روّاد الإصلاح بين الماسونية والتغريب: محمد عبده
1987/10/25م
المقالات
5,548 زيارة
محمد عبده
إعداد: سمير الزين تمتمة البحث المنشور في العدد السابق
دعايته للقومية والوطنية والعلمانية الكافرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية».
بذر الغرب بذرتي «القومية» و«الوطنية» في أراضي الخلافة الإسلامية لهدف واحد هو أضعاف الرابط الديني بين أبناء الأمة الإسلامية وتقطيع أوصالها من الداخل للقضاء على هذه الدولة التي جمعت ووحدت بين كافة أجناس العالم وقومياتها تحت شعار واحد هو (لا إله إلا الله محمد رسول الله). فدس الإنكليز العديد من رجالهم في أنحاء الدولة الإسلامية لينادوا بفكرتي القومية والوطنية. فالمصريون أحفاد الفراعنة، واللبنانيون أحفاد الفينيقيين، والعراقيون أحفاد البابليين والآشوريين، والحجازيون أحفاد العرب أصحاب الأمجاد وأحق الناس بالخلافة التي خرجت من أرضهم المقدسة. و… هكذا بدأ الإنكليز يزرعون بذور التجزئة في نفوس الناس. وقد كان جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلاميذهما من أوائل دعاة القومية والوطنية في مصر، فأخذوا يدعون المصريين إلى (الفرعونية)، والعرب إلى العروبة، ودواليك…
وإليك ما يقول محمد عبده في مجلة «الوقائع المصرية» بتاريخ 28 نوفمبر سنة 1881. حيث يضمّنه تعريفه للوطن، وإيجابه التفاني في حبّه والذود عنه، فيقول: «تقرّر مما سلف أنه لابد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها، ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجراً صلداً، وإن خير أوجه الوحدة الوطن…
الوطن في اللغة محل الإنسان مطلقاً، فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض وتوطنوها، أي اتخذوها سكناً، وهو عند أهل السياسة سكنك الذي تنسب إليه، ويُحفظ حقك فيه ويُعلم حقه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطن إلا مع الحرية. وقال لا بروير الحكيم الفرنساوي: لا وطن في حالة الاستبداد، ولكن هناك مصالح خصوصية ومفاخر ذاتية ومناصب رسمية. وكان حدّ الوطن عند قدماء الرومانيين: المكان الذي فيه للمرء حقوق وواجبات سياسية».
ويردف قائلاً في موضع آخر من المقال نفسه في موضوع الولاء للوطن في كل حال «على أن النسبة للوطن تصل بينه وبين الساكن صلة منوطة بأهداب الشرف الذاتي، فهو يغار عليه ويذود عنه كما يذود عن والده الذي ينتمي إليه، وإن كان سيئ الخلق شديداً عليه… فإذا تقرر ذلك مما قلناه وجب على المصريّ حب الوطن… وهو الآن موضع حقوقه وواجباته التي حصلت له بما أوضحناه من دخوله في دور الحياة السياسة».
ولا بد لي أن ألاحظ هنا أن محمد عبده يستعمل اصطلاح «أهل السياسة» ليورد آراء الغربيين الرأسماليين من دون المسلمين. وقد كنا لنعذره وهو الشيخ والمفتي لو لم يكن للمسلمين سياسيون عدول يؤخذ عنهم، أما أن يكون الرسول أول السياسيين ويهمل محمد عبده أقواله فأمر يثيرني إلى حد العجب. فالرسول هو مؤسس النظام السياسي المسمى الدولة الإسلامية، لا عن رأيه بل التزاماً بوحي الله لأنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى)، وهذا الفهم أقرّه الصحابة مجتمعين فلم يفرّطوا للحظة بهذه الدولة التي شرعها الله وأوحى تفاصيلها ودقائقها.
الوحدة في الإسلام وللرسول قول مخالف في الوحدة لمحمد عبد، هو من جديد وحي من الله فالوحدة التي يقرها الإسلام هي وحدة العقيدة ووحدة الدولة الإسلامية إذ يقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) الآية، وحبل الله هو الإسلام لا الأرض، ويقول: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) الآية، فالولاء لا يكون لغير الله والطاعة لرسوله والأمراء من المسلمين، ولا يكون لعصبية وطنية. فالرسول يقول: «ليس منها من دعا إلى عصبية»، ويقول: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». ويقول عمر بن الخطاب: «الناس سواسية كأسنان المشط». إذن ينص الإسلام أن لا فضل لأحد من الناس على أحد بانتمائه إلى أرض ما أو عُصْبة ما، وإنما تكون المفاضلة بين الناس بحسب ولائهم لله وطاعته ورسوله وأمرائهم. والرسول يقول: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، فيكون بذلك يدعو إلى بيعة أمير واحد يجمع المسلمون عليه تحت راية واحدة، وهي تلك التي رفعها رسول الله وصحابته من بعده. ولا ينسى الرسول أن يؤكد على وحدة الدولة فيقول: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر [أي الثاني] منهما».
أما محمد عبده، فاختار تجاهل هذه الأحاديث والآيات كلها، وأجاز للمسلمين الفرقة، حضّ المصري على «حب الوطن». فلا مانع عنده من تجزئة بلاد المسلمين وتفريق كلمتهم، بل ويأمر بالتمسك بحدود هذه الكيانات، والذود عنها في وجه من قد يرغب بإعادة ضم بلاد المسلمين.
«الحزب الوطني الحرّ»
والجدير بالذكر هنا. أن محمد عبده كان من المساهمين في تكوين «الحزب الوطني الحر» في مصر، وهو الحزب الذي كان واجهةً للمحفل الماسوني. وقد نشر هذا الحزب برنامجه الرسمي في جريدة الشمس في أول يناير (كانون الثاني) سنة 1882، يدعو فيه إلى القومية المصرية التي يتساوى فيها المسلم المصري مع اليهودي والنصراني المصريين، في حين يظل المسلم من غير المصريين غريباً وأقلّ حقوقاً من هؤلاء. وهاكَ مقتطفٌ من هذا الدستور: «الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وأغلبيته مسلمون لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض ويتكلم بلغتها منضّم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية»(14). وهذا الكلام صريح وواضح في الدعوة إلى الوطنية والقومية المخالفتين للإسلام. وفي سنة 1900، أسس محمد عبده جمعية «إحياء العلوم العربية»، وسعى لدى المفكرين والحكّام في إعادة طبع كتب التراث القومي العروبي وتحقيق المخطوطات القديمة.
دعوته إلى فصل الدين عن الدولة (العلمانية):
ومن جديد، كان محمد عبده من أوائل الدعاة إلى فصل الدين عن الدولة، هذه الفكرة التي سعى الغرب الكفار عشرات السنين لبثّها بين المسلمين في البلاد التابعة لدولة الخلافة العثمانية المسلمة، هادفاً من وراء ذلك هدم كيان هذه الدولة التي كانت الوحيدة التي تمثل نظام الإسلام السياسي وفكره وعقيدته.
فقد أدرك الغرب أن قوة المسلمين تأتي من عقيدتهم ومدى التزامهم بها، فأراد إلغاء الدولة الإسلامية لإنهاء روح السيادة ليدهم، واستبدالها بالذل والهوان والحكم بأنظمة الكفر. وعمل على تكوين رجال يدعون إلى فكرته هذه، فقام محمد بعده وأمثاله يدعون إلى ذلك. وفي هذا يقول محمد عبده: «إن الإسلام يقف ضد هذا الوحيد والجمع بين السلطتين» [أي السياسية والدينية](15)، ويقول: «إن الجمع بين السلطتين، السياسية والدينية، هو الذي يعمل الباباوات وعمّالهم من رجال «الكثلكة» على إرجاعه لأنه أصل من أصول الديانة المسيحية عندهم، وإن كان ينكر وحدة السلطة الدينية والمدنية من يدين بدينهم…».
وهذا الكلام بجملته مناقض للواقع مناقضة تامة، وهو يدل على مدى انضباع محمد عبده بالحضارة الغربية الرأسمالية والثقافية المنبثقة عنها. فهذه الحضارة نشأت على أساس فصل الدين عن الدولة والتخلص من حكم الباباوات، فأخذ محمد عبده ـ عن سوء نية أو طيبها ـ يقيس الحكم الإسلامية بالنصرانية الكهنوتية الكافرة. فالإسلام يأمر، ولا يقر فحسب، بجمع السلطتين الدينية والسياسية، فهناك قول الله تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وقوله: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، وقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). والرسول نفسه باشر الحكم بنفسه عشر سنين، كان خلالها النبي المبلّغ والحاكم العادل. كما تجمع السِّيَرُ كلها على إجماع الصحابة على انتخاب خليفة للرسول يحكم بين المسلمين بالإسلام. أما النصرانية فهي ديانة روحية كهنوتية محضة، ليس في أصولها، ولا فروعها، نظام سياسي. فليس في الإنجيل ولا في التوراة دستور لدولة ولا أمر بها، وليس بين مفكّري النصرانية من كتب عن نظام الدولة النصرانية. أما حصل في التاريخ من قيام دولة كنيسية باباوية، فهو أمر اقتضته سنن الحياة وشهوة السلطة التي استولت على قلوب بعض الباباوات.
وفي هذا يقول الدكتور صابر طعيمة في رده على دعاة العلمانية الذي شبّهوا وضع أوروبا تحت حكم الكنسية بوضع الأراضي التابعة للخلافة الإسلامية: «… وحين أُرِيدَ نقل العلمانية إلى الشرق الإسلامي، غفل المسخَّرون ـ عن علم أو عن جهل غفلوا عن هذه الظروف جميعاً، غفلوا عن أنه ليس في ظروف الشرق الإسلامي التاريخي ما يبرّر فصل الدين عن الدولة، فلم يكن ثَمة اضطهاد من رجال الدين الإسلامي ـ إذا صحَّ التعبير للمقابلة مع رجال الكنسية ـ ولم يقع اضطهاد علماء المسلمين ـ للعلم والعلماء…
ولم يكن في تاريخنا الإسلامي محاكم تفتيش، ولا صكوك غفران وقرارات حرمان. والذين انحرفوا من العلماء عن جادة السبيل إلى ممالأة الحكام لفظتهم الأمة وجعلتهم وراء ظهورها… والذين كانوا لسان صدق حملتهم في حنايا صدورها وقدمتهم في أول صفوفها…!!
كذلك لم تكن الديانة الإسلامية لتسمح بالفصل بين الدين والدولة، لأن الدولة في فقه الإسلام قسم للدين لا قسيم [أي خصم]، فلا دين بغير دولة ولا دولة بغير دين!»(17).
جمعية العروة الوثقى:
أسّس جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده «جمعية العروة الوثقى» لتكون ستاراً يبثان من خلاله سمومهما القاتلة. وتظهر عمالة هذه الجمعية وأهدافها الخبيثة من احتضان أوروبا الكافرة لها ودعمها إيّاها وتسهيلها أمورَها. وقد كان لهذه الجمعية التي كان يتزعمها الأفغاني «فروع سرية في غالبية البلدان الإسلامية»(18). وقد استغل محمد عبده رئاسته لمجلة «العروة الوثقى» التي كانت تصدرها الجمعية لممارسة «نشاطات سرية متعددة، وتنقل في أوروبا كثيراً، وزار عدداً كبيراً من البلدان الغربية. وكانت زياراته سرّية بمجملها حتى أنه دخل مصر خلسة عندما اشتدت ثورة المهدي في السودان، ثم عاد إلى باريس ليمارس مهامّه القيادة لجمعية «العروة الوثقى»، حيث دبَّج عدداً من الرسائل التوجيهية إلى الفروع التنظيمية»(19). وهكذا يظهر جليّاً الدور الذي لعبته هذه الجمعية.
وعندما أدرك خليفة المسلمين آنذاك خطر هذه الجمعية على الإسلام، منع مجلة «العروة الوثقى» من دخول الأراضي التابعة لدولة الخلافة، وأمر بملاحقة أعضاء هذه الجمعية(20).
الدعوة للجامعة الإسلامية:
ومن أخبث الأفكار التي دعت إليها هذه الجمعية الدعوة للجماعة الإسلامية بديلاً للخلافة الإسلامية، وهي فكرة دعا إليها الغرب. وقام محمد عبده يروّج لهذه الفكرة بين المسلمين، ونجح في ذلك بعض النجاح(21).
الدعوة إلى النظام النيابي البرلماني:
فكرة أخرى من أفكار الغرب الرأسمالي حضّ عليها محمد عبده، وهي الدعوة إلى النظام البرلماني النيابي، «فهذا محمد عبده يكتب مقالين في سنة 1881 يؤيد فيهما النظام النيابي، ويدلل على وجوبه ولزومه للحاكم والمحكوم، كما يتكلم عن قيمة الرأي العام في تقويم الحاكم ومراقبة تصرفاته، وفي لمِّ التشتيت المتفرق من الآراء والمصالح بما يصون مصالح الوطن ويحقّق السعادة والرفاهية للمواطنين جميعاً»(22) .
وفي مقال له في جريدة «الوقائع المصرية، عنوانه (خطأ العقلاء)، قال: «إننا نستحسن حال الحكومة الجمهورية في أميركا، واعتدال أحكامها، والحريّة التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء نوابها ومجالسها، وما شاكل ذلك، ونعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة، ونعلم أن هذه السعادة إنما أتت لهم من كون أفراد الأمة هم الحاكمين في مصالحهم بأنفسهم، لأنهم أرباب الانتخابات، وإنما رؤساء الجمهوريات وأعضاء المجالس نواب عنهم في حفظ تلك المصالح والحقوق التي رأوها لأنفسهم… وتتشوق النفوس الحرّة أن تكون تلك الحالة بعينها لأفغانستان مثلاً، حال كونها على ما نعهد من الخشونة…»(23).
بعض فتاويه:
من فتاويه، إفتاؤه بعدم تحريم التصوير [أي الرسم]، وبصحة دفع الفوائد من صناديق التوفير، وبعدم ضرورة الحجاب التقليدي الشكل، وفي ذلك يقول:
«لا نجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة وإنما هي عادة عَرَضَتْ على المسلمين من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضّارة التي تمكنت من الناس باسم الدين والدين منها براء»(24).
ومن فتاويه أيضاً، إجازته الاستعانة بالجيوش الأجنبية عندما غزا الإنكليز الهند (وقد ذكرناه مفصلاً في ما سبق).
وقد دعا إلى مساواة المرأة بالرجل وساءه أن يرى الشكوك تثار ضد المرأة باسم الشرعية، وأكد أن الشريعة تنص على المساواة وأبدى تحفظه على رياسة الرجل للمرأة وقال إنها [أي الرياسة] تتحدد بالمؤهلات الفطرية والكسبيّة التي إذا تحققت للمرأة بطلت رياسة الرجل لها، وكأنه لم يسمع قول رسول الله: «ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، وقوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ).
كلمة أخيرة:
لا بد أن أوه هنا أنني حاولت ما أمكنني عرض مقالات محمد عبده وآراؤه المختلفة. وعرضتها على الإسلام وما كنت لأعرض له. وقد مات منذ زمن. ولها لولا أن هذه الأفكار ما زالت شائعة بين المسلمين، بل والأنكى من ذلك أن الأزهر يدرّسها ويحشو رؤوس علمائنا الجدد بها. وأنشد الله أن أكون أصبت الحق ولم أجانبه. والله الموفق.
__________________________________________
(14) الاتجاهات الوطنية ـ ص 154 ـ محمد محمد حسين.
(15) الأعمال الكاملة ـ محمد مارة ـ ص 106.
(17) أخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي ـ صابر طعيمة ـ ص 209 ـ 210.
(18) مجلة المنابر ـ العدد الرابع نيسان 1987.
(19) الأعمال الكاملة ـ ص 25.
(20) مجلة المنابر ـ العدد الرابع نيسان 1987.
(21) كتاب جمال الدين الأفغاني. المصلح المفتري عليه ـ د. محسن عبد الحميد. ص21.
(22) الاتجاهات الوطنية ـ محمد حسين ، ص151.
(23) الأعمال الكاملة، ص45.
(24) مجلة المنابر ـ العدد الرابع ـ نيسان 1987.
1987-10-25