الحكمة في سنة الابتلاء والفتنة
2009/09/21م
المقالات
7,185 زيارة
الحكمة في سنة الابتلاء والفتنة
أبو أسامة
البلاء والابتلاء، والفتنة، والامتحان، والاختبار خمسة ألفاظ مختلفة تشترك في الدلالة على معنى واحد هو الاختبار، يقال في اللغة: بلاه يبلوه بلواً، أو بلاء، وابتلاء يبتليه ابتلاء: إذا جرَّبه واختبره، وفي القرآن الكريم: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) [القلم 17] أي اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجِيَفَ. وقال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة 124]: أي اختبره بما كلفه من الأوامر والنواهي. وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [ص 34]: أي ابتليناه واختبرناه. وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) [الممتحنة 10]: أي اختبروهن لتعرفوا إيمانهن. وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك 2] جعل العلة لخلق المؤمن والحياة اختباراً لعباده وابتلاءهم لتبيين محسنهم ومسيئهم وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155- 157] أقسم سبحانه إنه سيبلو عباده أي :يختبرهم بالمكاره والمصائب ليظهر صبرهم واحتسابهم ورضاهم بما قدَّره عليهم.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى ابن آدم وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة نعماً كثيرة لاتعد ولا تحصى، وجعل فيه غرائزَ وحاجاتٍ عضويةً وخلق له عقلاً مميزاً يميز به الصواب من الخطأ، وكلفه برسالة منه، فمن تبع هدى الله فقد اهتدى ومن ضل فإنما يضل على نفسه وخسر الدنيا والآخرة. فكانت الدنيا للإنسان دار اختبار وامتحان وابتلاء، فإما أن يلتزم أمر الله في إشباعه لغرائزه وحاجاته العضوية ويجتاز هذا الامتحان بنجاح وله خير الجزاء، وإما أن يخسر وذلك هو الخسران المبين. فكل خير يتفضل الله به على عبد من عباده هو اختبار له ليظهر شكره، وحسن استخدام النعم فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإن شكر فقد نجح في امتحان الخير، وأرضى ربه، واستحق المزيد من الخير لقول الله عز وجل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم 7].
وكثيراً ما يخفى على الناس أن النعم ابتلاء، فيظنونها تكريماً من الله لهم لا اختباراً لشكرهم فيسيئون استخدامها، ويغترون بها ولا يبالون إن كان ذلك يسخط الرب أم لا، فيفسدون ولا يصلحون وعلى الله يستعلون وبالله ونعمه يجحدون وبآلائه يكذبون، على نحو ما قصه القرآن عن قارون: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص 76-78]. والله عز وجل ذكر لنا أنه يبتلي عباده بالخير كما يبتليهم بالشر، فيقول سبحانه وتعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء 35]. ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» وكذلك قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان 20] أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان, فأراد سبحانه أن يجعل بعض الناس فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر, فالصحيح فتنة للمريض, والغني فتنة للفقير, والفقير الصابر فتنة للغني. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير, عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغني, عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه, وأن يصبر كل واحد منهما على الحق; كما قال الضحاك في معنى (أَتَصْبِرُونَ): أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعافَ؟ والأعمى يقول: لم لمْ أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره، فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى, ويحقر المعافى المبتلى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه, هذا عن البطر, وذاك عن الضجر. وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ويلٌ للعالِمِ من الجاهِلِ وويلٌ للجاهِلِ من العالِمِ، وويلٌ للمالكِ من المملوكِ وويلٌ للمملوك من المالكِ، وويلٌ للشديدِ من الضعيفِ وويلٌ للضعيفِ من الشديدِ، وويلٌ للسلطانِ من الرعيةِ وويلٌ للرعيةِ من السلطانِ، وبعضهم لبعض فتنة، وهو قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)» أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل ابن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل, وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر ابن الحارث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة وسالماً مولى أبي حذيفة ومهجعاً مولى عمر بن الخطاب وجبراً مولى الحضرمي وذويهم; فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: (أَتَصْبِرُونَ) على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر; فالتوقيف بـ(أَتَصْبِرُونَ) خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين, أي اختباراً لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون].
والابتلاء هو امتحان واختبار من الله تعالى لعبده الصادق ليعلم مدى صدقه وإخلاصه في محبته له. والابتلاء إما أن يكون امتحاناً من الله لعبده واختباراً له بالخير أو بالشر وإما أن يكون عقوبة له على ما اقترف من فعل المحرمات واجتراح السيئات، ويكون عقابه بمده بالنعم أو أن يصب عليه النقم. والابتلاء الذي هو امتحان واختبار أنواع كثيرة منها ابتلاء بتكليف عبده بأحكام أو برسالة كما في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة 124] ومن الابتلاء بالتكليف ما حدث لأصحاب القرية من بني إسرائيل (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف 163]، وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد 31] ويجوز أن يكون البلاء من الله مالاً يغدق على أحدهم، كما يجوز أن يكون نقصاً في المال والولد أو جوعاً وخوفاً وحرماناً، وذلك كما في الآية الكريمة: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء 35]. وكذلك نحن المسلمون كلفنا الله بأحكام كثيرة إن التزمنا بها كنا من الفائزين وخاصة في زماننا هذا حيث المنكرات الكثيرة وظهور الفساد في الأرض وانتشار المحرمات والموبقات والفرقة بين الناس والتشاجر والتناحر والتنافس على الشر وعلى النفاق للظالمين، وعلينا أن نقف وقفة الرجال ونكون في فسطاط الخير وأهله ونكون مع العاملين للإسلام والمتمسكين بأحكامه يوم تخلى الناس عنها، والذائدين عن حياضه، والصامدين أمام الطغاة وأعوانهم، والصابرين على أذاهم وأذى الناس المفتونين بالدنيا وزخارفها، ونكون بذلك من الفائزين.
وهناك ابتلاء بالمحن والشدائد والمصائب ليظهر العبد المؤمن المتقي الصبر والرضا والتسليم، وإن من سنة الله في خلقه أن يختبر إيمان المؤمنين بأن يصيبهم بما يكرهون، فإن صبروا ورضوا بما قدَّر ربهم فقد صدقوا في إيمانهم، فحامل الدعوة قد يبتلى و يمتحن بالتضييق عليه في رزقه وحرمانه من الوظائف أو المناصب الرفيعة لا لأنه ليس أهلاً لها ولكن ترفعاً منه عن المناصب التي تجعله قريباً من الحكام وأعوانهم الظلمة، أو محاربةً وتضييقاً منهم عليه. ومن الابتلاء بالمحن والشدائد ما تحفل به حياة الأنبياء والمرسلين قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف 111] وكذلك من انتهج نهجهم وحمل الدعوة مثلهم معرض للابتلاءات والفتن والنكبات ومحاربة الأهل والأقارب والأصحاب لهم والناس أجمعين حكاماً ومحكومين؛ فيصبح غريباً بين أهله وجيرانه وأصحابه وأقرانه وخلانه وهذا بلاء عظيم، قال تعالى: (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس 85]. أي لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك، هكذا روي عن أبي مجلز وأبي الضحى، وقال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا (تفسير ابن كثير). يبتلى حملة الدعوة والعاملون لنصرة هذا الدين بابتلاءات كثيرة ولكن أوجعها وأكثرها تأثيراً تأخر النصر وعدم استجابة الناس لهم، وكلما تأخر النصر ظن العوام أن حملة الدعوة والعاملين للإسلام على ضلال أو على خطأ فازدادوا تصلباً وبعداً عن نصرة الإسلام القويم ونصرة حملة الدعوة المخلصين. والابتلاء يكون لعباده المؤمنين العاملين لنصرة دين الله بتأخر النصر تمحيصاً لما في الصدور من إيمان، واختباراً لمعنوياتهم واصطبارهم على الشدائد والمحن، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة 214] فهذا إخبار من الله تعالى، ذكره أصحاب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة, وكما امتحن أصفياءه قبلهم، وقد كان أصحاب رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في شدة من أذى الكفار ومن الجوع، فصبروا على ذلك حتى فرج اللَّه عنهم، وكل من صبر فرج اللَّه عنهم، فإن الفرج مع الصبر وإن مع العسر يسراً، وكان الصالحون رحمهم اللَّه يفرحون بالشدة لما يرجون من ثوابها ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) [آل عمران 154]، كما أن الله يختبر عبده المخلص ليظهر كيف يكون حاله بعد بلاء تأخر النصر، وذلك في قوله تعالى: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا) [الأنفال 17]، وكما في قوله تعالى: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب 11]، وهذا البلاء يعني أيضاً اختبار الله تعالى للمؤمنين، حتى يظهر صدقهم وإخلاصهم وتوكلهم على الله في كل الأمور، كما جاء في الآية الكريمة (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة 49] وإن أكثر الخلق وأعظمهم ابتلاء هم الأنبياء مع أنهم أحب الخلق إلى الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «نحنُ معاشرَ الأنبياءِ أشدُّ الناسِ بلاءً». أما الأحاديث الواردة في الصبر على البلاء فهي كثيرة ومنها ما رواه أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ…»، ومنها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب بن سنان). وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر 10] والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ومما ورد في الأحاديث في الصبر على البلاء قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» (رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة).
ومن أنواع البلاء النعمة والمنّة الإلهية والعطايا الربانية فإنما هي مذكورة في الآية الكريمة في قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان 2] وقوله عز من قائل: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر 15-16]. فالابتلاء هو نوع من الامتحان الذي يمر بها المسلم، سواء أكان خيراً أم شراً، نعمة أم نقمة، يمتحن بها الله عبده، فينعم عليه فإن اغتر بما أعطاه الله انتكس وأصبح من الخاسرين، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء] أي (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) في الدنيا (وَنَبْلُوكُمْ) نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) كفقر وغنى وسقم وصحة (فِتْنَةً) مفعول له أي لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم (تفسير الجلالين). فالابتلاء بالخير هو امتحان غير مباشر لا يدرك حقيقته إلا من صدق إيمانه، وصفت بصيرته، فأدرك أنه مسؤول عن كل ما يتفضل الله به عليه من الصحة. والابتلاء بالشر أهون من الابتلاء بالخير، فإن الامتحان بالشر امتحان مباشر يدركه عامة الناس، فكل من وقع فيما لا يحب من مصيبة أو فقد عزيز أو نقص في مال أو نفس يدرك -غالباً- أنه مُبتلى ومُختبر، فيلجأ إلى ربه يسأل اللطف والتخفيف والتعويض قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإذا ابتلي الإنسان بالشر ولم يكن صابراً راضياً واعترض على ابتلاء الله وخرج عن طريق الطاعة والإخلاص سقط وانتكس وأصبح من الخائبين، فلو صبر على ما ابتلاه الله به ورضي بما قسم له لأنعم الله عليه بنعمة من عنده ورحمة ورضوان.
وكذلك يبتلي الله عباده المخلصين الطائعين له الملتزمين أمره بالخير الوفير ليعلم مدى إخلاصهم، وهل يزيدهم من الله إيماناً وصدقاً؟ أم أنهم سيفتنون بهذه الخيرات الزائلة فيقعون في حبائل الشيطان ويكفرون بالله ويبتعدون عن طريق الحق طريق الرحمن؟
ويكون الابتلاء على قدر الإيمان فكلما قوي إيمان العبد اشتد ابتلاؤه، فالأنبياء أقوى المؤمنين إيماناً كان بلاؤهم شديداً، أخرج الترمذي عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ…». والابتلاء دليل على حب الله لمن ابتلاه من عباده المتقين الصالحين، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنهما) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» (رواه ابن ماجه). والصبر على البلاء يكفِّر السيئات ويرفع الدرجات فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (أخرجه البخاري). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» (رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة). وعن صهيب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب بن سنان). وبعض الناس يظن أن الذي يصاب بالأمراض ونحوها مغضوب عليه، ولولا أنه يستحق هذا لما نزل عليه البلاء، وليس الأمر كذلك فإنه قد يبتلى بالمرض والمصائب من هو عزيز على الله وأحبهم إليه كالأنبياء والرسل وغيرهم من الصالحين كما تقدم في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ» الحديث وكما حصل لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة وفي يوم أحد وغزوة الأحزاب ومرضه قبل موته (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما حصل لنبي الله أيوب عليه السلام، ولنبي الله يونس عليه السلام، وذلك ليرفع شأنهم ويعظم أجورهم وليكونوا أسوة صالحة للمبتلين بعدهم.
وقد يبتلى الناس بالأسقام والأمراض ونحو ذلك ليس عقوبة للعبد المتقي الله في شؤونه كلها، ولكن لحكمة بالغة منها رفع الدرجات وحط الخطايا، عن عائشة (رضي الله عنها) عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» (متفق عليه). وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إن الرجلَ لَتَكُونُ له الدرجةُ عند اللَّهِ لا يبلغُها بعمِلِه حتى يُبتلى ببلاءِ في جسمِه فيبلُغُها بذلك». وقد يبتلى الإنسان بالسراء كالمال العظيم والنساء والأولاد وغير ذلك فلا ينبغي أن يظن أنه بذلك يكون محبوباً عند الله إذا لم يكن مستقيماً على طاعته، فقد يكون من حصل له ذلك محبوباً، وقد يكون مبغضاً، والأحوال تختلف والمحبة عند الله ليست بالجاه والأولاد والمال والمناصب، وإنما تكون المحبة عند الله بالعمل الصالح والتقوى لله والإنابة إليه والقيام بحقه وبالاستقامة، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنهما) قال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا أراد اللَّهُ بعبدٍ خيراً أو أرادَ أن يصافِيَهُ صبَّ عليهِ البلاءَ صباً، وَثَجَّهُ عليه ثَجّاً، وإذا دعاهُ قالتِ الملائكةُ: يا ربِّ صوتٌ معروفٌ، فإذا دعاه الثانيةَ فقال: يا ربِّ قال اللَّهُ تعالى: لبيكَ وسعدَيْكَ لا تسألُني شيئاً ألا أعطيتُكَ أو دفعتُ عنكَ ما هو شرٌ وادّخرْتُ عندي لك ما هو أفضلُ منه، فإذا كان يومُ القيامة جيءَ بأهلِ الأعمالِ فَوُفُّوا أعمالَهم بالميزان أهلُ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ والحجِ، ثم يؤتى بأهلِ البلاءِ فلا يُنصَبُ لهم الميزان ولا يُنشَرُ لهم الديوانُ ويُصَبُّ عليهم الأجرُ صباً كما يُصَبُّ عليهمُ البلاءُ، فيودّ أهلُ العافيةِ في الدنيا لو أنهم كانت تُقْرَضُ أجسادُهم بالمقاريضِ لما يَرَوْنَ مما يَذْهَبُ به أهلُ البلاء من الثواب فذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)». ومن أنواع الابتلاء عقاب على ارتكاب المعاصي التي يرتكبها العباد فيسلط اللهُ العاهاتِ والأمراضَ والمصائبَ والنكباتِ والآفاتِ والأمراضَ التي لم يسمع بها من قبل كالإيدز وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والخنازير والقرود والزلازل والبراكين والصواعق والأعاصير المدمرة كتسونامي وكترينا وغيرها، والهزات الاقتصادية وانهيار الأسواق المالية والهزائم والضعف والهوان والوهن ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) [القلم 17] فما أصاب أهل مكة، وما نزل بحديقة هؤلاء المانعين حق الله هو ابتلاء انتقام وعقاب. قال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف 168]. وروى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: مَهْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْراً، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ». ثم أيضاً قد يكون الابتلاء استدراجاً فقد يبتلى بالنعم يستدرج بها حتى يقع في الشر وفيما هو أسوأ من حاله الأولى قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف 182-183] عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ. ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام 44]» (رواه أحمد) أي آيسون من كل خير والعياذ بالله. ويقول جل وعلا: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون 55-56]. والمصائب في الدنيا التي تقع على الكافرين والعصاة بكسب الأوزار لقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى 30]. وهذا يفسر السعة التي يعيشها الكافرون والضيق والضعف والهوان الذي يحل بالمسلمين. وهنا يسأل البعض: كيف لنا أن نفرق بين من وقع عليه بلاء أن ذلك عقوبة وليس بلاء اختبار وتمحيص؟ ينظر إلى حال من وقع عليه البلاء، فان كان طائعاً لله ملتزماً أمره مطبقاً شرعه فهذا ابتلاء وامتحان وتمحيص واختبار وبالصبر عليه تكفر السيئات وترفع الدرجات، أما إن كان من المفترين المكذبين أو الكافرين المجرمين أومن العصاة المفتونين فذلك عقوبة لهم، فإن رجعوا وتابوا وإلى الله أنابوا فإن الله غفور رحيم ويبدل سيئاتهم حسناتٍ والسخط بالرضا والهزيمة بالنصر والعسر باليسر. وكذلك الأمم والشعوب ونحن في هذا الزمان حيث المصائب تتنزل على الناس أفراداً وجماعاتٍ وما ذلك إلا بما كسبت أيدي الناس واقترفت من معاصٍ واجترحت من سيئات، فما تنزل من نازلة إلا عقاباً للمخالفين لأمر الله وامتحاناً وتمحيصاً لقلوب المؤمنين الطائعين. كما أن بعض المفتونين بحضارة الكافرين يظن أن السعة التي يعيش بها الكفار والضيق الذي يعيشه المسلمون إنما ذلك لأن الكفار أفضل منا ومرضي عنهم أكثر منا وهذا ظن خاطىء، فالله سبحانه وتعالى يملي للكفرة العصاة أي يمهلهم ويمدلهم وما ذلك إلا ابتلاء لنا أنصبر ونهتدي ونعود إلى الله أم نفتن ونزداد بعداً عن الله. عندما يحصل البلاء للمؤمن فهو تخفيف لعقوبة الآخرة أو تكفير لسيئاته أو رفعة لدرجاته أو اختبار لإيمانه ولصبره .أما للكافر فهي عقوبة له، و البلاء يكون بسبب المعاصي والكفر، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41]. ووقوعه بتقدير الله وحكمته، فقد يبتلي أقواماً ويدع أسوأ منهم، وقد يبتلي المؤمن ويمهل الكافر بل يعفو عن كثير ، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) هذه حكمة البلاء للمؤمن وهذا يدل على قوة إيمانه إن صبر وادّكر، فقد سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ…» (رواه أحمد) ويدل ذلك على محبة الله للمؤمن المبتلى، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «… وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ…» (رواه الترمذي). وهي علامة لإرادة الله بعبده الخير، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا…» (رواه الترمذي) وأيضاً هي كفارة لذنوبه، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» (البخاري). وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155-157]، فالصبرَ الصبرَ أيها العاملون للإسلام، يا ورثة الأنبياء، يا حملة لواء الإسلام، ويا حملة الدعوة للأنام، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ. قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (رواه ابن ماجه). والبشرى العظيمة أن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) [يوسف 110]، وكذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلَمَ، وَذُلا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» (رواه أحمد).
و ليس من الصبر على البلاء عدم إنكار المنكر فالواجب عند وجود البلاء بالمنكرات هو إنكارها باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الطاقة، لقول الله سبحانه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة 71] ولقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (رواه مسلم) وعلى المسلمين عند الابتلاء بالمنكرات سواء أكان ذلك في البيت أم في الطريق أم في غيرها -منكرات أفراد أو دولة- الإنكار ولا يجوز التساهل في ذلك، فلنتواصَ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود 117]، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» [صحيح الجامع 1970].
2009-09-21