يحمل رأيه إلا أن يتذرّع بأنهم علماء، ومن يُبَيِّن خطأهم أو انحرافهم وتحريفهم للدين فهو يأكل لحمهم!
وهذا القول افتراء. فمجلة «الوعي» لا تشتم العلماء، وإن ما يرد فيها هو ردود على علماء السلاطين، وعلى الذين يفتون بغير ما أنزل الله سبحانه، وعلى من يحرف الدين بحجة المصلحة، ويُجَمِّـل الأنظمة ويدعو إلى مهادنتها، والسكوت على كفرها وظلمها، وعلى من يـبرر كفر الحكام وظلمهم وعمالتهم ويمتدحهم.
والواقع أن فتاوى كثيرة للقرضاوي تناقض النصوص، ولا تنهض لها أدلة، فهل يصح في الرد على منتقديه وعلى من يبين سقوط هذه الفتاوى أن يقال إنهم يأكلون لحم العلماء، أو أنهم لا يفهمون مقاصد الشريعة أو فقه الموازنات أو الأولويات، وأن يُرمى رادُّو التحريف بالجهل. إن عناوين المقاصد والموازنات وغيرها ليست إلا مبررات عامة، وحجج واهية، ليس لها واقع تَتَنَزَّلُ عليه في هذه التحريفات. فلماذا لا يكون الدفاع فـي الـمــوضــوع ومـن خــلال الـرد عـلـى الـحــجـة بالحجة وعلى البيان بالبيان. (قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا).
ولماذا يلجأ المحرفون والمدافعون عنهم إلى تهم يخترعونها ليصرفوا النظر عن ضعف ما لديهم؟
يرد الأخ (المُـدافِع) على فضيلة الشيخ عثمان صافي الذي علَّق على فتاوى القرضاوي بأنها تنازلات تمس رسالة الإسلام، وبدل أن يناقش قوله يتهمه بأن عقليته حرفية. وهذا كلام عام ومطاط ولا حقيقة له أصلاً. وهذه مجازفة. والمجازفة الأكبر بإقحام فضيلة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في موضوع دفاعه عن الشيخ القرضاوي، ثم قوله بأن الشيخ رحمه الله هو أحد أعلام التيار الظاهري المعاصر، وهذا بعيد عن فهم الواقع. والغريب أنه يصفه في بداية المقال بأنه من علماء الأمة «الأفذاذ وقادتها المجددين المجتهدين» وأنه «حظي ببعض ملامح التجديد»، وأنه «يتميز بمنهج حركي …»، ولذلك نسأل الأخ (المُـدافِع): أين تعلمت أو كيف فهمت أن الشيخ هو أحد أعلام التيار الظاهري المعاصر؟ وما تقييدك بلفظ «المعاصر» بمخرجٍ لأقوالك عن الخطأ وإلقاء الكلام على عواهنه. وما عليك إلا أن تطَّـلع على أصول وفقه الشيخ الجليل تقي الدين النبهاني ـ رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء ـ في كتابه الشخصية الإسلامية الجزء الثالث لتعرف أن أقوالك لا ترقى إلى مستوى النظر.
وبالمناسبة فالشيخ رحمه الله يقول بالقياس، ويقول بمفهوم الموافقة وبمفهوم المخالفة، ويقول بالعلل الصريحة، وبالعلل التي بمسلك التنبيه والإيماء بأقسامه، فهو يقول بالعلل التي تستـنبط استـنباطاً شرعياً، وهو يرد التعليل المصلحي المبني على الهوى، ويرد التعليل الذي لا ينهض له دليل، كما يرد التشريع بالعقل أو الهوى.
ولكن يبدو أن التجديد والتطوير للدين عند (المُـدافِع) والمدافَع عنه، ينبني على قبول مناقضة النصوص وعدم الاكتراث بها، أما التقيُّد بها وبدلالاتها، ورد المعاني التي لا تحملها، أو تدل عليها النصوص، فهي عندهما ظاهرية جديدة أو معاصرة. وهذا ليس تأصيلاً للتجديد، وإنما هو تأصيل للتحريف والإلغاء.
أما قول (المُـدافِع) إن الشيخ النبهاني أشكل عليه فهم المقاصد، فالحق أن هذا تطاول. يُقبل من (المُـدافِع) أن يأخذ آراء أو أقوالاً أو أبحاثاً للشـيخ، وأن يناقشـها نقاشـاً شـرعيـاً علمياً صحيحاً، وأن يصوِّبَه أو يخطِّئه بعد ذلك. أما أن يكون عاجزاً عن فهم المراد بمقاصد الشريعة، فيفتري على من فهمها وناقشها وبيّن رأيه ومنهجه فيها، فهذا هو أكل لحوم العلماء، وهو ناتج عن تقصير وعجز وعن هوى. ولينظر الأخ (المُـدافِع) إلى الفرق: لقد اتهم الشيخ دون أن يستشهد لكلامه بقول أو نص ودون أن يناقش أي فكرة. وفي الوقت نفسه رفض من غيره أن يرد على القرضاوي، علماً بأن الذين ردوا عليه، أوردوا أقوالاً له ونصوصاً وناقشوها بالأدلة، فلماذا لا يناقش الموضوع أو الأدلة!
ويزعم الأخ (المُـدافِع) من غير دليل أو بيان، ولو بمثالٍ واحد، أن ما يفعله الشيخ القرضاوي هو تأصيل لاحق لفتاوى الأئمة الكبار كالجويني والغزالي والشاطبي والقرافي وابن تيمية وابن عبد السلام رحمهم الله. وهذا كلام عام لا يضع الإصبع على شواهد خاصة تؤكد هذا الزعم. والحقيقة أنه زعم لا واقع له. ومن سوء حظ الأخ (المُـدافِع) أن الأئمة المذكورين لهم أصولهم ومناهجهم التي تُخرَّج بناءً عليها فتاويهم.
إن هذا النهج لا يثبت حقاً ولا يدفع باطلاً، ولا العكـس. ولو كان ثمـة شـاهـد مـن عنـد هـؤلاء الأئمة يدعم تحـريفـات الشـيخ القرضـاوي لتمسـك بـه هـو أو الـمـدافـعـون عـنـه.
ولا شك أنه يمكن لبعض الدارسين أو المطالعين أن يتمسكوا ببعض الأقوال أو الشواهد المبتورة كمبررات لبعض الآراء أو الفتاوى. ولكنها تسقط عند المحاكمة الشرعية وعند العرض على أصول الشريعة ونصوصها. وبعض أقوال أو فتاوى الأئمة المعتبرين، التي قد يطمئن إليها أو بها المدافعون عن التحريف، لا تشهد لهذا النهج إلا إذا أخذت مجردة عن حيثياتها وشروطها.
فلقد اتفق كل هؤلاء الأئمة المذكورين أعلاه على عدم جواز اتخاذ المصلحة دليلاً شرعياً، حتى ولو لم تكن المصلحة ملغاة، وقد بينوا أن هذا تشريع عقلي مردود، وصرح بعضُهم أنه مردود اتفاقاً أو بالإجماع، فكيف إذا كانت المصلحة ملغاة ومنقوضة كمصالح أو ذرائع القرضاوي. والذين تحدثوا عن الاستدلال بالمصلحة في سياق القبول اشترطوا أن تكون المصلحة معتبرة، وأن تكون غير ملغاة أي غير منقوضة أو معارَضة. أما ما كان من المصالح ليس معتبراً ولا مُلغىً، وهو ما سمي بالمصالح المرسلة، فالذين أخذوا معنى المصلحة المرسلة من خلال هذا التعريف ـ أي مصلحة لا معتبرة ولا مُـلغـاة ـ كلهم ردوها. ومنهم هؤلاء الذين يتعكَّز عليهم الأخ (المُـدافِع). وأما الذين أخذوا بالمصالح المرسلة، فقد قصدوا من ذلك أن جنس المصلحة المعينة هو المرسل، الذي لم يشهد له الشـرع بالاعتبـار، أو لم يشـهـد له حكـم بالاعتبار. أما نوعها أو أنواع منها، أي من جنسها، فلا بد أن يكون معتبراً بشهادة نص أو حكم. كمثال على ذلك: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «القاتل لا يرث» فالنص يدل على عدم توريث القاتل. والناظر قد يلحظ معنىً أو وصفاً مناسباً في الحكم ـ وليس في النص ـ، وهو المعاملة بنقيض المقصود. إذ القاتل قصد بقتله لمورِّثه الحصول على الميراث أو استعجاله، والحكم حرَمه منه. فهذا الوصف أو المعنى (المعاملة بنقيض المقصود) جاء وَفْقَه حكم شرعي.
ولو ادعى أحد أن معاقبة المعتدي أو الجاني بنقيض قصده مصلحةٌ أو عقوبةٌ مناسبةٌ لتكون قاعدةً أو أصلاً يطبق في بعض التشريعات، العقوبات، من غير وجود أصل أو حكمٍ يُـلحظُ فيه هذا المعنى لكان قوله مردوداً بالاتفاق، ولا يسمى مصلحة مرسلة. ولكن وجود حكم شرعي يمكن أن يُتَخَيَّـلَ فيه هذا الوصف المناسب ثم تعميم الوصف هو الذي يقال له مناسب مرسل أو مصلحة مرسلة يمكن اتخاذها عند النظر والاجتهاد عند من يقول بالمصالح المرسلة. وهنا نلاحظ أن الوصف المناسب جرى أو جاء وفقه حكمٌ شرعي، ثم حصل تعميم أو تجنيس للوصف بغير دليل على التعميم أو التجنيس، هذا التعميم أو التجنيس هو الذي يكمن فيه الإرسال. ولو لم يكن هناك حكم أصلاً يشهد لنوع من أنواع هذا الجنس أو لفرد من أفراد هذا العام، لكان القول بهذا المناسب أو بهذه المصلحة تشريعاً بالعقل وهو ما قلنا إنه مردود بالاتفاق.
قال الرازي في المحصول وهو من القائلين بالمصالح المرسلة: «المناسب الذي لا يلائم ولا يشـهد له أصـل معيـن فهـذا مردود بالإجماع، ومثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو قدَّرنا أنه لم يرد فيه نص». وقال الشـاطـبـي في الاعتصـام في معرض ردِّه على أهل البدع والأهواء وتفريقاً بين المصالح المرسلة والتشريع بالهوى، قال: «ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا إلغائه فهذا على وجهين:
الأول: كتعليل منع القتل للميراث، فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع، فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله. والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين» وقوله هنا (في الجملة) يعني أنه لا يقبل أن يقول بجنس الوصف من مجرد مجيء حكم أو بضعة أحكام على وفق الوصف، وإنما يشترط وجود الوصف في أحكام كثيرة وحالات كثيرة تؤدي بنظره ومنهجه الاستقرائي إلى القطع باعتبار الشارع لجنس الوصف على غرار القطع المستفاد من التواتر المعنوي. وهذا هو مراده بقول الملاءمة لتصرفات الشرع. أما من سبق الشاطبي من الأصوليين، كالرازي مثلاً والغزالي وغيرهم فمرادهم بلفظ الملاءمة مجيء أكثر من حكم واحد على وفق الوصف، كأن يكون هناك حكمان أو أكثر.
وعلى هذا الأساس، قال من قال بالمناسب المرسل وبالمصالح المرسلة، وقيل في تعريفها عند الآخذين بها كالرازي مثلاً إنها من قبيل اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم.
أما أن يقال بالمصلحة من غير أصل يشهد لها، سواء كان نصاً أو حكماً، فليس هناك من يقول بذلك. وإنما على المتبجحين أن يحسنوا القراءة والفهم، قبل أن ينسبوا أنفسهم إلى الأئمة المعتبرين ويرموا معارضيهم بالجهل.
وهذا فضلاً عن أن الفتاوى التي وصفت بأنها فقه التبرير والهزيمة، ليست من قبيل المصالح المرسلة، وإنما هي مفاسد ـ بحسب هذا المنهج ـ لأن الشرع ألغاها. فليس على الذين يردّونها ويَعُدُّونها تشريعات وضعية مناقضة للإسلام من حرج، فهي فتاوى في خدمة العلمنة. وإن على مروِّجيها أن يتراجعوا عنها، إذ لم يأتوا لها بأدلة صحيحة باجتهاد شرعي صحيح. وليس لهم أن يفتروا على غيرهم، أو يخدعوا السذَّج والجهلاء بنصوص عامة ومطاطة، ولا أن يحدثونا عن الفرق بين الشريعة والفقه، أو بين القطعي والظني، وكأن الشريعة هي دلائل النصوص، وأما الفقه فهو نتاج عقولهم وحكمتهم، أو دلائل نصوص دسـاتيـر الكفـر، ومقـررات الهيئـات الدولية. أو كأن القطعي منطقة محظورة، أما الظني فلا ضير في تركه ومخالفته.
إن شريعتنا في غالبيتها العظمى مبناها على الترجيح وغلبة الظن، فهل نتركها للمحرفين أو اليائسين والمهزومين أو الدخلاء، ليعبثوا بها ويفتوا فيما يشاؤون كما يشاؤون!!
هذا، ويعمد المدافعون عن التحريف إلى القول بأن القرضاوي قد جاء بأدلة ووضع أصولاً أو تأصيلاً فقهياً لمنهجه. وهذا ليس صحيحاً وإنما هو مخادعة. إذ المطلوب الاستدلال بأدلة تدل على المطلوب. والقرضاوي لم يفعل شيئاً من هذا، وإنما ذكر أمثلة تشهد عليه لا له، فكان كمن يقول إن الله سبحانه وتعالى أباح الخمر أو النبيذ بقوله: (كلوا واشربوا) وتجاهل النصوص وآراء العلماء المعتبرين. ومن يعترض على ذلك استدلالاً بالنصوص يقال عنه إنه حرفي، أو من أتباع الظاهرية الجديدة، ومن يطالب بالأدلة يُـجابُ بعموميات لا تنطبق على الموضوع فيقال له: التجديد وفقه الموازنات وما شاكل ذلك. ولقد نوقشت تبريرات القرضاوي في أكثر من مكان منها صفحات هذه المجلة.
إنه لا ضير في أن يأتي العالم الفقيه بجديد في الأحكام أو بقواعد جديدة، ولا ضير أن يخالف السابقين، ولكن يجب أن يكون ما يأتي به شرعياً، منبثقاً عن نصوص الشريعة وأدلتها، وأن يكون خادماً للشريعة لا ناقضاً لها.
ولأجل مزيد من البيان أشير هنا إلى واحدة من فتاوى الشيخ القرضاوي التي واقعها تحريف، ومبعثها انهزام، ومسـتندها تبرير. وهي مسألة تولي المرأة للحكم، ومن ذلك منصب رئاسة الدولة أو الخــلافة أو الإمامة العظـمى. فقد صرح بجواز هذا الأمر في لقاء مع محطـة الجزيرة، مخالفاً بذلك ما رُوي عن أحمـد والبخـاري والنسـائي والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «… لن يفلـح قوم ولَّـوْا أمرهـم امـرأة». ومخالفـاً بذلك الأئمـة المعـتبريـن الذين ذكروا شـرط الذكـورة فيمن يتولى الحكم.
نعم، إن الحديث ظني الثبوت، ولكنه حديث صحيح فأخذه والعمل به واجب، ومخالفته من غير أدلة تستوجب تأويله أو تخصيصه أو ردَّه فسق. والاتفاق واقع على أن خبر الآحاد يوجب العمل.
ولا يقال إن الحديث جاء في مناسبة معينة، فالقرآن نزل منجماً حسب الوقائع، والأحاديث كانت تصدر في مناسبات لها، والقاعدة الشرعية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والحديث ليس جواباً على سؤالِ سائلٍ في واقعـة خاصـة به أو بغيـره يريد عليها جواباً، وألفاظه تفيد العموم فلا يتأتى فيه بحثُ أن يكون خاصاً في قوم.
والحديث يفيد التشريع فلا يتأتى تخصيصه بالعقل، فضلاً عن أن يخصص بالهوى أو بالمصلحة، لأن هذا خروج على الشريعة. فهل من أدلة تدل على جواز أن تـتـولى امرأة منصـب حكم، أو منصب الرئاسة، أو الإمامة العظمى، سوى الانهزام أمام أفكار الحضارة الغربية، وتحريف الشريعة لتتوافق معها؟!
وكأن الشيخ القرضاوي ذهل عن حقيقة ما يفعله بفتواه وبدفاعه عنها فإذا هو يتجاهل أصول العلم فيقول: إن صيغة هذا النص صيغة خبر، وإن ملكة سبأ قد أفلح قومها وهي امرأة تحكمهم وتتولى أمرهم فقادتهم إلى الفلاح. ويذكرنا فضيلته بنساء أفلحن، وربما يقصد مارغريت تاتشر وأنديرا غاندي وجولدا مائير، وكل هذا ليثبت فضيلته أنه يمكن أن يفلح قوم يولون أمرهم امرأة. ولا نسـتطيع أن نفسر كل أبعاد ما في ذهن الشيخ. ولكن الحق أن يقال: إن مثل هذه الأقوال هفوات نحب للشيخ أن يرجع عنها وأن يصرح أنه لم يكن دقيقاً فيها.
نعم، إن صيغة النص: «لن يفلح قوم …» هي صيغة إخبار. والأوامر والنواهي كثيراً ما تأتي في صيغة خبر، ولا جدال في هذا، فلماذا استعراض أن الصيغة خبرية؟! قال تعالى: (والوالدات يرضـعن أولادهن حولين كاملين) وهذه صيغة خبر تفيد طلباً أي تشريعاً. وقال أيضاً: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) وهذا نهي في صيغة خبر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» وهذا نهي في صيغة خبر. وقال: «لا عدوى ولا طيرة في الإسلام» وهذا نهي في صيغة خبر. وقال أيضاً: «الـنـاس شــركاء فـي ثـلاث …» وهـذا تـشـــريـع في صيغة خبر.
والأولى بالعالم الذابِّ عن دين الله، إذا وجد حالات لا يصح فيها الخبر أن يعلِّم الناس أن هذا من موجبات صرفه من كونه خبراً إلى كونه تشريعاً، أو من موجبات التخصيص أو التقييد أو التأويل الذي يحفظ صدق المخبِر. ففي قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) لا يصح للعالم أن يردَّ المعنى، أو يوقف إعمالَه، أو أن يثير في أذهان العوام تشكيكاً وإشكالات، بحجة أننا نرى للكافرين اليوم سبيلاً عظيماً على المسلمين، فإن ما نراه اليوم، والواقع، يؤكد صرف المعنى من الإخبار إلى التشريع أي إلى النهي. وكذلك يقال في حديث: «لن يفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة». فإذا رأينا قوماً أفلـحـوا في الدنيا بولاية امرأة، فهذا يعني وجوب صرف المعنى من الإخبار إلى النهي في هذا النص. والنهي هنا نهي جازم، أي تحريم، بقرينة نفي الفلاح.
وثمة أمر آخر ذهل عنه فضيلته وهو أن ملكة سبأ وقومها قد مضوْا قبل هذا النص. والنص يفيد المستقبل بلفظ لن المفيد للتأبيد. فذكر سبأ وملكتهم ليس في محله هنا.
أما مارغريت تاتشر وأنديرا غاندي وجولدا مائير وأمثالهن فنسبة الفلاح إليهن مجازفة. فعلى فرض التسليم بفلاحهن فهذا يستوجب صرف الفلاح في الحديث إلى الآخرة. ولكن لا تسليم بفلاحهن في الدنيا فضلاً عن الآخرة. فالله يمد هذه الأقوام في طغيانها وكفرها، ليستحقوا العذاب في الدنيا أو في الآخرة (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين )، وفوق ذلك فكيف يُحْكَمُ أن ما هم فيه ـ أي هؤلاء الإنجليز والهندوس واليهود ـ فلاح؟! لا يحكم بهذا إلا المبهور بهم وبحضارتهم المهزوم نفسياً أمامهم. إنهم في شقاء لا يراه من أعرض عن ذكر الله.
وإن كل هذه الاعتراضات أو الأمثلة التي يأتي بها المحرفون، ليلفتوا بها النظر عن تحريفاتهم، تَسقطُ عن مستوى البحث. ولذلك فمثل هذه الفتاوي غير مبنية على اجتهاد شرعي أو نظر سديد. والأهمية الكبرى ههنا نوليها للجرأة في مناقضة نص شرعي صحيح، ولما هو أعظم من ذلك وهو الترويج بأن هذه ظنيات، والظنيات متغيرة وغير ثابتة، فهذا افتئات على الدين يُـخدع به السذّج والجهلاء. وربما يتمسك المحرفون المهزومون بأنهم يستـندون إلى تأصيل فقهي، أو إلى مقاصد الشاطبي وهم لم يفهموها، ولو فهموها حقاً لعرفوا كم هم منحرفون وواهمون، ولو وضعوا أنفسهم في ميزان الشاطبي لتيقنوا أنهم مبتدعة بنظره كما بنظر المحققين المدققين.
قال تعالى: ( وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتـنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) صدق الله العظيم .
1999-10-24