العقل الغربي مسكون بأشباح الحـروب الصليبية وعقدة التفوق والهيمنة
2002/05/01م
المقالات
1,555 زيارة
العقل الغربي مسكون بأشباح
الحـروب الصليبية وعقدة التفوق والهيمنة
لقد رأى مفكرو الغرب في التاريخ المعاصر ـ وتعد افكارهم استمراراً لبعض أفكار عصر النهضة الأوروبية ـ أنه بقدر ما يتمتع الانسان بالحرية تبرز قدرته على الإبداع والإنجاز والابتكار, بخلاف ما إذا خضع للعبودية والاستبداد. وقد رأوا أن أهم عائق يقف بين الإنسان وحريته هو تعلقه بأوهام الغيب والكهنوت. خاصة أن الملوك كانوا يتخذون الدين وسيلة لاستغلال الشعوب ومص دمائها، وكانوا يتخذون رجال الدين مطية لذلك. وبناءً عليه وبعد صراع رهيب فقد تم فصل الدين عن الحياة وأطلق العنان للإنسان وغرائزه لينال أكبر قدر من المتع الجسدية. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للتحرر من قيود الغيب, فإنه من باب أولى التحرر من قيود الاستعمار الذي هو استعباد ظاهر وصريح.
=========================================
إن الشعب الأميركي أو أميركا, كانت حتى أوائل القرن التاسع عشر مستعمرة من المستعمرات الأوروبية. فلما قامت بثورتها وطردت الاستعمار الأوروبي أصبحت دولة مستقلة ثم نمت لتصبح دولة كبرى. وقد اعتنقت المبدأ الرأسمالي والحضارة الأوروبية وصارت تعتنق الرأسمالية كما يعتنقها الأوروبيون سواء بسواء, وصارت حضارة أوروبا هي حضارتها. ثم صارت تتزعم هذه الحضارة وتدافع عنها حتى قال أيزنهاور إننا مستعدون أن نقاتل دفاعا عن طريقتنا في العيش, أي دفاعا عن الحضارة الغربية وعن المبدأ الرأسمالي. وباعتناق الشعب الأميركي الرأسمالية صار الاستعمار واستغلال الغير جزءاً من تفكيره والهدف الرئيسي له. وبذلك أصبح العقل الغربي والأميركي على وجه الخصوص يعشق ويقدس الحرية التي تمكنه من التمتع بأكبر قدر من الملذات ويسعى دوماً لامتلاك الوسائل المادية التي تمكنه من ذلك حتى لو كان بالاعتداء على الغير ومص دمائه. واصبح يقاتل كل من ينغص عليه التمتع ويذكّره, وهو غارق في ملذات الدنيا, بالشعور الكامن في أعماق قلبه المسكون بأشباح القنانة والاستعباد التي طالما قاتل في سبيل الانعتاق حتى من ذكرها. في هذه المقالة سنحاول الوقوف على أصول وجذور الهاجس الذي يسكن العقل الغربي، ذلك الهاجس الذي يدفعه للاستعمار والوحشية, يتمثل في أشباح الحروب الصليبية وعقدة التفوق والهيمنة وعشق الحرية.
ومع أن أصول الحروب الصليبية ترجع إلى القرن السابع الميلادي يوم انتصر المسلمون على الروم في وقعة اليرموك, فقد بدأت الدعوة إلى الحروب الصليبية عندما عقد البابا سنة 1095م في مدينة كليرمون الفرنسية مجمعاً حضره كثير من رجال الدين والفرسان, وقد شرح لهم حال المسيحيين في البيت المقدس، وما يلاقيه الحجاج المسيحيون من مشاق وآلام. ودعا النصارى الى حمل السلاح والذود عن المكان المقدس. ولم يكد البابا يتم خطابه حتى أحاط به الآلاف من الناس من فئات ثلاث: الفقراء وأرقاء الأرض, وأمراء الإقطاع, وأصحاب التجارات, وقد أقسموا الأيمان على أن يناصروا دينهم. فعلق البابا لكل من المتطوعين صليباً من الخشب على ذراعه الأيمن, فأصبح هذا الصليب شعار الحرب, ومن ذلك الوقت أطلق على هذه الحروب اسم الحروب الصليبية. ثم أعلن البابا حماية الكنيسة لأملاك المحاربين وأسرهم ومضاعفة جزاء من يشترك فيها وغفران ذنوب الخاطئين ودخول من يموت منهم في جنات النعيم. أما الفقراء, وهم الطبقة الكبرى, فكانوا يعيشون في قلة وحرمان, تفتك فيهم الأوبئة. ومثلهم الأقنان أو الأرقاء المرتبطون بأراضي السادة الإقطاعيين, يملكهم السيد الإقطاعي مع الأرض. فكان هؤلاء يحلمون ببلاد فيها كل النعيم ويطمعون بغفران الكنيسة لخطاياهم, وهو القوة الروحية الدافعة للحرب. وأما أمراء الإقطاع المالكون للأراضي فكانوا في صراع فيما بينهم, وكانت الدعوة للحرب الصليبية سببا في عقد أيديهم بالصلح وتحويل الصراع إلى قتال المسلمين. وأما الفقراء الذين لا يملكون شيئاً, فكانوا ينتزعون معيشتهم بالقتل والقتال, ينقمون على مجتمع خصهم بالحرمان, فكانت الدعوة لحرب المسلمين منفرجاً لهم ومنعرجاً في سلوكهم, فانضمت أفواجهم إليها طمعاً في أرض يملكونها وغنائم ينعمون بها. وأما أصحاب التجارات, فهم أصحاب المدن البحرية الذين يملكون السفن ويحلمون بالوصول إلى شواطئ بلاد الشام لإقامة علاقات تجارية مع مدنها, وقد حققت مدن جنوة وبيزا والبندقية الإيطالية أحلامها وجنت أرباحاً كبيرة في نقل الحملات الصليبية والاتجار مع بلاد مصر والشام. ونظراً لدخول العناصر المتبربرة في الدين المسيحي واحتفاظها بنـزعتها الحربية التي درجت عليها قبل اعتناقها هذا الدين, فقد ظهرت في الكنيسة الروح الحربية. كما وقد ساعد في ظهور هذه الروح لدى الكنيسة, رغبتها في بسط نفوذها على الشرق وتأسيس مستعمرات لاتينية فيه, ورغبتها في السيطرة على جميع العالم المسيحي ليكون تحت سلطة حكومة دينية واحدة. وقد توافق ذلك مع ما كان سائداً بين الفرسان والأشراف من روح قتالية وميلهم إلى الحروب والمخاطرة في سبيل الدفاع عن الكنيسة ورغبتهم في تكوين إمارات في الشرق. وقد أضيف إلى ما سبق من ظهور الروح الحربية لدى الكنيسة رغبة الرقيق في التخلص من نظام الإقطاع الذي كان يربطهم بالأرض, ورغبتهم في التخلص من أداء ديونهم ومن المحاكمة على ما اقترفوه من الجرائم. تضاف إلى هذه الأسباب رغبة المدن التجارية مثل البندقية وجنوة وبيزا في نشر تجارتها في الشرق.
إن تعاظم الميول الدينية في الريف قد نجم عن ظروف حياة الفلاحين العبيد التي كانت لا تطاق, فقد كان العبيد يسحقهم العوز, فلم يروا إلا قحط الموسم الزراعي والطاعون الذي يسوق زوجاتهم وأولادهم إلى القبور, وتضغط عليهم التبعية الشخصية حيال السيد وكانوا مهانين وأذلاء بسبب جهلهم, وهذا الجهل كان رجال الكنيسة يحافظون عليه ويطالبون الفلاحين بالصبر الطويل والاستكانة للأسياد ويبثون الخوف من نيران جهنم, كل هذا كان يتصوره العبيد بصورة عقاب من السماء نزل عليهم من أعلى بسبب خطاياهم المجهولة. ومن هنا نشأ شعور غامض بأنه لا يمكن التخلص من العذاب اليومي الدائم إلا بطلب الرحمة من الرب الغاضب, ولكن بأي نحو؟ وذلك باجتراح مأثرة ما خارجة عن المألوف, بطولية بالمعنى الديني لأجل التكفير عن الذنوب وغفران الخطايا, أي الموت باسم الإيمان. وقد كانوا يقولون لهم “عليكم أن تتحملوا كثيراً من المشقة والفقر والعذاب من أجل اسم المسيح وتعانوا الاضطهاد والمذلة والمرض والجوع والعطش كما قال الرب بزعمهم للحواريين (سأريكم كم ينبغي أن تتألموا من أجل اسمي وقوله, إنكم ستأخذون ميراثاً عظيماً)”. وهكذا انعكس الألم والعوز والجوع والاضطهاد من الأسياد والسعي للتحرر منهم وخلع سلاسل العبودية كل ذلك الذي شكل عقدة في عقل العبد الفلاح المرهق بمشقات العيش، انعكس وتحول إلى رغبة عارمة باجتراح مأثرة دينية.
إن العقل الغربي اليوم امتداد لعقل العصور الوسطى, تلك العصور التي رسّخت عقدة الاستعباد والإقطاع. وكما عمل رجال الكنيسة على التبشير والترغيب بين الناس للمشاركة في الحرب من خلال وعدهم بأن الزيارة لمهد المسيح تساوي الذهاب الى الجنة, عمل رجال الكنيسة “الأميركية” اليوم على التبشير والترغيب بالذود عن “آلهة” الحرية والديمقراطية, وصوروا أن القتال المقدس هو قتال من يقف في وجه الديمقراطية وقتال من يستعبد الناس, أي قتال الإرهابيين الذين يهددون “آلهة” الحريات ويضربون طريقة عيشهم.
لقد صدقت فيهم تنبؤات مفكريهم من أمثال عالم السياسة الأميركية “صمويل هنتنجتون” الذي تنبأ في مقولاته الشهيرة عن صراع الحضارات بأن المناخ الثقافي الذي سيسود العالم في القرن الحادي والعشرين بأنه لا يزال مسكوناً بأشباح الحروب الصليبية التي ما زالت آثارها اللاشعورية النفسية كامنة في الإدراك الغربي. وقد بدا هذا واضحاً من أفواههم وما تخفي صدورهم أعظم.
إن المتأمل في خطاب الرؤساء الغربيين الذي صدر تلقائيا كرد فعل على أحداث الحادي عشر من أيلول يدرك أن مفرداته الغالبة تكشف الهاجس الحقيقي والأشباح التي تسكن عقولهم. فقد قال توني بلير إن الهجوم ليس مجرد حادث إرهابي ولكنه موجه ضد مجتمعات الغرب الديمقراطية, وأن هذا الهجوم يمثل البربرية المعادية للمدنية والحضارة الغربية. إن هذا الكلام الصادر من الأعماق ليكشف الهاجس الذي يحرك الغرب للانتقام من المسلمين، ولاستمرار السيطرة عليهم ونهب ثرواتهم. هذا الهاجس الذي ترجع جذوره إلى عقدة القرون الوسطى, قد تحوَّر ليتمثل في صورة جديدة على نقيض الاستعباد والشقاء, ألا وهي عقدة الهيمنة والتفوّق. وهذا كامن في طبيعة رأس المال الاحتكاري المعولم ذاته, والذي من أهم سمات تطوره التوسع والمزيد من التوسع، وكذلك الربح والمزيد من الربح، وهذا ما يدفع باتجاه سيطرة كاملة ومباشرة على مصادر الخامات والطاقة وعلى الأسواق, وإعادة ترتيب الأوضاع العالمية والإقليمية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافيا بما يتناسب مع مصالح القوى المهيمنة. إن العولمة في جوهرها هي الهيمنة الغربية على العالم وثرواته وتدمير نتائج وثمار حقبة طويلة من نضالات الشعوب وتقدمهم, كما ويفضي إلى إفقار البلدان النامية واستنـزاف ثرواتها وتصفية تجاراتها، وإلى تدن مذهل في مستويات معيشة الشعوب, واصطناع نخب طبقية طفيلية منضوية تماماً تحت التبعية المطلقة. مما يفضي بالبشرية إلى الارتداد إلى شكل من العلاقات الأكثر اقترابا من علاقات القنانة كما في عصر الاقطاع. ولكي يسير مشروع الرأسمالية المتوحش قدماً, فقد تم تكريس فعاليات رجال الدين والكنيسة الحديثة (الأمم المتحدة) لخدمة شرعية السيد المتملك. لذلك فإنه من غير الممكن إخفاء وطمس همجية ووحشية العولمة المؤدية إلى أكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الكادحة حتى في البلدان الرأسمالية المتطورة ذاتها, وبدرجة أكثر بشاعة في البلدان النامية. كما ويزداد التفاوت الطبقي إلى حد لا مثيل له نتيجة لتركز الثروة في أيدي النخب الطبقية لرأس المال الاحتكاري في البلدان المتطورة والنامية. لقد ساد الظلم وكشفت الديمقراطية والعولمة الإقطاعية عن وجهها القبيح وباطنها الذي من قِبله الشقاء والعذاب. وها قد بدأ العبيد “الفلاحون” يقاومون ويثورون على أمراء الاقطاع الرأسماليين الاحتكاريين وعلى كنيسة الأمم المتحدة ورجال “الدين” فيها. لقد شهدت أحداث سياتل ودافوس وباريس وميلانو وأتاوا وجنوا وغيرها مقاومة الفقراء والأقنان (أرقاء الأرض) لنظام الكنيسة في صورته الحديثة المتمثل في العولمة والنظام الدولي. لقد عادوا إلى عصر الإقطاع, ولكن بصورة جديدة. وما ضحايا العولمة والرأسمالية اليوم إلا كعبيد واقنان عصر الإقطاع, وما أصحاب رؤوس الأموال الاحتكاريين اليوم إلا كأمراء الإقطاع في عصره. وما الحروب الصليبية التي يدعون لها اليوم والتي صرح بها بوش إلا كالحروب الصليبية القديمة التي دعا إليها وقادها باباوات روما تحمل الصليب شعارا مُخفية هدفها الاساسي وهو القضاء على الإسلام والاستيلاء على الشرق والسيطرة على ثرواته, وما الجديدة إلا امتداد لنفس الأهداف القديمة.
إن ما أكّده القادة الغربيون من أن الهجوم الذي وقع على أميركا لم يكن مجرد هجوم إرهابي أو عسكري عادي ضد أميركا، وإنما هو هجوم موجه ضد الحضارة الغربية ليعني أن الحملة التي تقوم بها أميركا ليست حملة ذات أهداف عسكرية مجردة تقف عند حد إسكات نيران “العدو” كما يزعمون، أو أنها ذات اهداف سياسية تقف عند حد إسقاط مجموعة حاكمة وإقامة بديل عنها, وإنما هي حملة ذات أهداف حضارية. وليست الحضارة هي “الجينـز” الأميركي و”الماكدونلد”, وإنما هي تصور معين عن الحياة ووجهة النظر عنها، ومجموعة مفاهيم عن الحياة تمثل نمط عيش معين يعيشه الناس. ولكن ما من نمط عيش معين ووجهة نظر في الحياة إلا وهي متصلة بما يعتقده الإنسان عن هذه الحياة. إذاً فهي حرب وصراع حضاري بين حضارتين, الكفر ووجهة نظره في الحياة والإسلام ونظرته للحياة. وبما أن الصراع الحضاري هو صراع بين المفاهيم ووجهات النظر في الحياة, فإن صراعاً مثل هذا يقلق قطاعات واسعة داخل المجتمع الغربي ذاته والأميركي على وجه الخصوص, لأنه سيطرح أسئلة جذرية تتعلق بالمبادىء والمفاهيم التي تقوم عليها الحضارة الغربية والنظام الديمقراطي الليبرالي. وقد كانت مثل هذه الأسئلة مسكوتاً عنها من قبل ولكنها لم تسقط تماماً, بل ظلت تطفح إلى السطح من حين لآخر, خاصة إبان الأزمات الاجتماعية الكبيرة, والحروب الخارجية الطويلة التي كانت أميركا تجد نفسها متورطة فيها. ومن أهم الذين طرحوا مثل تلك التساؤلات الكاتب فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” والذي نشر في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. ومع أن الكتاب يمثل في مجمله دفاعاً عن النظام الديمقراطي، وأنه لا يوجد أيديولوجية أخرى في العالم, غير أن هذا الدفاع والإعجاب لم يمنع فوكوياما من طرح التساؤلات. لقد اتجه اهتمام فوكوياما في كتابه الى تحليل الجذور النفسية والأخلاقية (المفاهيم) التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي, وتأتي الاشارة للإسلام حينما يأتي ذكر المعوقات التي تحد من التحول الاجتماعي والثقافي نحو النظام الليبرالي. يقول إن النظام الليبرالي يحتوي على تناقضات داخلية خطيرة, فهو برغم ارتكازه القانوني والدستوري المعلن على مبدأ المساواة بين الناس, إلا أن نفسية المواطن الغربي (الأميركي خصوصاً) تجنح نحو التميز وجذب الانتباه وتبحث عن التفوق والهيمنة, ولا تبالي في سبيل ذلك بالمخاطر والحروب. فإذا أفلح النظام الرأسمالي في توفير أرقى مستوى ممكن للرفاهية, وإذا أفلح النظام الدولي في إزالة خطر الحروب فإن نفسية الإنسان الغربي ستظل تبحث عن التحديات والمخاطر, وستظل تبحث عن ميادين للتفوق والهيمنة. لم يجرؤ فوكوياما أن يقول صراحة ـ كما قال آخرون ـ إن الحل يكمن في أن تصطنع من حين لآخر أنواعاً من الحروب المحدودة تكون منافذ يستطيع الإنسان الغربي من خلالها أن يفرغ شحنات الغضب والجنون، وأن يشبع رغباته في التفوق والاستعلاء, حتى لا يتحول إلى عنصر دمار داخلي. ويتابع فوكوياما مفهوم المنافذ اللازمة لإفراغ طاقات الإنسان الغربي حتى ينتهي بالقول بأن وجود عالم ثالث (متخلف) قد يكون مفيداً لصحة النظام الديمقراطي, لأنه (العالم الثالث) سيكون إطاراً مناسباً لامتصاص طاقات وطموحات الإنسان الغربي الذي وصل حد الإشباع والملل اللذين توفرهما الحضارة الغربية. وما الدعوة لحرب الإسلام والمسلمين اليوم إلا امتداد للدعوة لحرب المسلمين إبان الحروب الصليبية القديمة التي كانت منفرجاً ومنعرجاً في سلوك الأمراء الذين كانوا ينتزعون معيشتهم بالقتل والقتال، والمالكين الذين كانوا يتنازعون فيما بينهم والعبيد والفقراء الذين طالما تطلعوا للعيش الكريم. وكما سعى الصليبيون إلى تدمير ومحو الإسلام الذي هدد سلطانهم خاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية التي امتدت على طول الشرق والغرب, فان عقدة الفتوحات لا زالت موجودة في عقولهم حتى عصرنا هذا, وقد تحسسوا صحوة المسلمين وقرب قيام دولتهم الإسلامية التي لا محالة ستضرب مصالحهم وتسارعهم بالفتوحات مرة أخرى, فدعوا دعوة الصليبية الأولى للقضاء على الإسلام. وللحيلولة دون اصطدام الحضارة الغربية بقيمها ومفاهيمها الهشة مع الحضارة الاسلامية, وبادروا بفكرة حوار الأديان بشروطهم التي تقضي بتكافؤ الأديان وعدم جواز الخطاب المبدئي من طرف المسلمين, ذلك الخطاب الذي يسفّه معتقداتهم ويريهم أنها حصب جهنم. إن هذا الحوار يهدف إلى إيجاد دين جديد يوحد البشرية جمعاء تحت أجنحة الليبرالية الرأسمالية. كما أن هذا الحوار ذرّ للرماد في أعين معتقدي الرأسمالية الهشة لتبدو قوية أمام الإسلام فلا يرحلوا عنها وينبذوها كما نبذ أهل الاشتراكية ماركسيتهم أمام الرأسمالية. ويساعدهم في ذلك تواطؤ حفنة من علماء المسلمين الذين باعوا آخرتهم بدنيا أسيادهم حيث صوروا الإسلام ضعيفاً هشاً أمام حضارة الغرب. لقد أشار مفكروهم بهذه الفكرة حيث قال فوكوياما: إن الديمقراطية الليبرالية في سياقها الأنجلوسكسوني ترتكز على النفسية الباحثة عن إشباع الرغبات ولكن على أساس التقرير العقلاني للمصالح والمضار واللذة والألم, وذلك بعيداً عن الإلزامات الأخلاقية والدينية. إلا أنه لا يمكن لمجتمع ما أن يتأسس بصورة كاملة على مجموعات بشرية متناثرة يسعى كل فرد منهم نحو تحقيق مصالحه الخاصة وإشباع رغباته التي لا تنقطع, فكان لا بد من استبعاد الدين, ولا مناص من إيجاد ثقافة مدنية تقوم مقام الدين, فيرتكز عليها النظام الديمقراطي الليبرالي فيتمكن بذلك من أن يكون نظاماً كونياً لا تحده ثقافة ولا دين. غير أن الذي يقلق فوكوياما في هذا المجال وجود الثقافة الإسلامية التي ستقف عائقاً ضد التحول نحو الثقافة المدنية الكونية باعتبار أنها تكرس تقاليد وقيماً لا يمكن لمعتنقيها أن يتحولوا عنها بسهولة ويسر. ولا ينكر فوكوياما عدالة الإسلام وجاذبيته العالمية التي تتخطى الخصومات القومية والجغرافية, وأن الإسلام استطاع أن يهزم النظرية الليبرالية في أكثر من قطر من أقطار العالم الإسلامي. وصدق فيهم قول الله الذي خلقهم وخلق سائر العباد، وهو أعلم بهم (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [البقرة/120].
وإن تعجب لمثل هذه النـزعة الصليبية النازية الصريحة وهذا الحقد الذي ظهر صراحة من السياسيين والعسكريين والمفكرين وحتى المدنيين الذين يدّعون الديمقراطية والمساواة, وإن تعجب كذلك لهمجية التقيتل والتذبيح بالمسلمين التي يقوم بها من يدّعون رعاية حقوق الانسان, فإن عجبك هذا سيزول عندما تعلم ما سطّره التاريخ عن الحروب الصليبية الأولى وما فعلوه بالمسلمين. فقد ورد في رسالة رسمية الى البابا “مجاعة رهيبة أوقعت الجيش في المعرة ووضعته في الضرورة الجائرة ليتغذى من جثث المسلمين”. وقد كتب المؤرخ “راوول دين كلين”: عمِل جماعتنا على سلق الوثنيين ـ يقصد المسلمين ـ في الطناجر وثبتوا الأطفال على الأسياخ والتهموها مشوية, وكتب المؤرخ “البيرديكس”: لا يتورع جماعتنا عن أن تأكل الأتراك والمسلمين فحسب وإنما الكلاب أيضاً. وقد كتب “أمين معلوف” تعليقاً على تلك الشهادات: لن ينسى الأطفال الأتراك مطلقاً أكل الغربيين للحوم الإنسان, وعبر كل أدبهم سيكون الفرنجة موصوفين كأكلة لحوم البشر”. ويصف ابن الأثير الاستيلاء على القدس حيث قال: وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على السبعين ألفاً، منهم أئمة المسلمين وعلماؤهم وعبّادهم. ويذكر آخر: إن داخل المسجد الأقصى كان جماعتنا يمشون في الدم حتى عراقيب أرجلهم، وإن أكوام الجثث ظلت تحرق تحت أسوار المدينة على امتداد أسبوع بكامله. وقد نبّأنا بهم اللطيف الخبير في قوله: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) [التوبة/8].
إن استبداد أميركا وعلوّها في الأرض واستضعافها أهلها وجعلهم شيعاً ليس بدعاً من العلوّ والعنجهية, فقد سبقها قدوتها في ذلك فرعون حيث قال فيه ربّ العباد سبحانه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص].
اللهم اجعلنا أئمة ومكن لنا في الأرض لنري فراعنة وهامانات هذا الزمان وجنودهم منا ما كانوا يحذرون. اللهم عجّل لنا بنصر دينك لنريهم ما سكن في عقولهم من أشباح الصليبية الأولى، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف] .
أبو الهيثم ـ بيت المقدس
2002-05-01