الاسـتدلال بالمصـلحـة (1)
1999/11/24م
المقالات
3,291 زيارة
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
كثرت في أيامنا الفتاوى والآراء المطروحة باسم الإسلام، المخالفة للشرع والمناقضة للنصوص، والتي يتذرع أصحابها بمبررات منها وعلى رأسها المصلحة.
وعندما تردُّ النصوص الشرعية على هذا الطرح، يجادلُ أصحابُه فيقولون: المصلحة تقتضي هذا. فما هو دور المصلحة في التشريع، هل يصح اتخاذها دليلاً شرعياً؟ وهل قال أحد من الأئمة بالاستدلال بالمصلحة؟
إن أدلة التشريع المتفق عليها هي القرآن والسنة، ومن المتفق عليه أيضاً، باستثناءات قليلة، الإجماع والقياس. وبيْن العلماء اختلافٌ في تفصيلات وقواعد هذه الأدلة وفي مناهج الاستدلال بكل منها. إلا أن التفصيلات الأوسع والخلافات الأكبر هي في دليل القياس. والقياس هو حمل فرع على أصل لإثبات حكم الأصل للفرع بأمر جامع بينهما. والأمر الجامع هو العلة. والعلة هي ركن في القياس، فما لم توجد العلة فلا قياس. ولقد اتفق القائلون بالقياس على أن العلة يجب أن تثبت بالشرع. وهي كالحكم الشرعي طريقها الشرع فقط.
إلا أن الاختلاف واقع بينهم في كيفية ثبوتها. فما هو دليل على العلة عند بعضهم قد لا يعد دليلاً عند غيرهم. وأدلة العلة هي طرائق إثباتها أو مسالكها.
وللعلة شروط، فلو جاءت العلة بدليل شرعي أو بمسلك معتبر عند مجتهد، فلا تعد علة في أصل القياس إلا بتوفر شروطها. والاختلاف واقع في الشـروط أيضاً. نذكر من هذه الشروط الشرط الذي يلزمنا في بحثنا وهو شرط المناسبة، فما هي المناسبة؟
لن ندخل في تحقيق معنى المناسبة بحدود لفظية، وبمختلف تعريفاتها فهذا بحث يطول، ولكن الرائج، والشائع اعتماده عملياً هو أن (المناسب هو ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول). أي أن يدرك العقل مصلحة أو حكمة في ترتيب الحكم على علة معينة أو على واقع معين أو على وصـف معين. بتعبـير آخر: أن يتقبل العقل العلاقة السـبـبـية بين الوصـف والحكم. ففي الحديـث: «إنما جعل الاسـتئـذان لأجل البصر» التعليل صريح بلفظ اللام. وهو مناسب أيضـاً إذ يتقبل العقل الربط بين وجوب الاستئذان وبين تعليله برؤية ما لا تجوز رؤيته. فيصح التعليل بالبصر.
وفي قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس). قال أهل الأصول: اللام هنا تفيد التعليل عند أهل اللغة ولكنها هنا لا تفيد التعليل في أصل القياس. وقد قال الآمدي [الإحكام في أصول الأحكام ج3/ ص222ـ223] وفخر الدين الرازي [المحصول ج5/ ص140]: إن اللام هنا تفيد التعليل في اللغة وهي من الصيغ الصريحة فيه. وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل دليل على أنه لم يقصد بها التعليل فتكون مجازاً. ومثل هذا قول الشاعر:
لِدوا للموت وابنوا للخرابِ.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عَدُوّاً وحَزَناً) فاللام للتعليل إلا أنه لا يصح أن تجعل عداوة موسى لآل فرعون علة التقاطهم له. فالعقل لا يتقبل أو لا يجد حكمةً في جعل زوال الشمس علة لتشريع صلاة الظهر. وكذلك يقال في التقاط آل فرعون لموسى.
وزيادةً في توضيح هذا الشرط، نقول: إذا أردنا أن نعلِّـل تحريم الخمر، فيجب أن يكون الوصف المعلل به صالحاً للتعليل أي مناسباً. وأوصاف الخمر عديدة منها: رائحتها، وكونها تقذف بالزبد، وكونها تُحفظ في الدِّنّ، وكونها مسكرة. أما رائحتها فهي وصف غير مناسب لتكون علةً للتحريم، وكذلك يقال في كونها تقذف بالزبد، وفي كونها تحفظ في الدن. ولكن العقل يتقبل الربط بين تحريمها وبين وصف الإسكار، لأنه يدرك مصلحةً أو حكمةً في منع ما يسكر، ولذلك يصلح وصف الإسكار ليكون علة للتحريم عند من يعلل به.
وبعد قيام أتباع المذاهب لنصرة أئمتهم ومذاهبهم، وكثرة محاججاتهم في بعض الفروع وأدلتها، توسع وتطور على أيديهم علم أصول الفقه. وكان من ذلك أن قال بعضهم بطرق أخرى لثبوت التعليل، فقيل بمسالك التعليل منها مسلك المناسبة أو الإخالة. فقال به البعض مسلكاً أو دليلاً على العلة وجعل له شروطاً، وقال غيرهم إن المناسـبة شـرط من شـروط أخرى وليست دليلاً على التعليل.
والذين ردّوه حملوا عليه بشدة وقالوا إنه خيال، وإنه باطـل، وإن الظـن به ليس ظناً شرعياً. والذين قالوا به قالوا: إذا لم نعلل الأحكام تخلو الوقائع والمستجدات عن أحكام، وتمسكوا بأن الأصل في الأحكام التعليل. وعليه فإذا دل الشرع على العلة فبها، وإذا لم يدل فعلينا أن نبحث عن أصلح وصف للتعليل، وأصلحها هو أكثرها مناسبة، شرط أن لا يدل الشرع على ردّه أو إلغائه.
فالذين قالوا بمسلك المناسبة، أي بتعليل الأحكام بالحِكَم أو بالأوصاف المصلحية اشترطوا للوصف المناسب شروطاً منها: أن يكون الشرع قد اعتبره، ومنها أن لا ينقضه نص أو أن لا يظهر في الشرع إلغاء اعتباره.
ومن هنا قسَّموا الأوصاف المناسبة إلى ثلاثة أقسام: مناسب معتبر، ومناسب ملغى، ومناسب مرسل. وبنَوْا على ذلك تقسيم المصالح إلى مصلحةٍ معتبرة، ومصلحةٍ ملغاة، ومصلحة مرسلة:
1ـ المعتبر:
يطلق لفظ المعتبر إزاء معنيين، الأول: الوصف أو المعنى الذي دلَّ عليه دليل شرعي، فهذا الوصف أو المعنى شهد له نص أو دليل شرعي، فيكون معتبراً، وليس هذا المعنى هو المقصود هنا بلفظ الاعتبار.
الثاني: المعتبر هو الوصف أو المعنى الذي شهد له حكم ولم يشهد له نص أو دليل. بتعبير آخر: المعـتـبـر هو ما جاء على وَفقـه حكـم أو أحكام. قال الشوكاني: «المراد بالاعتبار إيراد الحكم على وَفقه لا التنصيصُ عليه ولا الإيماء إليه، وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة، وهو المراد بقولهم شهد له أصل معين» [إرشاد الفحول ص217] فمثلاً، في حكم تحريم الخمر، النص دل على التحريم، ولكن النص لم يدل على التعليل بالإسكار.
فإذا أخذنا حكم تحريم الخمر مع اعتبار أن الأصل في الأحكام التعليل، يبحث الناظر في الحكم عن وصف مناسب للتعليل، فيجد أن الإسكار وصف مناسب فيدعيه علةً، والعقل يحكم أن الإسكار مفسدة، وان منعه مصلحة. إلا أن هذا الحكم عقلي، وبالاتفاق لا اعتبار للعقل في التشريع. ومجيء الشرع بحكم تحريم الخمر يعني أن الشرع اعتبر هذه المصلحة. أي أن هذه المصـلحة العقـليـة جاء حكم وفقاً لها. بهذا المعنى تكون هذه المصـلـحـة معـتـبـرة، ويـكـون المعـنـى أو الوصف معتبراً.
وكمثال آخر يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «القاتل لا يرث» فالنص يدل على عدم توريث القاتل. والناظر قد يلحظ معنىً معيناً في الحكم وهو المعاملة بنقيض المقصود. فالقاتل بقتله لمورثه قصد الحصول على الميراث أو استعجاله، والحكم حرمه منه. فلو ادعى أحد أن معاقبة المعتدي أو الجاني بنقيض ما قصده عقوبة مناسبة لتكون أصلاً يطبق في بعض التشريعات من غير وجود دليل أو وجود حكم يلحظ فيه هذا المعنى لكان قولُهُ مردوداً بالاتفاق. ولكن مجيء حكم شرعي يوافق هذا المعنى، يعني أن هذا المعنى معتبر، إذ جاء حكم على وفقه. فيقال معتبر شهد له حكم ولا يقال شهد له نص أو دليل. (أي هو من دلالة المعنى وليس من دلالة الدليل).
هذا هو معنى الاعتبار المـقـصـود بلـفـظ وصف مناسب معتبر أو مصلحة معتبرة. وبهذا المعنى فالمعتبر أقسام بحسب كثرة أو قلة الأحكـام التـي تشـهـد للـوصـف وبحتسـب عـمـوم أو خصوص الوصف.
فمثلاً قالوا في تحريم الخمر: وصف الإسكار وصف مناسب معتبر، وقالوا إن حكم تحريم الخمر شهد بالاعتبار لعين الوصف وهو الإسكار. وفي الحكم نفسه يمكن أن يقال إن الحكم قد شهد لوصف إذهاب العقل فيكون إذهاب العقل وصفاً معتبراً. ولكن إذهاب العقل أعم من الإسكار، فهو يشمل إذهاب العقل بالإسكار، ويشمل إذهاب العقل بالمخدرات أو بغيرها. فإذهاب العقل جنس، الإسكار أحد أنواعه، أو الإسكار بالنسبة لإذهاب العقل هو كالخصوص بالنسبة إلى العموم. واعتبار وصف الإسكار في الحكم هو ما سمَّوه اعتبار عين الوصف في عين الحكم. واعتبار إذهاب العقل هو من قبيل اعتبار جنس الوصف في الحكم. وكلما كان الوصف المعتبر أخص كان الاعتبار أقوى. [انظر المحصول ج5/ ص165، والإحكام … ج4/ ص248ـ249].
وكمثال آخر: حكم القصر وحكم الجمع في السفر. فقد يقال إن المشقة وصف مناسب لتعليل هذه الرخص. فيقال: إن عين الحكم وهو القصر أو الجمع قد شهد لعين الوصف وهو مشقة السفر. فإذا قيل إن الحكم يشهد لجنس المشقة سواء مشقة السفر أو غيره كمشقة الفران أو الحمّال، فهذا من قبيل اعتبار جنس الوصف في الحكم. وهذا أضعف في الاعتبار، لأن الحكم هو للمسافر وليس لغيره، فهذا التعميم فيه ما فيه. وقد يقوِّي القائلون باعتبار جنس المشقة قولهم بأن يقولوا: إن هذه الأحكام، أي رخص الجمع والقصر، قد شهدت لاعتبار مشقة السفر، وإسـقـاطُ أداء الصـيـام عـن المريض شـهـد لمشقة المرض، وإسقاطُ الصلاة وأداءِ الصيام عن الحائض شـهـدا لمشـقـة الحيض، فيثبت اعتبار الشرع لجنس المشقة إذ جنس المشقة يشمل أنواع المشقات. وهذا هو اعتبار جنس الوصف في الحكم.
وأضيف إلى ذلك: فإذا قيل إنه قد ثبت اعتبار جنس المشقة في القصر وفي الجمع وفي إسقاط التكاليف (كما في إسقاط الصلاة عن الحائض)، وفي إسقاط الأداء بالنسبة للصوم كما في السفر وفي المرض وفي الحيض، فإن هذه الأحكام هي أنواع من التخفيف في التكليف فيجمعها جنس التخفيف. مثل هذا يكون من قبيل اعتبار جنس الوصف (وهو عموم المشقة) في جنس الحكم وهو عموم التخفيف.
هذا القسم من الاعتبار هو الذي يسمى المناسب المرسل أو المصالح المرسلة. وقولهم مرسل هو لأنه تمت عملية تجنيس أو تعميم للوصف أو للحكم بغير دليل.
فإذا كانت مشقة السفر معتبرةً فكيف يتم التعميم لتشمل سائر أنواع المشقات. وإذا كانت مشقة السفر ومشقة المرض ومشقة الحيض معتبرةً فكيف يتم التعميم ليشمل الوصف سائر أنواع المشقات. وكذلك يقال في اعتبار جنس الحكم، فإذا كانت المشقة معتبرة في قصر الصلاة أو في جمع المكتوبتين أو غير ذلك فكيف يتم التعميم ليقال إن المشقة معتبرة في جنس تخفيف التكاليف. [هذه الأمثلة وغيرها نجدها في شفاء الغليل. وإرشاد الفحول. وفواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت للأنصاري].
إن الافتقار إلى دليل يدل على التعميم أو التجنيس في الوصف أو في الحكم هو معنى قول مصلحة مرسلة أو مناسب مرسل. ولذلك فهذا النوع من الاعتبار وهو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، وهو المصالح المرسلة، ليس منه أن يتصور الناظر مصلحة بحساباته أو بحكمته ثم يقول بها دليلاً على الحكم بل لا بد أن يظهر اعتبار نوع هذه المصلحة أو أنواعٌ منها في جملة أحكام حتى يصح القول بها عند القائلين بالمصالح المرسلة. وأما القول بمصلحة معينة والتشريع بناءً عليها من غير أن يظهر اعتبارها في حـكـم أو في أحكـام، فـهـو باطـل ومـردود بالاتفاق كما سيتبين.
2ـ الملغى:
هو وصف مناسب أو وصف مصلحي عقلاً، قد يكون معتبراً، في حكم أو أكثر، وقد لا يظهر اعتـبـاره، إلا أنه في كل هذه الحالات يكون مُلغىً. وله حالتان:
الأولى: أن يُبطله نص. وذلك كفتوى أحد الفقهاء لأحد السلاطين وقد واقع في شهر رمضان بان عليه صيام شهرين متتابعين، مع أن حكم الشرع في هذه الواقعة إعتاقُ رقبة فمن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، على الترتيب. فلما خرج الفقيه سأله الفقهاء: القادر على إعتاق رقبة كيف يُعدل به إلى الصوم؟ فقال لهم: لو قلت له أعتق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً، فلا يزجره ذلك ويزجره الصيام. فهذا هنا مناسب لأن الزجر وصف مناسب ومعتبر في العقوبات والكفارات. ولكن هذه الفتيا باطلة بالاتفاق لأنها عارضت نصاً وهو حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدل على الترتيب في الكفارة بدءاً بإعتاق رقبة [روى الجماعة: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتقُ رقبةً؟ قال: لا. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال:لا. قال ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيه تمر، قال: تصدَّقْ بهذا، قال: فهل على أفقر مِنّا فما بين لابتيها أهلُ بيت أحوجُ إليه منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: اذهب فأطعمه أهلك»]. فهذا المناسب ملغىً. [هذا المثال مكرر في كتب الأصول. وانظر الاعتصام للشاطبي ج2/ ص66].
الحالة الثانية: أن يكون الوصف مُـلغىً، ليس بدليل وإنما بمجيء حكم أو أكثر وَفق نقيض الوصف. فإذا قيل مثلاً إن المشقة وصف مناسب في أحكام الرخص في الصلاة والصيام. يقال: إنَّ هذا منقوض بسفر الملك المترفِّه. ومعارض حيث لا يوجد رخصة للحمّـال والفران وذوي الصنائع الشاقَّـة في الحضر [كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري ج3 ـ ص514] .
[يتبع]
1999-11-24