شَيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ (طلبُ تركِ الفعل) في لغة العرب
2002/08/19م
المقالات
2,070 زيارة
شَيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ
(طلبُ تركِ الفعل) في لغة العرب
وباستقراء أساليب الطلب لترك الفعل عند العرب يتبين أن هذه الأساليب ثلاثة:
أولاً: صيغ مفردة للنهي لغة.
ثانياً: جُمل مركبة في المنطوق تتضمن معنى النهي.
ثالثاً: جُمل مركبة في المفهوم تتضمن معنى النهي.
=========================================
أولاً: الصيغ المفردة التي تفيد طلب الترك:
-
لا تفعل وهي أم الباب:
قال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) [التوبة/84].
قال تعالى: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) [الإسراء/23].
-
لا يفعل وهي تلي (لا تفعل) من حيث الاستعمال:
قال تعالى: (وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً) [البقرة/282].
قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) [آل عمران/28].
قال تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) [النور/22].
-
لا أفعل وهي قليلة الاستعمال:
قال صلى الله عليه وسلم: “لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء… الحديث”(1) أي لا تتسببوا بفعل هذه الأمور فأجدكم يوم القيامة في تلك الحالة.
ملاحظة:
كما هو واضح في بيان دلالة النهي في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإن النهي لم يأتِ من الصيغة المفردة (لا أفعل) بل من الجملة المركبة في المنطوق المسلّطة على النهي عن المسبب. (أنظر الفقرة التالية ثانياً -3).
أما الصيغ الأخرى (لا تفعل، لا يفعل) فهي تفيد النهي مباشرة من الصيغة المفردة – كالأمثلة السابقة – وكذلك تفيد النهي من الجملة المركبة في المنطوق (أنظر الفقرة التالية ثانياً -3).
ثانياً: الجُمل المركبة في المنطوق:
-
نهي مجازي مقترن بحال فيكون النهي مسلطاً على الحال:
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران] أي لا تتركوا الإسلام واستمروا عليه حتى يأتيكم الموت وأنتم كذلك، وذلك لأن النهي في المنطوق مجازي (لا تموتن) فيسلط النهي على حالة الموت وهم مسلمون.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا يموتن أحدكم إلا وهو محسن الظن بالله”(2).
أي أحسنوا الظن بالله واستمروا عليه حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك.
-
نهي عن الاقتراب من فعل ما:
أ. إذا كان مقترناً بحال فيكون النهي مسلطاً على الحال وليس على الفعل فهو شبيه بما ورد في (1) السابقة:
قوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء/43] فهنا نهي عن الاقتراب من الصلاة في حالة معينة، فيكون النهي مسلطاً على الحال أي لا تسكروا عندما تريدون الصلاة وليس لا تصلوا في حالة السكر، فإذا اقترن النهي بحال فإنه يكون مسلطا على الحال وليس على الفعل الأول المتصل بالنهي مباشرة في المنطوق.
ب. إذا لم يكن النهي عن الاقتراب مقترناً بحال فإن النهي يكون مسلطاً بشدة على الفعل:
قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) [الإسراء] أي لا تزنوا، فهو نهي شديد عن الزنا.
وقوله تعالى (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) [البقرة] أي لا تأكلا منها فهو نهي شديد عن الأكل منها.
-
نهي عن المسبب فيكون النهي مسلطاً على السبب:
قال تعالى: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) [فاطر/5] أي لا تجعلوا الدنيا مبلغ همكم فيتسبب ذلك في أن تنغروا بالحياة الدنيا، فالنهي هنا ليس للحياة أن لا تغرنكم بل هذا هو المسبب عن ركضكم حول متع الدنيا واستحواذها على اهتمامكم، فالنهي لكم أن تنخدعوا بالدنيا (السبب) وليس النهي للدنيا أن تخدعكم.
قال تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) [الأعراف/27] فالنهي ليس للشيطان أن يفتنهم بل النهي أن يمكّنوا الشيطان من فتنتهم، فالنهي مسلط على السبب.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك… الحديث”(3) فالنهي في المنطوق عن المسبب وهو رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في هذا الموقف، وهنا يكون النهي مسلطاً على السبب وهو أن لا يقوموا بهذه المعصية فيتسببوا في رؤية الرسول لهم في ذلك الموقف.
-
الجملة الشرطية الخبرية أو الجملة الخبرية في معنى الشرط المتضمن جوابها ذماً لفعلها تدلّ على طلب ترك القيام بالفعل:
قال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) [النساء] هذا الخبر يصبح طلب ترك، أي لا تكسبوا خطيئة أو إثما… فالجملة الشرطية في جوابها ذم لفعلها (فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً).
“لَزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم بغير حقّ”(4) أي إن تَزُل الدنيا فهو أهون عند الله من قتل مسلم بغير حقّ، فهي في معنى الشرط وفي جوابها ذمّ لفعل وبالتالي يكون هذا الخبر قد أصبح طلب ترك، أي لا تقتلوا نفساً بغير حقّ.
-
باستعمال حروف الجر (اللام، في، على) بمعانيها الأصلية منفية في صدر الكلام:
قال تعالى: (ما لكم من ولايتهم من شيء) [الأنفال/72] أي لا توالوهم.
قال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا) الآية [النور/61] أي لا تتحرجوا من الأكل.
“ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة”(5) صدقة هنا الزكاة، أي لا تزكوا ما دون خمسة أوسق من الزروع.
ثالثاً: الجُمل المركبة في المفهوم:
تأتي دلالة الاقتضاء وهي نوع من دلالة المفهوم مفيدة لطلب الترك إذا:
-
اقتضتها ضرورة صدق المتكلم:
قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاًَ) [النساء] أي لا تجعلوا للكافرين عليكم سبيلاً.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرم والمسجد الأقصى”(6) أي لا تشدوا الرحال إلا لهذه المساجد.
-
اقتضتها صحة وقوع الملفوظ به شرعاً مثل:
أ. أساليب الدعاء الخيرية الماضية أو الحاضرة:
لا بارك الله في فلان، أي اللهم لا تبارك فيه.
لا يغفر الله لفلان، أي اللهم لا تغفر له.
ب. استعمال معنى الأحكام الشرعية في صيغة الخبر (نهى، كره، حرم…) فهي تقتضي طلب ترك بصيغة (لا تفعل…):
“نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة”(7) أي لا تبيعوا بيعتين في بيعة.
“نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع الحاضر لباد”(8) أي لا يبع حاضر لبادٍ.
“وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”(9) أي لا تفعلوا تلك الأمور.
(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) [الأعراف/33] أي لا تفعلوا الفواحش.
(وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً) [المائدة/96] أي لا تصيدوا في هذه الحالة.
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) [المائدة/3] أي لا تأكلوا الميتة.
ملاحظة:
قلنا: (لا تفعل) هنا: لا تأكلوا الميتة لأنّ العرب إذا سلّطوا التحريم على ما يؤكل أو على ما يشرب أو ما ينكح أو ما يلبس فإن صيغة النهي تعني (لا تأكلوا، لا تشربوا، لا تنكحوا، لا تلبسوا):
(حرمت عليكم الميتة) تقتضي صيغة (لا تفعل): لا تأكلوا الميتة…
“حرمت الخمرة لعينها”(10) تقتضي صيغة (لا تفعل): لا تشربوا الخمرة…
(حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء/23] تقتضي صيغة (لا تفعل): لا تنكحوا أمهاتكم…
“صنفان حرما على ذكور أمتي: الحرير والذهب”(11) أي لا تلبسوا الحرير والذهب، وذلك لأن هذه الأفعال ملازمة للأشياء المذكورة، فالنهي عن هذه الأشياء يعني النهي عن ملازمتها من الأفعال بموجب لغة العرب.
-
اقتضتها ضرورة صحة وقوع الملفوظ به لغة (إضمار):
التحذير:
(ناقة الله وسقياها) [الشمس] أي لا تقربوا بسوء ناقة الله وسقياها، أو لا تمسوها بسوء بمعنى احذروا المساس بها بسوء ففيها إضمار (احذروا) وهي بمعنى النهي.
“إياكم والجلوس في الطرقات”(12) أي لا تقربوا أنفسكم من الجلوس في الطرقات، بمعنى احذروا الجلوس واجتنبوه، أي بإضمار احذروا أو اجتنبوا وهي بمعنى النهي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) البخاري: 1337، مسلم: 1831.
(2) مسلم: 5124، أبو داود: 2706، ابن ماجه: 4517.
(3) البخاري: 1337، مسلم: 1831.
(4) الترمذي: 1315، روي موقوفا ومرفوعاً والموقوف أصح.
(5) البخاري: 1366، مسلم: 1628، النسائي: 2438، ابن ماجه: 1783.
(6) البخاري: 1132، مسلم: 1397.
(7) الترمذي: 1152 وقال: حديث حسن صحيح، النسائي: 4553، أبو داود: 3002، أحمد: 2/174، ابن حبان: 11/374.
(8) البخاري: 2032، مسلم: 1413.
(9) البخاري: 1383، 2231، مسلم: 3236.
(10) البيهقي: 10/213، نصب الراية: 4/306 خرَّجه العقيلي وهو ضعيف، وخرَّجه النسائي موقوفاً.
(11) الترمذي: 1720 وقال: حسن صحيح، أبو داود: 4051، النسائي: 4801، ابن ماجه: 2631، أحمد: 4/217.
(12) البخاري: 2333، مسلم: 2121.
2002-08-19