خُطبة جُمُعة: العجز والفجور
2003/06/20م
المقالات
2,104 زيارة
خُطبة جُمُعة:
العجز والفجور
الشيخ عصام عميرة
أيها المسلمون: أيهما أفضل عند الله، أن يقوم عالمٌ من علماء المسلمين بزيارة لحاكم من حكام المسلمين، يُنكر السنة، ويقتل حملة الدعوة، ويرفع كتابه الأخضر فوق القرآن الكريم، بحجة أن يطلب منه الإفراج عن بعض الأسرى المسلمين في سجون ذلك الطاغية، فيقال عن الشيخ إنه فاجر خارج عن طاعة الله، أم أن يعتذر الشيخ عن هذه المهمة ويعلن رفضه القيام بتلك الرحلة المهينة الآثمة، ولو أن يقال عنه بأنه عاجز عن نصرة قضايا المسلمين؟ ثم أيهما أفضل عند الله أن يقوم عالم آخر بالدعاء إلى الله أمام الملأ أن لا يقيم دولة الخلافة الإسلامية، وأن لا ينصر المسلمين، وأن لا تقوم لهم قائمة قبل مرور خمسين عاماً على الأقل، فيقال عن ذلك العالم إنه فاجر خارج عن طاعة الله، أم أن يُمسكَ عليه لسانه، ويسعَه بيتُه، ويبكيَ على خطيئته، ويعلنَ العجز عن خوض غمرات أعظم الجهاد في سبيل الله؟ وأيهما أفضل عند اللّه أن يشغل إمام نفسه وهو على منبر رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وملايين المسلمين ممن يصلون وراءه ويؤمنون على دعائه أن يشغلهم بمدحه لولي الأمر والقرآن في صدره، وهو على حافة قبره، أم تبيانُ الحرمة القاطعة للسماح، بل وتقديم جميع التسهيلات للقوات الأميركية كي تضرب المسلمين في العراق عبر سماء وبر جزيرة العرب؟ فإن لم تفعل ذلك من المنبر الذي ائتمنك عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فالزم بيتك، وأغلق فمك، وابك على خطيئتك، فإعلان عجزك خير من فجورك. ثم أيهما أفضل عند الله أن يقوم حاكم من حكام المسلمين بفتح البر والبحر والجو للقوات الأميركية الكافرة الغازية، بل ويسخّر أبناء القوات المسلحة المسلمة خدمة لهؤلاء العلوج، ويعلن فجوره وخروجه عن طاعة الله على رؤوس الأشهاد، أم أن يستقيل من الحكم، ويعلن عجزه عن التصدي لتلك القوات الغازية؟ ثم أيهما أفضل عند الله، أن يعلن أهلُ فلسطين عن عجزهم عن تحرير فلسطين أمام آلة الحرب الإسرائيلية، وتخاذل أخوانهم عن نصرتهم، أم يستمرون بإعلان الفجور السياسي، ويمعنون في خروجهم عن طاعة الله، بتعيين رئيس للوزراء في حكومة كاذبة خاطئة تفاوض المحتلين، وتسلم ما تبقى من بقايا فلسطين؟ ثم أيهما أفضل عند الله، أن يعلن الرجل عجزه وعدم قدرته على شراء بيت يسكن فيه مع أهله، أم يُقدم على شراء ذلك البيت بأموال الربا، ويعلن فجوره وخروجه عن طاعة الله؟ تلك أمثلة ومواقف، ومثل هذه الأمثلة والمواقف كثيرٌ حدوثُه، متعددة ظروفه، يقع فيه المسلمون، ويحار في تدبيره كثيرون.
أيها المسلمون: لم يتركنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيارى أمام هذه الخيارات الصعبة، بل إن الشرع الحنيف الذي نزل من فوق سبع سماوات يعلم ما يصلحنا وما يفسدنا، والله سبحانه وتعالى يقول: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك]، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعرف معاني العجز والفجور، ويعرف أن الرجل سيخير يوماً بين العجز والفجور، وأنه سيحتار في اتخاذ القرار. فأيهما أفضل؟ وما هو المخرج؟
أيها المسلمون: أخرج الإمام أحمد والحاكم وأبو يعلى، وقال السيوطي: حديث صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “سيأتي على الناس زمان يخير فيه الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور”.
قال الإمام السيوطي: (أي يخير فيه بين أن يعجَز ويُبعد ويُقهر، وبين أن يخرج عن طاعة الله، فليختر – وجوباً – العجزَ على الفجور، لأن سلامةَ الدين واجبةُ التقديم). ويضيف السيوطي “والمخير في ذلك الزمان بين العجز والفجور هم الأمراء وولاة الأمور” اهـ.
أيها المسلمون: لقد أدركْنا ذلك الزمانَ يا رسول الله، وقد خُيِّرنا بين العجز والفجور، فاخترنا العجز على الفجور كما أمرتنا. صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام وكذب أمراؤنا من حكام وعلماء قصور، هذا إذا افترضنا أن المفروضين علينا من علمائنا قد اختاروا فجورهم الظاهر للعيان على اعترافهم بالعجز! ولكن إذا ثبت أنهم لا يقرون بعجزهم، وإنما يتفاخرون بفجورهم، فتلك لعمري آفة كبرى، ومصيبة عظمى، وخيانة تاريخية لله ولرسوله ولجماعة المسلمين. وبناء عليه فإن المطلوب من حكام المسلمين اليوم – إن أرادوا الحسنى – أن يعلنوا عجزهم عن مواجهة أميركا، وأن يعلنوا عجزهم عن القيام على شؤون المسلمين، وحفظ دينهم وبيضتهم وكرامتهم، وأن تعلن الجامعة العربية عجزها عن تحقيق وحدة البلاد العربية من العالم الإسلامي، وأن تعلن منظمة المؤتمر الإسلامي عجزها عن جمع كلمة المسلمين، وأن يخجل مجلس (التهاون) التعاون الخليجي من نفسه ويخرج من الساحة السياسية مذموماً مدحوراً. والمطلوب من علماء القصور – إن أرادوا الحسنى – أن يضعوا عمائمهم على الرفوف، إيذاناً بعجزهم عن الوفاء باستحقاقات الشهادات التي يحملونها، واعترافاً بتخاذلهم عن خوض غمرات أعظم الجهاد في سبيل الله، وقولِ كلمة الحق في وجه سلاطين الجور، وأن عليهم أن يتركوا مجامعهم الفقهية، ومناصبهم الفضائية والأرضية، ليعودوا إلى بيوتهم، ويستغفروا ربهم من قبل أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قُبُلاً، ولن نطالبهم بتبرير عجزهم ذاك، فالله أعلم بالسرائر، وقد أُمرنا بالستر على المسلمين.
أيها المسلمون: لا يظنن ظان أن الساحة الإسلامية ستخلو من الأمراء، حكاماً وعلماء، بعد رحيل هؤلاء وأولئك، بل إن رحم الأمة قد أنجب والحمد لله رجالَ دولة متأهبين، وعلماء دين مستنيرين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقهوا دينهم، وصبروا على ما أصابهم من لأواء، أدركوا صلتهم بربهم وخافوا وعيده، فهانت عليهم صلتهم بحكام الجور، واستخفوا بتهديداتهم، وسخروا من رجال أمنهم وأجهزة تجسسهم. رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، حملوا الدعوة مخلصين، وعملوا مع الأمة ناصحين، وبسيرة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مقتدين ومسترشدين. فقهوا السياسة ليسوسوا الأمة بالإسلام، وليجابهوا أعداء الأمة باللسان ثم بالسنان، وتفقهوا في دينهم كي يعبدوا الله على علم وبيان، ويدعوا إلى سبيله على بصيرة وبرهان، فهم والله أجدر بالقيادة، وأحق بالريادة من رويبضات هذا الزمان. ولا يظنن ظانٌّ أن إعلان العجز معناه قعودَنا في بيوتنا، وسكوتَنا على منكرات حكامنا وعلماء قصورهم، كلا والله، فسواعد الجد مُشمَّرة، وقواعد العمل مقررة، وبيوت الله مجمَّرة، وأعمال إقامة الخلافة مستمرة. وعجزُنا عن قتال أميركا ومن شايعها ليس نابعاً من خوف أو فتور، ولكنها الفريضة الغائبة التي نعمل لإيجادها، وبعدها سنقاتل أميركا ومن يقف معها أو أمامها أو عن يمينها أو شمالها، ولتعلمن نبأه بعد حين!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فيا فوز المستغفرين!
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، ءآلله خير أما يشركون؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده المرتجى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المجتبى، وبعد أيها المسلمون: كم من مظلوم في الأمة الإسلامية لم يجد من يردُّ إليه مظلمته؟ وكم من قتيل فيها سُفك دمه المعصوم ولم يجد من يحميه؟ وكم من مسلمة طاهرة بكت عرضها المنتهك ولم تجد من ينتقم لها؟ من لهؤلاء؟ من لهؤلاء بعد أن غاب سلطان الإسلام الذي يذود عن الحياض، ويحمي الذمار، ويصون الأعراض؟ لقد أصبحت حياة المسلم بؤساً وشقاءً وهو يرى أمته ضعيفة مُهانة منكوبة تُنهش في كل يوم من كلاب الكفر المسعورة. محزنٌ والله أن تفقد الأمة سلطانها وهيبتها وعزتها، بعد أن كانت يوماً أعزَّ الأمم تحت راية الإسلام، عندما كانت تحكمها دولة الخلافة التي وحدت المسلمين، فلم تفرقهم حدود خطها الكافر المستعمر، ولم تشتتهم قوانين الإقامة الظالمة، بل كان المسلم يسير من أقصى الأرض إلى أقصاها لا يسأله أحد من أنت، ولا يصفه أحد بالأجنبي. عندما كانت هناك خلافة، رأى المسلمون عز الإسلام بعزة الخلافة، وسادوا العالم براية الخلافة، الخلافة التي طبقت الإسلام وحملته رسالة هدى ونور للعالم. ولكن أين هي الخلافة؟ لقد كانت، ولكنها هدمت، وألغيت كنظام، وهي عائدة من جديد قريباً إن شاء الله. وكما احتفلنا بذكرى الهجرة، يومِ إقامة الدولة الإسلامية الأولى، وتذكرنا يومَ سقوطها وهدمها، فإننا سنحتفل قريباً بإذن الله بيوم إعادة بنائها.
أيها المسلمون: لئن لم ينته حكام المسلمين وعلماءُ قصورهم عن إظهار الفجور، فإن الأمة الإسلامية لن تبقى ساكتة أبد الدهر عنهم، وخصوصاً عندما وُجدت البدائل الأصلح والأفضل فيها، وليعتبروا ذلك إنذاراً نهائياً لهم بالتنحي، واختيار العجز على الفجور، وإلا فالأمة ستطيح بهم، وستدمر عروشهم وإمبراطورياتهم، ولن يحميهم من بطش الأمة أحد كائناً من كان. ولن يكون بمقدور أميركا أن تدافع عنهم ولو بأم القنابل، إذا أخذ القوسَ باريها! فالأمة عصِيّةٌ على الهزيمة إن تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم). وليعلم هؤلاء وأولئك أن رياح التغيير قد أوشكت على الهبوب، تحمل بين يديها بشرى الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. ألا فالتحقوا بركب العاملين لها، وفوزوا بالظفر والنصر المبين، من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ولا تنشغلوا عن إقامتها بشاغل، فالعمر قصير، وطويل هو المسير، ومردنا إلى الله العلي القدير.
أيها المسلمون: لقد دنت ساعة المفاصلة مع هؤلاء الفجرة، واقترب وقت النزال مع أسيادهم الكفرة، فقوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وقولوا بخٍ بخٍ رجاء أن تكونوا من أهلها. فاللهم اجعلنا من أهلها، وعجل لنا بفرجك وبنصرك، وبقيام دولة الإسلام التي فيها حكمك، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين .
الجمعة 11/01/1424هـ.
الموافق 14/03/2003م.
2003-06-20