مع القرآن الكريم:
(كان الناس أمة واحدة)
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)
جاء في كتاب «التيسير في أصول التفسير» لمؤلفه العالم في أصول الفقه أمير حزب التحرير عطاء بن خليل أبو الرشتة (حفظه الله تعالى وسدد خطاه):
يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:
-
أن الناس كانوا في بداية عهد آدم – عليه السلام – بعد أن أخرجه الله من الجنة وأنزله على الأرض، كانوا مقرين لله بالعبودية مؤمنين به سبحانه؛ فكانوا أمةً واحدةً، والأمة هنا هي مجموعة من الناس بعقيدة واحدة.
ثم بعد ذلك اختلفوا فأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، فبعث الله النبيين في أوقاتهم التي حددها سبحانه يبشرون المؤمنين برضوان الله والجنة وينذرون الكافرين بسخط الله والنار، وكان الله سبحانه ينزل معهم كتبه بآياته المبينة لهم الخير من الشر، وليحكم النبيون بينهم في كل ما يتنازعون فيه.
غير أن تلك الأمم كانت تختلف على رسلها، وكان أشدها اختلافاً علماؤها وأحبارها ورهبانها، فهم الذين كانوا يغيرون ويبدلون في الكتب المنزلة عليهم بعد أن جاءتهم الدلائل القاطعة المبينة للحق من الباطل، أي أنهم كانوا يعمدون إلى الباطل يفعلونه وهم يدركون أنه باطل، أي يضلون على علم دون حجة أو برهان بل استكباراً وعناداً وظلماً وعدواناً، أما الذين أخلصوا لله وصدقوا بما جاءهم رسل الله فأولئك كان الله سبحانه يهديهم سبيل الرشاد ويبين لهم ما أدخله المختلفون على رسلهم من تحريف وتبديل ليبتعدوا عنه فلا يقعوا في الإثم والضلال بل ينجيهم الله من ذلك بمنه وفضله (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فيها محذوف بعد (أُمَّةً وَاحِدَةً) أي فاختلفوا وأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، وهذا المحذوف يدلّ عليه (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) لأن إرسال النبيين مبشرين ومنذرين يعني أنهم أرسلوا إلى بشر مختلفين منهم من يستحق (البشرى) ومنهم من يستحق (الإنذار) وهذا يعني أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا فكفر من كفر وبقي على الإيمان من بقي، وكان هذا حالهم عندما أرسل الله رسله إليهم مبشرين للمؤمنين منذرين للكافرين.
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وفي هذا دلالة أن الرسل كانت لهم شرائع مسطورة في كتبهم ليقضوا ويحكموا في خلافات الناس ومنازعاتهم بموجبها على نحو قوله سبحانه (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة/آية48.
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).
(الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي علماء وأحبار ورهبان أهل الكتاب المنزلة بقرينة (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) فهم الذين يدركونها، والآية تدل أنَّ أشدهم اختلافاً هم أحبارهم ورهبانهم، فهم الذين يبدلون ويحرفون ويكتمون الحقّ وهم يعلمون.
(بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي استكباراً وظلماً وعناداً دون حجةٍ أو برهانٍ، وذكر (بَيْنَهُمْ) بعد (بَغْيًا) أي أن البغي متمكن فيهم فكأنه معهم أينما ذهبوا فهو جالس بينهم حيث جلسوا.
-
إن الآية الأولى تدلّ على احتدام الصراع بين الحق والباطل حتى ورسلهم بينهم، ليس هذا فحسب بل إن أهل العلم فيهم أشدهم اختلافاً وأنَّ المؤمنين قلة بينهم كما في الحديث: “يأتي النبي ومعه الرجل والنبي معه الرجلان…” (البخاري، وأحمد، والطبري).