الظلم الاقتصادي الناجم عن نظام النقود الورقية الإلزامية
2009/10/21م
المقالات
2,169 زيارة
الظلم الاقتصادي الناجم عن نظام النقود الورقية الإلزامية
صادق محيي الدين ـ الجزائر
لقد أصبح اليوم ظاهراً وجلياً أن من أخبث أساليب الغرب الرأسمالي في السيطرة على خيرات العالم بل وعلى شعوب العالم استخدام النقود الإلزامية، أو ما بات يعرف بالعملة الورقية، التي ليس لها أية قيمة ذاتية، ولا سند لها مطلقاً في عالم الاقتصاد والمال سوى قرار الجهات أو الدول التي أصدرتها. وقد فرضت الدول الاستعمارية الكبرى عملاتِها، بل وفرضت أميركا دولارَها على العالم كأداة للتبادل حتى صار هو المرجع، ومعلوم أن الدولار منذ 1971م في عهد الرئيس الأميركي نيكسون لم يعد ينوب لا عن ذهب ولا عن فضة، وذلك عندما أعلنت أميركا وقف العمل بنظام الذهب وفك الارتباط بين الذهب والدولار، أي أنها أوقفت قابلية تحويل عملتها إلى ذهب، ولم يعد للذهب منذ ذلك الوقت علاقة بالنقد وصار سلعة من السلع. وقد أقدمت أميركا على هذه الخطوة لكي تجعل من الدولار الأساس النقدي في العالم وتتحكم بذلك في السوق المالية الدولية وتهيمن عليها (وقد نجحت في ذلك بالقوة)، وصارت بصفتها الدولة الأولى والأقوى في العالم تعتبر العدولَ عنه خطاً أحمر لا يُسمح لأي كان بالاقتراب منه! وقد لوحظ ذلك مؤخراً -بعدما استفحلت الأزمة الاقتصادية الأخيرة- في محاولات بعض الدول مثل الصين وروسيا والبرازيل وغيرها طرحَ بدائل للدولار (سلة عملات، عملة موحدة…) وفي ردود أفعال الاستنكار من دول الاستكبار، خصوصاً أميركا، إزاء أي خطوة من هذا النوع أو ما يشبهها.
ولسنا هنا نتحدث عن هذه الهيمنة الاستعمارية الرهيبة المشاهدة اليوم (بواسطة الحكام العملاء في شتى البلاد) في أبشع صورها، أي في النهب المباشر لكل ثروات شعوب العالم وحرمانها منها، من تحت الأرض ومن فوقها، من البر والبحر، على مرأى من أصحابها: نفط، غاز، معادن، غابات، مياه، حيوانات، أسماك… وذلك بواسطة الشركات الرأسمالية، تحت مسمى الاستثمار أو الشراكة أو التعاون الاقتصادي، أو صفقات السلاح المشبوهة الباهظة التكاليف فيما يسمونه التعاون العسكري أو غير ذلك، لسنا نتحدث عن هذا فحسب، وإنما عن هذا الأسلوب الشيطاني والخبيث في استغلال ثروات الشعوب من خلال فرض تقييم السلع والجهود بعملة هم أصحابها، سواء في التبادل الدولي (ضمن قوانين منظمة التجارة العالمية أو المنظمات الاقليمية، أو غيرها…) أو في الإقراض الربوي بشروط من أجل الهيمنة باسم المساعدات (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي…)، وقد حرصوا على إضفاء الصبغة الدولية أو العالمية على كبرى هذه المؤسسات الاستعمارية وأمثالها لإعطائها الشرعية المطلوبة لتغطية وظيفتها الحقيقية. وقد تفننوا في سلب خيرات الشعوب من خلال هذه الحيل الخبيثة حتى وصلوا إلى أخذها -هي وجهود أصحابها- بأثمان زهيدة أو بدون أثمان على الإطلاق، أي بدون مقابل.
هذا على مستوى الدول، أما على مستوى الأفراد فتتجلى هذه السيطرة المنكرة أكثر ما تتجلى في ما يتمتع به الفرد الواحد منهم من قدرة شرائية لما يحمله من نقود في جيبه أو في بطاقته حيثما حل ونزل في أنحاء العالم. فترى الفرد العادي الدخل منهم -فضلاً عن غنيهم- يعيش عيش المترفين عندما يأتي مثلاً إلى بلاد المسلمين (وليس هذا هو حال بلاد المسلمين فحسب)، ولا يكلفه ذلك سوى القليل من نقوده أو البعض من دخله: يتمتع بأفضل خيرات البلاد، في أفضل الأماكن (عنده)، وفي أفضل الظروف، ويستفيد من أحسن الخدمات. مما قد يضفي عليه، كونه مادياً رأسمالياً نفعياً، سطوة وقوة وثقة في النفس وشعوراً زائفاً بالتفوق! ألا ترى أن جهدَه في بلاده، في ألمانيا مثلا أو سويسرا أو بريطانيا أو أميركا أو فرنسا أو كندا أو حتى إيطاليا وإسبانيا، يساوي أضعاف جهد المسلم هنا أو هناك في إحدى هذه البلدان المظلومة في شتى أرجاء المعمورة. ستجد في المحصلة أن الفارق يصل إلى عشرين أو حتى خمسين ضعفاً أو أكثر، إذا ما قُورن بين قيمة (ثمن) نفس الجهد عندما يُبذل في أميركا أو أوروبا وبين قيمته حين يُبذل في إحدى هذه الدول الفاقدة للإرادة والسيادة، المنهوبة والمغبونة دولياً، استناداً بطبيعة الحال إلى نفس المرجعية النقدية إنه ظلمٌ اقتصادي رهيبٌ و مروع يدفع بقوة كل الكفاءات وفي كل المجالات إلى الهجرة نحو بلاد الغرب الرأسمالي: علماء، خبراء، مفكرين، مهندسين،أطباء، صناعيين، حرفيين وتجار محترفين… وبهذه الطريقة يجري تكريس الرداءة والانحدار والضياع في الدول المنكوبة والمكلومة بخنجر الرأسمالية المسموم.
و قد اعتاد الكثير هذا الأمر واستمرؤوه، بل استساغوه وقالوا: هذا طبيعي، دولهم غنية وهم يصنعون وينتجون، وعملتهم صعبة! بينما عملتنا ليست صعبة، ونحن لا نصنع ولا ننتج!
أليست هذه مصيبة؟
والسؤال هو: ما سبب هذه الكارثة؟ وما السبيل إلى الخروج من هذه القبضة الاستعمارية المنكرة؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال نرى أنه لا بد من مقدمة فنقول:
إن المشكلة في الأساس هي مشكلة فكرية قبل أن تكون مشكلة اقتصادية، إنها مشكلة عقيدة أول ما يبحث فيها ما مدى انبنائها على العقل وموافقتها للفطرة ثم يبحث عن منهجها في التغيير ومدى انبثاقه عن هذه العقيدة وانضباطه فيها، ومتى تم الانطلاق من هنا تم تجنب الخلط بين الأمراض والأعراض وتبين ما هو من قبيل الأسباب وما هو من قبيل النتائج. فوحدها النهضة الفكرية (القائمة على مبدأ) توجد لدى الإنسان قاعدة فكرية، تجعل جميع أفكاره ومفاهيمه عن الحياة منسجمة انسجاماً متميزاً بتميز المبدأ. فإذا كان المبدأ هو الإسلام صار فكره في مجمله صحيحاً، مطابقاً للواقع، مؤصلاً ومرتباً إلى درجة عالية من الترتيب في الذهن، تتضاءل معه شيئاً فشيئاً -مع ارتقائه في الفكر- احتمالاتُ التفسيرات الخاطئة للواقع ومجريات الأحداث.
فههنا مسألة عظيمة يجدر بنا تجليتها وتبيانها، وهي واقع الأمة المزري اليوم وعملية التغيير وما هو متعلق به من أوضاع العالم. إذ لا يخفى علينا تباينُ أجوبة المسلمين، من مثل الآتي وغيره كثير:
1- ما سبب هذا الضعف والتخلف والتبعية في جميع الميادين: من الاقتصاد والسياسة، إلى الفكر والثقافة، إلى العلم والتكنولوجيا، إلى العمارة والفنون، إلى الزراعة والصناعة، وقل ما شئت..؟ ما سبب هذا الوهن والتخاذل والانكسار والتقهقر الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم بين الأمم؟ أو بتعبير آخر ما سبب جميع هذه الأوضاع السيئة الشديدة التعقيد التي يتخبط فيها الناس في بلاد المسلمين، حتى غدا المسلم في العالم كأنه عديم الوزن ومن أرخص ما يكون: دمه وعرضه وماله؟! يقول بعضهم: دولنا (بالجمع) ضعيفة ومتخلفة ونحن لا نصنع شيئاً، ويقول آخر: نحن نستهلك فقط ولا ننتج شيئاً…!! هل مثل هذه الأجوبة هي نتائج أم أسباب؟!
2- أهو تفرق المسلمين وتمزقهم إلى كيانات سياسية لا تحصى؟ أم أن هذا التشتت إنما هو نتيجة؟ وإذا كان نتيجة فما سببها؟ وعندما تجيب أنت أسأل أنا وما سبب ذلك؟ وأين ينتهي في البحث إذن؟
3- هل الاستعمار الغربي سبب أم نتيجة؟ أي بعبارة أخرى هل الاستعمار هو سبب مآسينا التي نشاهدها في بلادنا أم أننا استعمرنا بعد ما ساءت أحوالنا؟ ولماذا ساءت أحوالنا أصلاً؟
4- هل و جود (إسرائيل) في قلب بلاد المسلمين -وضياع فلسطين- سبب أم نتيجة؟ أي: هل من بين ما يحول بين نهضتنا ووحدتنا اليوم هو وجود (إسرائيل) في وسطنا؟ أم أننا عندما ننهض ستزول (إسرائيل) -هذا السرطان الخبيث- كتحصيل حاصل و نتيجة حتمية؟
5- هل الأزمة المالية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم -والذي نحن جزء منه ونتفاعل فيه- هي التي تسببت في تدهور أوضاع العالم سياسياً واقتصادياً بأن جعلت الدول القوية الكبرى والنافذة تتنافس على خيرات العالم وتتدخل عسكرياً على حساب الكيانات الضعيفة، وتسبب للجميع المتاعب؟؟ أم أن هذه الأزمة ليست سبباً وإنما هي نتيجة للنهم الاستعماري الشرس الذي لا يعرف حدوداً؟ أم أن المشكلة أعمق بكثير، و تكمن في الفكر الرأسمالي نفسه، أي في أيديولوجية الغرب الساقطة حضارياً والفاسدة من جهة العقل والشرع معًا؟ هذه أمثلة.
يسأل سائل فيقول: وماذا ينفعنا هذا البحث؟ نقول: ينفعنا هذا البحث نفعاً عظيماً في ترتيب الأفكار في الذهن أثناء النقاش مع الناس، وعلى وجه التحديد من أجل حمل المسلمين على العمل الجاد لتغيير الواقع الفاسد وتجسيد الحل الصحيح لمعضلة الأمة في هذا الزمان، ألا وهو استئناف الحياة الإسلامية أي بناء دولة ومجتمع على أساس الإسلام. ولا يخفى على مسلم أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بقوله (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل 125]، والمقصود في الثالثة: ناقشهم نقاشاً هادئاً، من أجل أن يظهر الحق و ذلك بالبرهان القاطع والتذكير الجميل. وكذلك ينفعنا هذا البحث في تحديد الأسباب الحقيقية للنتائج المشاهدة و المحسوسة في الواقع. إذ لا يخفى على عاقل أن التسلسلَ في النتيجة بردها إلى سببها ثم باعتباره نتيجةً هو الآخر والبحث عن السبب من جديد، لا بد أن ينتهي إلى ما نسميه: السبب الحقيقي للمشكلة. وعلى وجه التحديد ينفعنا في ثلاثة أمور مهمة في غاية الأهمية، وهي:
– تحديد قضية المسلمين الأولى وما هو ملح في العلاج من أمورهم وقضاياهم. ولا يخفى ما في الوقوع في الخطأ في هذه المسألة بالذات من ضرر. كمن يرى على سبيل المثال من أصحاب الجامعات أن مشكلة الأمة الإسلامية اليوم تكمن في تخلفها العلمي أو الصناعي، فيقدم العلاج في هذا الاتجاه وعلى هذا الأساس، ويرى أن مضاعفة الجهد الفردي في البحث العلمي وتكامل جهده مع جهود الآخرين -كل في اختصاصه- سوف يقلب الأمور في المجتمع ويحدث النهضة الشاملة المنشودة!
– تجنب الزلل في تقديم وتسليط العلاج من الشرع أو من العقل (حسب الحالة) في مختلف المسائل. ألا نرى أن الطبيب إذا خلط بين أعراض المرض وأسباب المرض يكون قد أخطأ خطأ شنيعاً قد يفضي إما إلى إبقاء المريض على المسكنات -وهو بقاء معتل لا ينفع في صراع الحياة- أو قد يفضي إلى موته من حيث أنه يبحث له عن النجاة. ثم ألا نرى في عالم المحسوسات أنه بمجرد ما يُعرفُ السبب الحقيقي وتتم إزالته فإن نتيجته تذهب معه ويكون بمثابة الترياق، وهذا مشاهد محسوس. أما في الفكر السياسي فمجاله واسع وأمثلته كثيرة لا يحدها حد ولا يحصيها عد.
– معرفة مآلات الأحداث في الصراع السياسي بين الدول وتطور الأحداث في العالم، وهذا مهم في رسم السياسات. مثلاً: هل سيجد الغرب حلاً جذرياً للأزمة المالية والاقتصادية الحالية أم أنها سوف تتعقد و تتفاقم؟؟ وما سببها أو أسبابها الحقيقية؟ ما الذي يحمل كاتباً ومحللاً من رجال الاقتصاد في الغرب (كمثال فقط) على التنبؤ الآتي كما جاء في إحدى الجرائد:
النظام المالي الأميركي في حالة إفلاس و فشل تام: 3600 مليار دولار هي قيمة الخسائر!!
«يرى عالم الاقتصاد الأميركي نورييل روبيني الذي كان أول من تنبأ (من الأميركان) بالأزمة الحالية قبل هذه الأحداث الأخيرة بفترة غير وجيزة، أن النظام المالي الأميركي لا يوجد له الآن حل (أي علاج)».
ثم انظروا إلى ما حمل عالمنا الجليل فتحي محمد سليم (رحمه الله) صاحب كتاب “الأسواق المالية”، في العدد 190 من مجلة الوعي الغراء (بداية سنة 2003م) أي قبل ست سنوات، على أن يكتب تحليلاً اقتصادياً مطولاً يستشرف فيه المستقبل (يُرجعُ إليه) عنوانه: “أميركا تقترب اقتصادياً من أزمتها الخانقة 1929م”، وها نحن اليوم نشهد صدق هذه النظرة المستقبلية، وأزمةُ أميركا ماثلةٌ أمامنا الآن.
يسعى كثير من أبناء الأمة في بلاد المسلمين -من خلال ما يترتب في أذهانهم من أجوبة على تلك التساؤلات حول الواقع المزري لأمتهم من جهة، وتحكم القوى العالمية في مصائر شعوب العالم بصفة عامة- إلى الإفلات من هذه القبضة الشنيعة المتمثلة في لعبة النقد الورقي الإلزامي، يسعون كأفراد إلى الهروب منها أو التخفيف من أثرها باللجوء إلى حلول فردية واقعية، علماً أن هؤلاء يعيشون في أوطان ودول شتى، أوجدها وأقامها الاستعمار على أساس الفكرة الوطنية، نذكر بعض ما عايناه مما قد يُتوهم أنها حلول للمشكلة:
1- التنكر كلياً للعملة الوطنية في اتجاه واحد أي عند القبض، بمعنى عدم التعامل بها فيما عدا الاستهلاك، واستبدال الدولار الأميركي أو أية “عملة صعبة” أخرى بها. نجد هذا في بعض البلدان التي يأتيها سياح من الغرب أو اليابان مثلاً، حيث يلجأ كثير من أصحاب المحلات ومرافق السياحة -في حدود ما تسمح به أو تتغاضى عنه الدولة المعنية- إلى عرض بضائعهم وخدماتهم مباشرة بالدولار أو اليورو لا بالعملة المحلية، إلا إذا ألح الزبون، وعندئذ يُحسب له حسابه من جديد بسعر الصرف المعمول به. وهذا وإن كان محدوداً إلا أنه ينم عن حالة شاذة للغاية في واقع سياسات واقتصادات هذه الأوطان السقيمة.
2- ينشئ الواحد من هؤلاء الهاربين من واقع أمتهم مصدر عيشه هناك في إحدى الدول الاستعمارية الغنية بينما يعيش هو هنا في بلاد المسلمين، لا يستغرب هذا الأمر فلقد رأيناه وشاهدناه! يستفيد صاحب هذا الحل الذكي ذكاء من يريد أن ينجو بنفسه فقط، من الفرق الشاسع بين العملتين، ويعيش هو ومن معه فوق العادي بين بني جلدته باستقدامه نقودَه إلى البلاد التي هو فيها.
3- بينما يؤثر أكثرهم الهجرة وترك البلاد نهائياً ليَهَبَ كل شبابه وقوته للدولة المستعمِرة، ويعيش غريباً بين الآخرين وبعيداً عن أمته، وقد يعود نادماً في آخر عمره وقد لا يعود. ربما يكون هذا المهرب بدافع النقمة على الوضع السياسي العام، وربما يكون سعياً وراء المال والدنيا في رحلة لا تنتهي إلا بالموت في غالب الأحيان!
هذا على مستوى ما قد يقدم عليه الأفراد عادة، أما ما يقترحه بعضُ من يناقش مثلَ هذه الأمور والمسائل مما قد تقدم عليه -ولو نظرياً- الدول المسحوقة الموجودة اليوم، دائماً في محاولة للإفلات من القبضة الاستعمارية للعملة الورقية الإلزامية، ضمن معطيات الأوضاع السياسية العالمية والموقف الدولي الحالي فنجد ما يلي:
1- أن تغير الدولةُ عملتها وتتخذ عملة إحدى الدول الكبرى الفاعلة سياسياً واقتصادياً على المسرح الدولي عملة لها، وهذا لا يكون ولن يكون، ما دامت الدولة هزيلة وخاضعة ومستعمَرة، وهذا الحل يفترض موافقة الدولة الفاعلة، إلا أن نتائجه -إذا افترضنا حدوثه- تكون وخيمة على كيان الدولة إذ تفقد ما تبقى من إرادتها(المسلوبة أصلاً)، ولا تأمن حصول اضطراباتٍ خطيرة في داخلها إذ يفتضح زيفُها عند مواطنيها فور ما يكتشفون الحضيض الاقتصادي والمعيشي الذي هم فيه، وتدني ما يتقاضونه مقابل جهودهم وخدماتهم مقارنة بما يجري في العالم، وهذا ما تحرص الدول النافذة على ألا يكون.
2- أن تربط الدولة عملتها بعملة دولة كبرى بسعر صرف ثابت، مع حرية تبادل مقيدة أو غير مقيدة، وهذا ما نراه يجري في بعض “الدول” في بلاد المسلمين الجاري استنـزاف ثروتها من النفط أو الغاز بشكل جنوني يُخفي زيفها في الداخل أي كونها ليست دولاً حقيقية، فيظهر على مواطنيها شيءٌ من الرفاهية والعيش الكريم، لما حازته عملتهم من قدرة شرائية، طالما التزمت لهم دولتهم هذه بعدم فك الارتباط . وهذا سبيل مظلمٌ يمحق السيادة (بالمعنى المزعوم عند من يقول نحن دولة ذات سيادة!)، ويكرس التبعية، ويغمس في العمالة، ويورث الذلة والهوان!
3- أن تتحرر الدولة المعنية نهائياً من التبعية، كما هي حال الدول المستقلة فعلاً. وهذا سبيل لا تقوى على سلوكه سوى الدول المبدئية الارتقائية، وهو سبيل الانعتاق من قيد الاستغلال الاقتصادي، وهو سبيل الانعتاق مطلقاً، إلا أن له شروطه واستحقاقاته.
ونظرة فاحصة فيما تقدم تُري أن الحلول الفردية السالفة الذكر لا تستحق النظر فيها البتة، كونها لا تحل مشكلة أصلاً، فضلاً عن أنها تجعل من يتبنى أي واحدٍ منها حبيسَ نفسه، بعيداً عن أن يقدم شيئاً لأمته، بل يكرس الواقع السيئ في بلاده من حيث لا يشعر، أو يهرب من أرض الصراع و ساحة المعركة تاركاً أمته تنـزف، بينما المطلوب هو أن يهب كل طاقاته لأمته أياً كان موقعه!
أما بالنسبة للحلول الترقيعية التي تقدمها الدول المستضعفة فنظرة عميقة في واقع ما يجري في العالم اليوم تُرينا أن الدول الكبرى جعلت من نفسها المرجع والأساس، وجعلت شرعتها هي النافذة، وصارت تتحكم في بقية الدول والكيانات بفعل قوة السياسة والاقتصاد والثقافة، إلى جانب القوة العسكرية، حتى غدا من الصعوبة بمكان أن تنعتق أية دولة من فكي التمساح الرأسمالي الجشع، الذي لا يرحم و لا يشبع، وليس سهلاً أن تتحررَ من التبعية دولٌ لا تقوم على أساس مبدئي متين قادرٍ على سحق الرأسمالية البغيضة حضارياً.
ونظرة مستنيرة إلى العالم، وإلى أوضاع المسلمين اليوم، تُرشدنا إلى أن العالم كله بات الآن في انتظارنا نحن لنخلصه من شرور الرأسمالية الماجنة والفاسدة والمفلسة، وأن السبب الحقيقي لهذا الوضع التعيس الذي تعيشه أمة الإسلام الآن، إنما يكمن سببه حصراً في أننا لسنا نحيا بهذا الإسلام العظيم الحياة الإسلامية التي ارتضاها لنا رب السماوات والأرض. فأنّى لنا أن ننقذ العالم ونحن على هذا الحال؟! نقطة الانطلاق هي حتماً أن نقيم الحكم على أساس الإسلام لكي تستقيم شؤون الأمة جميعاً على أساس الشرع، ومنها الحياة الاقتصادية. هذا هو السبيل الوحيد إلى إنهاء جميع أنواع الهيمنة، ومنها سيطرة نظام العملة الورقية الإلزامية الذي يجري من خلاله نهب شعوب الأرض و إذلالهم، بل وسفك دمائهم والتحكم في مصائرهم، من طرف أصحاب الرأسمالية المقيتة.
اتضح اليوم لكل مبصر أن أصحاب الفكرة الرأسمالية لا يعرفون معنى للرحمة و ليسوا ولم يكونوا يومًا مؤتمنين على البشرية، ولا على ما أودع الله سبحانه لعباده من خيرات في هذه الأرض، وهم اليوم في مستنقع فصل الدين عن الحياة، قاطعين صلتهم وصلة حياتهم بوحي السماء، متبعين لأهوائهم في التشريع وفي كل شيء، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، حتى إن تداعي النظم السياسية ذاتها عندهم أصبح ظاهراً، وسقوط مجتمعاتهم بات وشيكاً. يقول تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف 34] قال في التفسير الميسر: ولكل جماعةٍ اجتمعت على الكفر بالله تعالى وتكذيبِ رسله -عليهم الصلاة والسلام- وقتٌ لحلول العقوبةِ بهم, فإذا جاء الوقتُ الذي وقَّته الله لإهلاكهم لا يتأخرون عنه لحظةً, ولا يتقدمون عليه.
وعندما يحكم الإسلام، الذي ستقوم دولته قريباً بإذن الله تعالى، وهي دولة الخلافة، عندئذ ينتهي نظام العملة الورقية الإلزامية، وتضع الدولة مكانه تشريع خالق الكون والإنسان والحياة في الاقتصاد، ومنه أن كل ربا موضوع، وأن النقد يجب ولا بد أن يستند إلى المعدنين الذهب والفضة، وستسعى الدولة إلى فرض التعامل بهما عالمياً… وعندها يزول الظلم الاقتصادي الذي تمارسه الدول الاستعمارية على الشعوب، ويستوي جميع الناس أمام العمل والجهد، حيث يصير المقياس واحداً في تقييم السلع والثروات كما في تقييم الجهود والخدمات.
إن المسلمين الواعين المخلصين هم أصحاب هذا الحل، أي التغيير الجذري لأوضاع العالم على أسس جديدة، بإقامة دولة الإسلام، ومن ثم حمله إلى الناس كافة, وهم وحدهم المؤتمنون على مصير البشرية في العاجل والآجل، في الدنيا وفي الآخرة.
يقول سبحانه و تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء 107]. ويقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة 143].
وهم أولاً وأخيراً مستجيبون لأمر ربهم في عملهم الدؤوب من أجل إقامة الحكم على أساس الشرع بإقامة دولة الخلافة على منهاج سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، باعتباره تكليفاً من الله، لا يرجون من وراء ذلك سوى رضوانه سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة. قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة].
2009-10-21