الاستحقاقات السياسية والاستحقاقات الشرعية
2003/09/20م
المقالات
2,055 زيارة
الاستحقاقات السياسية والاستحقاقات الشرعية
شاع في الآونة الأخيرة استخدام كلمة الاستحقاقات في وسائل الإعلام وعلى ألسنة السياسيين، وتردد ذكر هذه اللفظة للتعبير عن المطالب والحقوق التي لم يتم استيفاؤها، فتجد المسؤولين في السلطة الفلسطينية مثلاً يتحدثون عن استحقاقات المرحلة، أو عن استحقاقات اتفاقيات أوسلو وطابا وشرم الشيخ وكامب ديفيد2، وتجدهم اليوم يتحدثون عن استحقاقات خارطة الطريق، وأما المسؤولون والسياسيون المعارضون في لبنان فتجدهم يتحدثون عن الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية، وفي البحرين تجد الناس هناك يتحدثون عن الاستحقاقات الدستورية، وهكذا، ويستخدمون أحياناً كلمة الاستحقاقات للتعبير عن المعنى المقابل لها وهي كلمة الالتزامات، فيقولون أن علينا استحقاقات يجب تقديمها للطرف الآخر وفي هذه الحالة لا يكون الاستخدام دقيقاً.
ـــــــــــــــ
وللوقوف على واقع اللفظة من حيث اللغة والاصطلاح نجد أن الكلمة هي مصدر للفعل استحق والاستحقاق هو الحق الذي حان أجله ولكنه لم يستوف بعد فصار استحقاقاً. وقد يكون الاستحقاق مالاً جاء وقت تسديده ولكنه لم يقبض، أو قد يكون الاستحقاق أرضاً وجب أو حان وقت استردادها وتحريرها أو استرجاعها ولكنها لم تحرر أو تسترد أو لم تسترجع بعد، وقد يكون الاستحقاق إنجازاً لم يتحقق، أو قد يكون الاستحقاق مغنماً أو مكسباً لم يتم نيله بعد، وهكذا.
وعادةً ما يكون الذي يطالب بالاستحقاقات هو الطرف الأضعف أو الطرف المهزوم أو المقهور كالعرب مع اليهود وكالمسلمين مع الكفار المستعمرين من أميركيين وأوروبيين بشكل عام في هذه الأيام، وغالباً ما يحاول الطرف الأقوى تقليل أو تأجيل أو إلغاء الاستحقاقات التي للطرف الأضعف، أو قد يحاول تجاهلها واختزالها أو تغييرها لتتحول هذه الاستحقاقات إلى مطالب دائمة من الطرف الأضعف ووعود كاذبة من الطرف الأقوى.
وآليات العلاقة بين الطرفين تنحصر في المفاوضات والاشتراطات والضغوطات والمساومات والوعود والمناورات وقد تصل إلى الحروب المصطنعة أو غير المتكافئة.
أما الاستحقاقات في الإسلام ففيها تفصيل وبيان، فالله سبحانه وتعالى شرط على المسلمين شروطاً لتحصيل استحقاقاتهم بشكل عام، فجعل على رأس هذه الشروط الإيمان بالله، والاعتصام بحبله، والتمسك بشريعته، وإتباع سنة نبيه، والتزام أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية]، وقال: (فليحذر الذين يخالفون أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور]، وقال: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) [آل عمران]، وقال: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) [النساء].
وقد بين الله سبحانه في آيات كثيرة استحقاقات النصر، فعلق حصول النصر بشرط نصرة الدين، فقال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج]، وقال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) [محمد].
ويمكن إجمال الاستحقاقات الشرعية للمسلمين في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: استحقاقات المسلمين على الله سبحانه وتعالى وشرطها السعي لإقامة الدين وتطبيق الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض، ولا يتم ذلك إلا بإيجاد دار الإسلام وإقامة الخلافة الإسلامية، قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [النور]، وقال: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج]. فالله سبحانه وتعالى يعز المسلمين ويمنحهم النصر إذا طبَّقوا الإسلام وأقاموا الدين في الأرض أي تطبيق الإسلام وإقامة الدين شرط للمطالبة بالاستحقاقات التي لهم عند الله سبحانه وتعالى.
الحالة الثانية: استحقاقات المسلمين على حكامهم وشرطها إلزام الحكام بتطبيق الإسلام وحمله إلى العالم عن طريق الجهاد وإحسان هذا التطبيق، فإن طبَّق الحكام الإسلام كاملاً على الناس ولم يحسنوا التطبيق، فواجب على المسلمين أن يستمروا بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حتى يحسنوا التطبيق، وواجب عليهم أيضاً أن يستمروا بطاعتهم والتمسك بالبيعة لهم ما داموا حافظين لحدود الله وغير مضيعين لحرماته، فعن ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتةً جاهلية”. ومفهوم هذا الحديث يفيد بدوام الالتزام بجماعة المسلمين وسلطانهم ببيعة إمامهم، وقال صلى الله عليه وسلم: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم”. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا مطلوب وواجب ليبقى الحكام أخياراً يحسنون تطبيق الإسلام، أما إن تحول الحكام إلى أشرار وأظهروا الكفر البواح فيجب عندها منابذتهم بالسيف وقتالهم وإسقاطهم من الحكم كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وأن لا تنازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان”، وفي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: “قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة” أي الحكم.
أما في حالة تطبيق الحكام أنظمة الكفر على الناس ابتداءً فيجب العمل على إزالة هذه الأنظمة وتحويل دار الكفر إلى دار إسلام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وكما يجب أن يفعل الآن.
الحالة الثالثة: استحقاقات المسلمين على الكفار وشرطها حمل الدعوة إليهم وقتالهم وحكمهم بالإسلام وفرض الجزية عليهم واسترداد ما سلبوه من المسلمين ورد عدوانهم والظهور عليهم، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة]، وقال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال/39]، وقال: ( فقاتلوا أولياء الشيطان) [النساء/76]، وقال: (وقاتلوا المشركين) [التوبة/36] وقال: (فقاتلوا أئمة الكفر) [التوبة/12]، وقال: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) [التوبة/123].
فهذه هي الآلية التي فرضها الله سبحانه على المسلمين لانتزاع الحقوق من الكفار أي لتحصل الاستحقاقات منهم، ولا توجد في الإسلام آلية غيرها، أما الآليات التي يسير عليها المسلمون في هذه الأيام كالمفاوضات وتقديم الطلبات والمشاركة في المؤتمرات وفي حوارات الأديان والدعوة للتعايش بين الحضارات وما شاكلها فكلها آليات توسلية استجدائية لا يجوز لمسلم أن يستعملها، وكلها آليات فرضها علينا الكافر المستعمر وهي جزء من طريقته في نشر فكرته وهدفها تلويث أفكار الإسلام والحط من شأنها وإلغاء الجهاد وهي فوق كونها آليات محرمة حرمة قطعية فهي آليات قد جُرِّبت في المائة عام الماضية، حيث لم تحقق للمسلمين نصراً، ولم تدفع عنهم عدواً، ولم ترجع لهم أرضاً، ولم تجلب لهم أمناً، ولم تصن لهم كرامة، بل هي آليات فاعلة في جلب البؤس والشقاء وضنك العيش، وفي نشر المهانة والذلة والانكسار، وفي جر الويلات والهزائم والنكبات، وفي الارتكاس إلى حمأة الجاهلية والاستعباد. هذه هي الاستحقاقات الشرعية للمسلمين وهذه هي شروطها وآليات تلبيتها.
ولاستيفاء هذا الموضوع من كافة جوانبه بقيت مسألة لا بد من طرحها وهي مسألة استحقاقات الكفار على المسلمين، والتي هي الالتزامات الواجب على المسلمين الوفاء بها للكفار، والحقوق التي يجوز للكفار مطالبة المسلمين بها، وهذه الاستحقاقات تتمثل في أن يُحكم الكفار بالإسلام ويشعروا بعدله، ويستشعروا بأمان العيش في ظله، فعليهم أن يعلموا أن لهم حقوقاً عند المسلمين، ولهم أن يطالبوا بها، بل ويلحوا بالطلب عليها، وذلك بوصفهم من رعايا الدولة الإسلامية، وهم كسائر المسلمين لا فرق بينهم وبين المسلمين، فالحقوق الرعوية في الدولة الإسلامية تشملهم كحق الحماية، وحق ضمانة العيش، وحق المعاملة بالحسنى، وحق التعامل معهم بالرفق واللين، وبالجملة فلهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف، فينظر إليهم أمام الحاكم والقاضي تماماً كما يُنظر إلى المسلمين من دون أي تمييز.
قال صلى الله عليه وسلم: “نحن أحق من وفّى بذمته” وهؤلاء الكفار من حقهم أن يكونوا في ذمة المسلمين وجزء من رعايا الدولة الإسلامية، وقال صلى الله عليه وسلم: “من آذى ذمياً فقد آذاني”، وقال: “إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية”. ولذلك فعلى الكفار الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين أن يطالبوا المسلمين بحقوقهم هذه لأنها استحقاقات لهم وإن قصَّر المسلمون في توفيرها لهم .
أبو حمزة – القدس
2003-09-20