بلغاريا بين الحقد الصليبي والخوف المبدئي
1987/09/23م
المقالات
3,023 زيارة
إعداد: فاطمة رجبَّوفا ومصطفى عليلوف
ترجمة: محمد ثاني
ليس ثمة في العالم أهون من أن يذبح المسلم، أو يُشرّد أو تُصادر ممتلكاته، أو يُبتلى بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. ومع ذلك فهو بين مفتتن لم يستطع الثبات، وآخر قضى نحبه فقد صدق ما عاهد الله عليه، وثالث هان على نفسه فكان على غيره أهون، وحُرّ صامد لم تأخذه في الله لومة لائم.
وكأن مشكلة العالم بأسره في القضاء على هذه العقيدة، أو إبعاد هذا المبدأ عن الحياة. حقد صليبي ترعاه الكنيسة، وهلع مبدئي تقوده الدولة، وانحطاط قومي تنادي به الفئات والأحزاب. حتى بعد أن أُبعد الإسلام عن واقع الحياة، وأقيمت على رقاب المسلمين دويلات همها إبعاد الإسلام عن الحياة وإبعاد المسلمين عن مبدئهم، بات كل منهم مشغولاً بنفسه، مهموماً بما يخصّه، ناسين أو متناسين ما اختصهم الله به (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، لتكونوا شهداء على الناس)، أو وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) نسوا أو تناسوا أن كل مسلم مسؤول عن العالم بأسره، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لو عثرت شاة على شواطئ الفرات لخشيت أن يحاسبني ربي؟
ذلك ما يجب أن نكون عليه، وهذا ما نحن فيه الآن: أضعنا مجدنا، واستبدلنا الذل بالعزّة، وأصبحنا أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام. هُدمت خلافتنا فصفّقنا، ومُزّقت بلادنا فرضينا، وغُرست في نفوسنا بذورُ القومية والوطنية والإقليمية، فتعهدناها بالعناية والرعاية حتى نمت وترعرعت، حتى أصبحت أمتنا أمَماً وشعوباً، تتناحر وتتنافس في تثبيت أفكار الكفر ومفاهيمه.
مسألة بديهية:
ومن كانت هذه حاله، فليس غريباً أن يهون على غيره، حتى تجرأت عليه الشعوب التي كانت تحتكم إليه، وتطاول عليه من ضُربت عليهم الذلة والمسكنة. فهذه نتيجة حتمية لمن فقد شخصيته، وتنازل عن رسالته، وأساس قيادته للشيطان. سواء في ربوع المسجد الحرام وجوار الكعبة، أو في أكناف بيت المقدس، أو في الأندلس، أو في سمرقند أو في الهند، فالمصير واحد حتى يُمحى هذا الاسم من الوجود إن استطاعوا. وعلى سبيل المثال لا الحصر. أحببت أن القي بعض الضوء على ما جرى ويجري في بلغاريا. ذلك الإقليم الصغير الذي نعم أهله بالحياة والاستقرار ما يزيد على خمسمائة سنة فرّقته أيدي سبأ، وأصابه ما أصاب غيره من الأقاليم كالأندلس وغيرها. بل إن وسائل الإعلام أهملت ما يجري هناك، لا خوفاً من أن تتحرك أحاسيس المسلمين، أو أن يثور الدم في عروقهم، بل إن المسألة أصبحت في نظر العالم بديهية، فلا بد من استئصال هذه الكفرة، وإنهاء هذا المبدأ من الحياة. أما المسلمون فقد تبلّد إحساسهم، وتحجرت مشاعرهم تجاه هذا الأمر، ولم يعد العالم بأسره يخشى سماع صوت مسلم، أو صرخة مؤمن. أقول بلغاريا…
أنباء مفزعة!
ذكرت بعض وسائل الإعلام وبعض الهاربين من بلغاريا، وبعض الذين عاشوا في العقدين الأخيرين هناك أنباء مفزعة عما أحاق بالمسلمين هناك ليس لها شبيه إلا محاكم التفتيش وبيوت النيران، كالتنصير والتهجير والتشريد والقتل والتدمير، يدفعها إلى ذلك الحقد الصليبي والخوف المبدئي. وحين يطيب للإعلام العالمي التندّر بهذه الأخبار، وشرح دقائق ما يجري من قسوة ووحشية، إنما يجري ذلك لتحقيق مآربهم، والوصول إلى أهدافهم، لا رحمة بالمسلمين، ولا رأفة بالناس. فالجميع له مثل هذا في ماضية وأكثر. أما ما يصدر من صحف في بلاد المسلمين، فكأن الأمر لا يعنيها، وإذا ذكرت بعض الشيء عنه فإنما تذكره كأي خبر عادي دونما تعليق أو لفت نظر. وأما المسلمون، فهم بين جاهل لا يدري، أو واع أشغله ما هو فيه عمّا سواه. أمّا لو أراد أحدهم أن يبدي اهتماماً أو أن يستثير همة، فمصيره معروف، ونهايته واضحة.
قضية العالم:
نعم إن الصراع صراع مبدئي، إلا أن القادة السياسيين يدركون أن ما هم عليه أوهى من خيط العنكبوت لو جابه الإسلام بالصراع الفكري، والمناظرة العقلية.لذا، فهم يستعينون بكل ما يستطيعون من أساليب خبيثة، ووسائل وحشية. فالشيوعية، وهي الداعية للأممية، المتجاوزة للديانات، والمغلّفة بفكر إنساني، تتجاهل هذا الأمر لتثير في بلغاريا مثلاً النزعة القومية والحقد الصليبي في آن واحد تماماً كما يفعل الغرب المنادي بالحرية وحرية الرأي بالذات حين يجعل على رقاب المسلمين سيفاً مُصْلَتاً لقطع عنق من يحمل الإسلام فكرة أو نظاماً، سواء في قلب بلاد المسلمين كالحجاز مثلاً أو في بلاد الشام أو في المغرب أو في المشرق، فالمصير واحد.
نعم صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام حين قال: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أوَمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل…» الحديث. لقد تداعت الأمم، واقتُسمت الفريسة، وأكل كل منهم نصيبه. وبنظرة بسيطة عبر التاريخ، نجد أن العالم لم يجتمع على قضية واحدة من القضايا الدولية، إلا على هدم الخلافة واقتسام هذه الفريسة.
عيون ساهرة:
أمّا اليوم فهم جميعاً عيون ساهرة، تراقب أية حيوية تدبّ في أي جزء من العالم الإسلامي، لينقضوا عليه من جديد. وبالرغم من ذلك فقد جاء مصداق قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء». وها هي بوادر الحياة تدبّ في بعض خلاياه، وها هم الدعاة غرباء يسيرون كما سار رسول الله في بداية دعوته، ينتظرون ما وعدهم ربهم (وعَد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية وقد قال تعالى: (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين). فما هي إلا صبرُ ساعة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله، وتُشرق الأرض بنور ربِّها. وسينقشع الضباب، وتذهب الغشاوة عن عيون الناس ليبصروا آيات الله، وصدق دعوته، ويتحقق ما وعد الله هذا الدين (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). وقال عليه وآله الصلاة والسلام: «سيصل هذا الدين لكل حجر ومدر».
وسيشهد شباب اليوم زوال أكبر إمبراطوريتين في العالم، كما شهد بالأمس زوال الفرس الملحدين، والروم الكافرين، وما أشبه اليوم بالبارحة. وسيعلم قادة البلغار وأعوانهم حينئذ أي مصير ينتظرهم ]يوم بعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً[ سيقول يا ويلتي ليتني لم اتخذ الروس أو الغرب خليلاً.
نظرة على تاريخ بلغاريا:
من المعروف أن السياسة الخارجية للدولة العثمانية كانت تقوم على فكرة واحدة، وهي ملاحقة الصليبيين إلى عقر دارهم. لذلك لم يهتموا بضم بقية أجزاء الدولة إليهم كالهند مثلاً. فلم يستمرّوا في محاربة الدولة الصفوية ليشقوا طريقهم إلى الهند، فقد كان هاجسهم ملاحقة الكفار، لا محاربة المسلمين للضم. وسواء أكانوا على حقّ في تصوّرهم أم على خطأ، فإن الزاوية الخاصة التي كانوا ينظرون منها إلى العالم كانت ملاحقة الصليبيين، وحمل الإسلام إلى دار الكفر. لذلك توجهوا إلى شرق أوروبا، وبدأوا بمن يلُونهم من الكفار. ففتحوا مدينة “فيليبة” (بلوفديف حالياً) سنة 1363م بعد فتحهم (الأدرنة) أيّام السلطان أورخان، ثم فتحوا “صوفيا” العاصمة الحاليّة سنة 1385م. وفي العام 1393م سقطت العاصمة البلغارية آنذاك “ترنوفو”. وبعد ثلاث سنوات كانت سائر الأراضي البلغارية تنعم بالحكم الإسلامي.
إلا أن عدم اقتران الفكر بالفتح، وعدم اهتمام الأتراك بالناحية الفكرية والاقتصادية إلى جانب اهتمامهم بالقوة العسكرية، أدى إلى أن يقلب لهم الدهر ظهر المجَنّ فتوقفت الفتوحات، وظهرت الثورة الصناعية في أوروبا، وبقي الحقد الصليبي كامناً في نفوس الكفار مما جعل المسألة البلقانية في مقدمة الأمور التي تبحث من قبل الكفر لضرب الدولة العثمانية. فبعثوا في شعوب البلقان فكرة القومية، والاستقلال عن الدولة العثمانية، وبذلوا في سبيل ذلك الأموال الطائلة فنجحوا في ذلك نجاحاً منقطع النظير، كان هو السبب الرئيسي في هزيمة الدولة العثمانية وبالتالي في هدم الخلافة.
ففي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر شارك العديد من البلغار في صفوف الجيش الروسي في الحروب الروسية العثمانية ما بين السنوات 1787 ـ 1792 و1806 ـ 1812، واستمرت القلاقل على الدولة العثمانية حتى إعلان القيصر الروسي الكسندر الثاني الحرب على العثمانيين في 12 نيسان 1877، وعلى إثر هذه الحرب، اضطرت الدولة العثمانية سنة 1878 إلى إعطاء الحكم الذاتي لإمارة “روملّي” فتوحدت هاتان الإمارتان سنة 1885م، ثم أُعلن استقلالهما عن الدولة العثمانية سنة 1908 تحت اسم بلغاريا، وتكوّنت مملكة مستقلة. وبذلك دام الحكم الإسلامي في شمال البلاد 515 سنة، وأما في الجنوب فقد دام 545 سنة.
ومع نشوب الحرب العالمية الأولى ولأول مرة، وقفت المملكة البلغارية آنذاك إلى جانب الدولة العثمانية وألمانيا وإيطاليا والنمسا في مواجهة الحلفاء: روسيا وفرنسا وإنكلترا. لكن الحرب انتهت بهزيمة ألمانيا وحلفائها. وانتهت الدولة العثمانية وهدمت الخلافة.
وفي الحرب العالمية الثانية وقفت بلغاريا كذلك إلى جانب ألمانيا فغزاها الروس سنة 1944، وفوراً أعلن استقلال بلغاريا وأقيمت فيها جمهورية شعبية، وأصبحت جزءاً من المعسكر الشيوعي.
(يتبع)
1987-09-23