الخلافة المرتقبة والتحديات (9)
2007/04/23م
المقالات
1,903 زيارة
الخلافة المرتقبة والتحديات (9)
لقد تحدثنا في حلقاتٍ سابقةٍ من هذا البحث عن أبرز التحدّيات والصعوبات التي تواجه الخلافة الإسلامية المرتقبة -القائمة قريباً بإذنه تعالى- من الخارج، أي التحديّات الخارجيّة، وذكرنا أيضاً بشيءٍ من الإيجاز طرق التصدّي والصمود في وجه هذه التحدّيات.
ولن يقف الأمر عند حدّ هذه التحديات، بل إن الدولة -كما ذكرنا- تواجه تحديّات داخلية كذلك، وهذه التحدّيات لا تقل أهميةً عن التحديات الخارجية -وإن كانت أقل خطراً منها- وتحتاج إلى خططٍ من المواجهة والإعداد من أجل التغلّب عليها وتجاوزها في بداية قيام الدولة.
وأول هذه التحدّيات وأهمّها هي: (التعبئة الفكريةُ والمعنويّة) وذلك لمواجهة كافة المخاطر والصعوبات الداخلية والخارجية، وقد ذكرنا في حديثنا عن الحصار الاقتصاديّ إيجازاً في التعبئة الداخلية لمواجهة الحصار وفي هذه الحلقة نفصل قليلاً في موضوع التعبئة لمواجهة التحدّيات الداخلية.
لقد بدأنا بهذه النقطة (التعبئة) لأن معظم التحدّيات، الداخلية والخارجية، ترتبط بها ارتباطاً مباشراً. فالحرب الخارجية -العسكرية وغير العسكرية- من حصار وغيره، تحتاج إلى إعداد فكريّ ومعنويّ لمواجهتها، ونقص الموارد الداخلية مقارنةً مع حجم التبعات والمتطلّبات أيضاً يحتاج إلى تعبئة للصمود والتصدّي والاستمرارية، وعملية التطبيق الانقلابي للإسلام في جميع مؤسسات الدولة، المدنية منها والعسكرية، يحتاج كذلك إلى تعبئة عامة للعقليات والنفسيّات عند الناس، ونقص معدّات التسلّح والوسائل المدنية المرتبطة بأمور الحياة اليومية يحتاج كذلك إلى تعبئة… إلى غير ذلك من صعوبات وعقبات، داخلية كانت أو خارجية، فكلها تحتاج إلى تعبئة. ولا نبالغ إن قلنا إن التعبئة هي رأس الحربة في كل ألوان المواجهة والتصدّي للتحدّيات والصعوبات التي تواجه دولة الخلافة المرتقبة، والأمة التي لا تملك هذا السلاح سرعان ما تنهار وتنهزم أمام أول الضربات حتى ولو ملكت كل أنواع المواجهة الأخرى.
فما المقصود بالتعبئة، وكيف نوجدها في الأمة لمواجهة التحدّيات والأخطار المختلفة؟؟
المقصود بالتعبئة هنا هو رفع مستوى الأمة فكرياً ونفسياً بالإسلام (عقيدة وأحكاماً) لدرجةٍ تقوى معها على الصمود ومواجهة الأهوال والتحدّيات، وتُقْدِم على اقتحام المخاطر دون التفاتٍ إلى الموت، وتجوع وتعرى دون أن تلتفت إلى متع الحياة الدنيا، بل تنظر إلى مرضاة ربّها وتصبر وتحتسب أمام كلّ هذه العقبات.
بمعنى آخر هي عملية إيجاد القناعات الراسخة في العقول، وشحن النفسيّات شحناً إيمانياً يوصل الأمة إلى درجة لا تنظر معها إلى الطين والتراب، بل ترتفع عن كل ذلك وتتّصل بخالقها صلة روحيةً سامية…!!
أما كيف نوجد هذه الصفة السامية العالية في أفراد الأمة فإن ذلك يحتاج إلى أمور، ومن هذه الأمور:
1- بيان ما نحن عليه من عقيدةٍ سليمةٍ وشريعةٍ مستقيمة، مقارنة مع ما عليه أتباع الحضارة الغربية بشكل خاصّ، والكفار بشكل عام.
وهذا البيان يولّد في نفسيّة المسلم شحناتٍ إيمانيةً تدفع المسلم للتصدّي والتحدي في مواجهة الكفر، وتجعله أكثر استعداداً للتضحية من أجل بقاء هذا الدين المستقيم، وبقاء دولته التي تحمله وتطبقه في الناس، كما يجعل المسلم أكثر كراهية للكفر والكافرين، ولما هم عليه من عقيدة فاسدة، وأحكام ومعالجات ساقطة هابطة.
2- بيان أهداف الكفار وغاياتهم بأنهم يهدفون من محاولاتهم لهدم هذا الكيان الجديد لإبقاء الأمة الإسلامية تابعةً لسياساتهم، ونهباً لثرواتهم وصناعاتهم، وسوقاً لمنتجاتهم، كذلك بيان أن كراهيتها لهم نابعة من كراهيتهم لأمّة الإسلام ولدينها كأمة تحمل ديناً إلهياً سماوياً. ومن هذا المنطلق العقديّ فإنهم يحرصون على القضاء على الأمة، ويحرصون على عدم بزوغ هذا النور الإلهيّ وظهوره في الكرة الأرضية على شكل كيان سياسيّ له قوةٌ وسلطان!! وقد ذكرنا في الحلقات السابقة الآيات والأحاديث التي تتحدث عن هذه البغضاء والكراهية.
3- الوقوف على حقائق التاريخ عبر العصور المتتابعة، منذ عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وحتى يومنا هذا، وبيانها وكشفها للأمة الإسلامية، وذلك لبيان الوقائع العمليّة التي تُصدّق الإخبار الإلهي، وفي نفس الوقت إثارة الأمة ضدّ همجيّة الكفار وأساليبهم الدنيئة في تحقيق غاياتهم الهابطة ضد أمة الإسلام.
4- التعبئة الفكرية والنفسيّة للحثّ على التضحية والفداء والإيثار، والتكافل الاجتماعيّ بين الناس في وجه الحصار، وفي وجه قلّة الموارد الداخلية في الدولة!!
وهذا بالفعل ما فعله رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في بداية الدعوة في أوقات الشدة والأزمات الاقتصادية والسياسية، حيث حثّ على التكافل وبيّن جزاءه عند الله، وحثّ على الإيثار بالنفس والمال لمصلحة الجماعة، وبيّن عاقبتة الطيّبة عند الله…
فإذا وجدت القناعات الذاتية بالصمود والتصدّي والعمل لإنجاح هذا الإنجاز العظيم، فإن ذلك يوفّر على الدولة العناء الشديد في فرض القوانين التقشفية والبرامج، وذلك لأن سدّ الخلل يحصل عند الناس بشكل تلقائيّ ومن دافعٍ ذاتيّ.
5- تنبيه مفاهيم الأعماق -المتصلة بالعقيدة الإسلاميّة- في قلوب الناس، وخاصّةً مسألة الجزاء الأخرويّ. فمفاهيم الأعماق إن استقامت وتنبّهت عند المسلم فإنه يصبح شخصيّة ملتزمة ومندفعة تحبّ البذل والعطاء، والتضحية والفداء، ولا تبالي بما تلاقي في سبيل ذلك من عقباتٍ ومشاقّ.
6- ترسيخ مفهوم الجماعة والقيادة والإمارة في أذهان الناس، وذلك ببيان معنى الفرد والجماعة، والرابط بينهم. فيرسخ في أذهان الناس في داخل الدولة أهميّة المحافظة على وحدة الجماعة، عن طريق المحافظة على كيان الدولة وقيادتها؛ لأن الدولة هي السفينة التي تحمل أبناء المجتمع في وسط عَدائيّة الدول الكافرة، وإذا غرقت السفينة -لا سمح الله- فإن أبناء الأمة يغرقون في مستنقع الكفر والتبعيّة من جديد، وتعود المعاناة أشدّ ممّا كانت عليه سابقاً. فكل مسلم مطالب بالدفاع عن ثغرة هو واقفٌ عليها، ومطالب كذلك بدفع السفينة للأمام وبحراستها وحراسة مقدّراتها.
7- ترسيخ مفهوم العزة والكرامة في عقول أبناء الأمة ونفسيّاتها. فالأمة التي تعرف نفسها تأبى إلا أن تكون عزيزة أبية، وهذه المعرفة تحتاج إلى بيان، وتحفيزٍ عند أبناء الأمة المسلمة. فالأمة الإسلامية مرّت في أدوارٍ وفي وقائع تاريخيّة وأزماتٍ متلاحقة أنستها حقيقة نفسها، لدرجة أنها صارت -في أغلبها- ترضى بالواقع الذي فرضه الاستعمار فوق رقابها، بل وتستسيغه أحياناً!! وهذا الأمر ليس صعباً على أمةٍ تحمل عقيدةً فريدةً وأحكاماً مستقيمةً، وتاريخاً وضّاءً لم يمض عليه زمن طويل. فتُذكَّرُ الأمة بتاريخها وهي تقف على أبواب فرنسا عند جبال البرانس، وبتاريخها وهي تدخل أواسط أوروبا الشرقية، وأواسط روسيا حتى موسكو، وتدين لها الهند والصين وأواسط آسيا، وتُذكّرُ بأنها أمة ما عرفت إلا العزة والقوة في تاريخها ولم تعرف الذلّة ولا الانكسار.
وهذه القضيّة هي من أهمّ أمور التعبئة عند الأمة، لأنها تجعل أفراد الأمة يتصرفون في المواجهة والتحدي تصرف العزيز الأبيّ الذي يريد العزة والقوة والسموّ، لا تصرّفَ الذليل الذي استمرأ الذل ورضي به سنين طويلة!!
هذه أهم النقاط العملية في تعبئة الأمة ضد محاولات الكفار للصدّ عن سبيل الله، وهدم كيان الأمة.
وهذه المسألة (التعبئة) ليست صعبة، ولكنها تحتاج إلى حسن التأتّي، وتحتاج إلى التكرار والمثابرة، حتى تصبح مفاهيم الإقدام والتضحية والثبات سجيّة من سجايا الأمة فرداً فرداً.
والأمة والحمد لله، تحوي طاقات من العلماء والمبدعين المؤثّرين في هذا المجال، وتملك كذلك الأساليب والوسائل الكثيرة الكفيلة بإيصال هذه الفكرة إلى عقول وقلوب الأمة.
فإذا وصلت الأمة إلى درجة عالية من التعبئة الفكريّة والنفسيّة فإنها -كما ذكرنا- تصبح طاقةً مندفعةً، وتصبح قوةً عصيّةً على كلّ محاولات الكفار، حتى ولو جاعت أو عَرِيتْ أو فقدت رغد العيش في بداية الأمر، وبذلك تكون دعامةً لهذه الدولة بدل أن تكون عبئاً عليها، وتكون حارساً أميناً بدل أن تكون معول هدم، وتكون قوةً مندفعةً للأمام تدفع معها كلّ كيان الدولة بدل أن تُثقل الحمل على كيان الدولة!!
[يتبع]
أبو المعتصم – بيت المقدس
2007-04-23