خُطبة جُمُعة: أمّ العـجـائـب
2003/08/20م
المقالات
1,917 زيارة
خُطبة جُمُعة:
أمّ العـجـائـب
الشيخ عصام عميرة
أيها المسلمون: جاء في كتاب «روائع من التاريخ العثماني» لأورخان محمد علي، أنه كان من عادة السـلـطـان (بايزيد الثاني) أن يجمع في قارورة ما علق بثيابه من غبار، وهو راجع من أية غزوة من غزوات جهاده في سبيل اللَّه. وفي إحدى المرات عندما كان السلطان يقوم بجمع هذا الغبار من على ملابسه لوضعه في القارورة، قالت له زوجته: أرجو أن تسمح لي يا مولاي بسؤال، فقال: اسألي يا (كولبهار) قالت: لِـمَ تفعلُ هذا؟ وما فائدة هذا الغبار الذي تجمعه في هذه القارورة؟ فقال بايزيد: إنني سأوصي بعمل طابوقة من هذا الغبار، وأن توضع تحت رأسي في قبري عند وفاتي… ألا تعلمين يا (كولبهار) أن اللَّه سيصون من النار يوم القيامة جسد من جاهد في سبيله؟ ونفذت فعلاً وصيته، إذ عُـمل من هذا الغبار المتجمع في تلك القارورة… غبار الجهاد في سبيل اللَّه… عمل منه طابوقة، وضعت تحت رأس هذا السلطان الورع عندما توفي رحمه اللَّه.
أيها المسلمون: هذا حاكم من حكام المسلمين فقه معنى الجهاد، وعرف متطلباته، وأدرك غاياته، واعتقد بنتائجه في الدنيا والآخرة. خاض غمراته بنفسه، قائداً لجيش المسلمين، مقاتلاً في سبيل اللَّه، خارج حدود دولة الإسلام، أغار على أعدائه، ولم يسمح لهم بالإغارة عليه، نقل المعركة إلى ساحاتهم، ولقنهم دروساً تنسيهم وساوس الشيطان. تأسى بأسلافه الذين خرجوا من المدينة المنورة ليفتحوا القسطنطينية كي تصبح له عاصمة بعد أن كانت معقلاً من معاقل الروم وعاصمة لامبراطوريتهم. فتحها نعم الأمير، ودخلها نعم الجيش، فكانت نعم العاصمة لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية التي حكمت خمسمائة عام ونيف. وفي زمن السلطان سليم الأول سارت سياسة الدولة العثمانية على أساس ضم الدولة الصفوية، وضم الدولة المملوكية، وحماية الأراضي المقدسة، وملاحقة الأساطيل البرتغالية، ودعم حركة الجهاد البحري في الشمال الأفريقي للقضاء على الأسبان، ومواصلة الدولة جهادها في شرق أوروبا. ورأى أن أوروبا النصرانية لا يمكن مواجهتها إلا بالمسلمين كافة، لذا يجب أن يخضع المسلمون لدولة واحدة. وكان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم من الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز الإسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش مقاتلين ومجاهدين مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب.
أيها المسلمون: هكذا كانت تتصرف الدولة الإسلامية العثمانية حيال قضايا الحرب والفتوحات والغزوات وما شاكل ذلك من أمور الجهاد في سبيل اللَّه طلباً أو دفعا. وهذا التصرف نابع من عرف جهادي موروث من أسلافهم الصالحين، رجال الدولة العباسية والأموية، ورجال الخلافة الراشدة الأولى على منهاج النبوة، والكل في ذلك يتأسى بما علمهم إياه رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الذي سنّ للمسلمين طريقة جهاد الكفار ونشر دعوة الإسلام، وكيفية التصدي للقوات الغازية، وإدارة المعارك معها.
أما منذ هدم الخلافة حتى يومنا هذا فقد أصبح الحال مختلفاً تماماً، ولم نعد نسمع عن غزوات أو معارك أو حروب بالمعاني التي عرفها المسلمون طيلة عهودهم، وإنما أصبحت بلاد المسلمين ساحات ضرب لا ساحات حرب، فصرنا نسمع عن اجتياح وتوغل، وتدمير وهدم، وقتل وجرح، واعتقال وأسر، وكل ذلك من قبل الكـفار على المسلمين. وفوق ذلك فإننا نشهد عجائب ما مرت في تاريخنا، مثل وقوف بعض المسلمين المجاورين للعراق على الحياد من الغزو الأميركي كموقف إيران وسوريا، ومثل التردد في منح التسهيلات للقوات الأميركية الغازية أو عدم منحها ثم منحها كما هو الموقف في تركيا، وصرنا نسمع ونرى تسهيلات تفوق حدود الوصف من جيران العراق الآخرين، حيث فتحوا أرضهم وديارهم وأجواءهم ومياههم، وقدموا أموالهم ودماء أبنائهم رخيصة في سبيل الأميركيين الغزاة الذين سيذبحون إخوانهم في العراق، كما فعلت الكويت والسعودية وقطر والأردن وغيرهم من دويلات الضرار، وحتى شقيقتهم (إسرائيل) قد أرسلت محاربين إلى جبهة العراق الغربية. وصرنا نسمع ونرى تهافتاً سياسياً يندى له الجبين من معارضة باكستان للحرب على العراق، وهم الذين لعبوا دوراً قذراً في تمكين الأميركيين من رقاب إخوانهم الطالبان الأفغان!
أيها المسلمون: هذه هي العجيبة الأولى، أما العجيبة الثانية، فإننا منذ هدم دولة الخلافة الإسلامية العثمانية ونحن نُـضرب ونقتل ونجرح ونؤسر ونعتقل وتدنّـس مقدساتنا وتغتصب نساؤنا وأخواتنا وبناتنا تحت سمعنا وأبصارنا، ولكننا لم نحارب الذين فعلوا ذلك بنا، وفي كل مرة يفتح أعداؤنا النار علينا فإننا ننشغل بإحصاء قتلانا والصراخ طالبين النجدة ممن لا يغيثون ملهوفاً ولا ينصرون مظلوماً.
وأما العجيبة الثالثة، فإن المخلصين من أبنائنا لا يتعلمون الدروس ولا يأخذون العبر من الذي يحصل لأمتنا، ويلدغون من نفس الجحر مرات ومرات. فنراهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وبعد كل فتنة ينخدعون ثانية ويعودون لما نهوا عنه. وإلا فما تفسير تلك الموالاة المحرمة من أبناء كثير من الحركات الإسلامية لحكام الكفر والظلم والفسق، وإحسان الظن بهم، واستمرار التنسيق معهم؟
وأما العجيبة الرابعة، فإن أهل القوة والمنعة فينا، ورجال جيوشنا قد أعماهم حكامهم بالدراهم والدنانير وموجات التضليل الكثيفة عن إبصار الأخطار التي تحدق بأمتهم، وصاروا حراساً للحكام وأسيادهم، ومدافعين عن مصالح الكفار في بلاد المسلمين، وتنكروا لعقيدتهم وأمتهم وشريعتهم، بل أصبحوا سيوفاً مسلطة على رقاب أمتهم، يمنعونها من التحرك للثأر لكرامتها، ويسوقونها للذبح في مسلخ أعدائها.
وأما العجيبة الخامسة، فإن الحاكم الذي يُـضرب شعبه، ويقصف قومه، وتدمر منشآته، وتحاصر بلاده، يبقى يتشدق بألفاظ جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وبعيدة كل البعد عن اللجوء إلى اللَّه وطلب المعونة منه، واستنـزال نصره، بل يتغنى بالشعوبية والرابطة الإنسانية والإرادة الدولية، وينشد الأشعار بدل تلاوة الآيات التي نزلت من فوق سبع سماوات.
وأما العجيبة السادسة، فإن شعوب العالم أجمع قد عبرت عن رفضها لشن تلك الضربة على العراق إلا الشعوب الإسلامية، وكأن الأمر لا يعنيها، والضربة ليست على أم رأسها! حتى لو منعت من التعبير فمن العجب أن تخضع وتذعن وهي الأقوى، وناصية التغيير بيدها.
وأما العجيبة السابعة، والتي تعتبر بحق أم العجائب أن تخرس ألسنة كثير من البارزين من علماء المـسـلمين عن قول الحـق، وأن يتخاذلوا عن مجرد الإفتاء بحرمة ترك العراق وحيداً يمزقه الوحش الأميركي ويحتله ويعيث فيه فساداً. وحرمة أن يتركوا أمتهم فريسة لهؤلاء الحكام العملاء وأسيادهم الكـفـار. ألا يغـارون على دينهم؟ ألا يخـافـون من ربهم؟ هـل هكذا علمهم الإسلام؟ وهل هذا هو دورهم الحقيقي في هكذا أوضاع؟ أم أنهم نسوا اللَّه فأنساهم أنفسهم؟ وسيكون علمهم وبالاً عليهم عندما تُـسَـعَّـرُ بهم نار جهنم أول ما تسعر.
أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
الحمد اللَّه وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، ءآللَّه خير أما يشركون؟ وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده المرتجى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المجتبى، وبعد أيها المسلمون:
أمام هذه العجائب وأمها، لا يملك المسلم إلا أن يستعين باللَّه عز وجل، ويشمر عن ساعد الجد كي ينخرط في صفوف العاملين المخلصين الجادين والهادفين لإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، وأما إن كان منهم فليعقد العزم على مضاعفة الجهد لنهضة هذه الأمة من كبوتها، بوضع النقاط على الحروف، وإزالة العجب الذي يتملك المسلمين في هذا الظرف العصيب، حتى يظهر الحكام وعلماء قصورهم على حقيقتهم، وحتى تستبين سبيلُ المؤمنين من سبيل المجرمين، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. فاللَّه سبحانه وتعالى يقول: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) وروى مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه بن مسعود أن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما من نبي بعثه اللَّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». فلنجاهد هذه الخلوف التي ملكت أمرنا، ولنعمل لمبايعة أمير للمؤمنين، يطبق شرع اللَّه فينا، ويحيي روح الجهاد في سبيل اللَّه ضد الكفار أعداء اللَّه ورسوله وجماعة المسلمين.
أيها المسلمون: أين الأخوة الإسلامية؟ وأين أنتم من قوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة) ، وأين أنتم من قول رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الذي رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه «المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله» أم أن تلك الثقافة غريبة عنكم، فإن كان الأمر كذلك فاعلموها، واعلموا أنها السـبيلُ الوحيد لنهضتكم ورفعتكم وخلاصكم من الشرور التي أصابتكم. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .
الجـمـعـة 18/01/1424هـ
الموافق 21/03/2003م.
2003-08-20