النصرة فرض عظيم… أجره عظيم… والصدّ عنه صدّ عن إقامة الحكم بما أنزل الله
2010/07/17م
المقالات
1,830 زيارة
النصرة فرض عظيم… أجره عظيم…
والصدّ عنه صدّ عن إقامة الحكم بما أنزل الله
عبد الله عبد الرحمن (أبو العز)
عضو مجلس الولاية لحزب التحريرفي ولاية السودان
إن الأمة الإسلامية أمة حية ذات رسالة تعيش من أجلها، وهي لن ترضى بالذل والهوان التي هي فيه اليوم. وما أن تبدر بادرة للنصر في أي مكان من العالم إلا ونجد قلوب المسلمين وأنظارهم تتجه صوب المصدر وتدعو الله أن ينصر المسلمين على القوم الكافرين، حتى الفسقة من الأمة إذا قاموا بأي عمل ضد الكافر المستعمر نجد أن الأمة أيضاً تقف معه وتقول لعل الله ينصر هذا الدين بالفاجر! كما حدث عند غزو أميركا للعراق بعد دخول العراق إلى الكويت فإن أنظار الأمة اتجهت نحو العراق وتدعو الله أن ينصر صدام وأهل العراق على التحالف بقيادة أميركا وبريطانيا رغم ما تعرف من ظلمه وإجرامه، وهذا إن دل فإنه يدل على أن كره المسلمين للغرب الكافر لا يعلو عليه كره. وعندما حاربت أميركا أفغانستان والعراق وقفت هي مع مجاهدي أفغانستان والعراق ضد أميركا، ووقفت الأمة أيضاً مع حزب الله في حرب حزيران ضد يهود، وكل ذلك لأن الرأي العام للعقيدة الإسلامية والجهاد موجود عند الأمة، وأضحت تنتظر من ينصر دينها ويهزم أعداءها في ساحات الوغى، لتعيد مجدها السليب وتقتعد ذراه. فأمة الإسلام وحدها من تستحق أن تقتعد هذا المقام، لأمر الله لها بذلك ووعده سبحانه بنصرها، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح 28].
في مقابل هذه المشاعر الإسلامية الطاغية، فإن الشرع قد أمر الأمة أن تنصر دينها، وذلك بجعل السلطان والقوة والمنعة في خدمة تطبيق الإسلام وتنفيذه وحمايته بالجهاد في سبيل الله وحمله كذلك إلى العام رسالة بالدعوة والجهاد. فقد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يدعو الله أن يهيئ له من ينصره، فقال سبحانه في سورة الإسراء: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء 80] قال الإمام ابن كثير في تفسيره وقوله: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعنّ ملك فارس وعز فارس وليجعلنَّه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنّه له. وقال قتادة فيها: إن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.
ولكن مما يندى له الجبين أن التطبيق العملي لهذا الواجب وهو نصر دين الإسلام لتطبيقه وحمله فيه تقصير، من قبل أمة الخير! بل من العجيب أن يُهاجَم بعض أبناء الأمة العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية من أبناء الأمة الصادقين ويعتبرون أن طلب النصرة جريمة منكرة لا يجوز أن يعمل لها؟!
ففي قناة الجزيرة تم بث برنامج في حلقات أطلق عليه اسم (إسلاميون)، تم فيه انتقاد حزب التحريرالذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة ويطلب النصرة ممن بيدهم القوة والمنعة، فذكر ياسر الزعاترة- أحد الذين تمت استضافتهم- بأن حزب التحريرما أن يسمع برئيس جديد إلا ويهرول إليه ليطلب منه النصرة، مما يعرضهم للقتل والسجن، واعتبر الزعاترة إن هذا العمل عمل ساذج؟ وقبله نقدت ما تسمى بـ(الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة)، حيث جاء فيها: «هذا ويأخذ الدارسون على الحزب عدة أمور منها: اعتماد الحزب على عوامل خارجية في الوصول إلى الحكم عن طريق طلب النصرة، والتي قد يكون فيها تورط غير متوقع».
كانت هذه بعض التهم على مسألة طلب النصرة.
والواجب علينا بوصفنا مسلمين ألا نحكم على الأفعال من عند أنفسنا، فالذي يحكم على أفعالنا ويبين الحسن أو القبيح من الأفعال هو الشرع وحده، ولا يجوز لكائن من كان أن يقدم رأيه بين يدي الله ورسوله في التشريع، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات 1].
إن القضية الماثلة الآن هي إقامة دولة الخلافة، وقد اتبع القدوة المهداة رسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقاً معيناً لتمكين هذه الدولة وإقامتها، وقد سار النبي عليه الصلاة والسلام في ثلاث مراحل:
1) التثقيف
2) التفاعل وفيها طلب النصرة،
3) تسلم الحكم،
والذي نحن بصدده في هذه المقالة هو شرعية طلب النصرة، وأنها من صميم ديننا الحنيف. ذلك أن الله سبحانه لم يمدح فقط المهاجرين بل مدح معهم الأنصار رضي الله عنهم أجمعين مخصصاً لهم مقالاً ومقاماً، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال 72].
إن طلب النُصرة يعني العمل على تلمُّس مراكز القوة والجماعات التي تقوم بدورها في حمل الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى بر الأمان، وإلى الغاية المنشودة في قيام الدولة.
وقد ابْتُلِيَ المسلمون فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات بعدم التفريق بين الوسائل والأساليب والأحكام الشرعية والخلط الشديد بينهما. فالوسائل والأساليب ترجع إلى إبداعات العقل فيما يتعلق بأمور الدُّنيا ويمكن الاستفادة من أي وسيلة أو أسلوب استخدم في العالم، فهي من المباحات، أمَّا الأحكام الشرعية فهي وحيٌّ من الله تعالى ولا يجوز أنْ نأخذ أي أحكام أو قوانين أو معالجات لأي مسألة في واقعنا من غير الوحي. فمثلاً، اعتبر كثير من الناس أنَّ طريقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوصول إلى الدولة من الوسائل والأساليب. لذلك أطلق بعض أبناء الأمة العنان لأفكارهم فأخذوا يحسِّنون ويقبِّحون كيفما شاؤوا مع أن موضوع الحكم من التشريع، وكيفية إقامة الدولة الإسلامية من التشريع أيضاً. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوه، وما أمرتكم به من أمر دنياكم فإنما أنا بشر».
إنَّ عرَضَ النَّبيِّ نَفْسَهُ عَلى القبَائِل ِ كَي يَنصُرُوهُ وَيَمنَعُوهُ لِيُبَلِّغَ رِسَالةَ رَبِّهِ هُوَ أمْرٌ مِنَ اللهِ تعَالى, وَهُو جُزءٌ جَوهَرِيٌ لا يَتجَزَّأ مِنَ الطَّرِيقَةِ الشَّرعِيَّةِ لإقامَةِ دَولَةِ الإسلام ِ.
فهُوَ ليَسَ رَأيا ً رَآهُ رَسُولُ اللهِ أو جَاءَ بهِ مِنْ عِندِهِ , بَلْ هُو أمْرٌ إلهيٌ حَدَّدَهُ الشَّرْع ُ وَجَاءَ بهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ تعَالى, فهُوَ حُكمٌ شَرْعِيٌ يَجبُ الالتزَامُ بهِ كمَا التزَمَ بهِ رَسُولُ اللهِ، وكان ما قام به من عرض نفسه على القبائل وطلب النصرة هي الناحية العملية التي التزمها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي تتفق مع آية الإسراء التي تأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعاء ليتحقق النصر فكان العمل المواكب للدعاء، وهو القيام بالعمل الفعلي وهو طلب النصرة.
ولَقَدْ عَرَضَ رَسُولُ اللهِ نَفسَهُ عَلى القبَائِل التَّالِيَةِ:
-
بَني كِندَة. 2. بَني فزَارَة. 3. بَني نَضْر بن هَوَازن 4. بَني كَلب 5.بَني مُرَّة. 6. بَني بَكر بن وَائِل.7. بَني حَنيفَة. 8. بَني سُلَيم. 9. بَني عَمْرو بن عَوف.10. بَني سَلمَة. 11. بَني شَيبانَ. 12. بَني الحَارِثِ بن كَعْب13. بَني هَمَذان. 14. بَني ثعلبَة. 15. بَني عَامِر بن صَعْصَعَة.16. بَني عَبْس. 17. أهل ثقيف. 18. بَني قَيْس بن الحُطيم.19. بَني غَسَّان. 20. بَني عُذرَة. 21. الأوس 22. َالخَزْرَج.23. بني محارب بن خصفة 24. بني نصر 25. بني البكاء 26. والحضارمة.
ولناخذ هذه النماذج الثلاث التي يتفطر لها قلب كل مؤمن يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقتدي به.
الأولى: عندَ طلب الرسول عليه الصلاة والسلام النصرة من عامرِ بن ِ صَعْصَعَة.
الثانية: عِندَ طلب الرسول عليه الصلاة والسلام النصرة من بنِي شَيبَانَ بن ِ ثعلبَة.
الثالثة: عندَ طلب الرسول عليه الصلاة والسلام النصرة من ثقِيفٍ.
– النموذجُُ الأول طلب النصرة من قبيلةِ عَامِر ِ بن ِ صَعْصَعَةَ:
قالَ ابنُ إسحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابنُ شِهَابٍ الزُّهْريِّ, أنَّهُ أتى بَني عَامِر بن ِ صَعْصَعَة َ, فدَعَاهُمْ إلى اللهِ, وَعَرَضَ عَليهمْ نَفسَهُ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنهُمْ يُدعَى (بحيرَة بنَ فرَاس): وَاللهِ لَو أنِّي أخَذتُ هَذا الفَتى مِنْ قُرَيشٍ لأكلْتُ بهِ العَرَبَ..!! ثُمَّ قَالَ لَهُ: أرَأيتَ إنْ نَحْنُ تَابَعنَاكَ عَلى أمْرِكَ ثُمَّ أظهَركَ اللهُ عَلى مَنْ خَالفَكَ, أيَكُونُ لنَا الأمْرُ منْ بَعدِكَ…؟؟ قالَ: الأمْرُ للهِ يَضَعُهُ حَيثُ يَشَاءُ…!! فقالَ لَهُ الرَّجُلُ: أفتَهدِفُ نُحُورَنا لِلعَرَبِ دُونَكَ, أيْ تجعَلُ نُحُورَنَا هَدَفا ً لِلرَّمْيِّ, فإذا أظهَرَكَ اللهُ كانَ الأمرُ لغَيرِنَا…!! لا حَاجَة َ لَنا بأمْرِكَ…!! فأبَوا عَلَيهِ…!!
إنَّ لَفظَ (الأمر) حَيثُمَا وَرَدَ فِي النَّصِّ السَّابقِ ليسَ لَهُ مِنْ مَعنىً سِوَى الحُكم ِ وَالسُلطانِ، أيْ أنَّ الرَّسُولَ عَليهِ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ كانَ يَسعَى لاستِلام ِالحُكم عَنْ طريق ِأهل ِالقُوَّةِ وَالمَنَعَةِ.
وَظلَّ رَسُولُ اللهِ ( يَدْعُو النَّاسَ كُلَّمَا أتِيحَ لَهُ ذلكَ، فإذا جَاءَ مَوسِمُ الحَجِّ وَاجتمَعَ النَّاسُ مِنْ أنحَاءِ شِبهِ الجَزيرَةِ بمَكة بَادَأ رَسُولُ اللهِ القبَائِلَ فدَعَاهَا إلى الإسلام ِغَيرَ آبهٍ أنْ تُبدِيَ هَذِهِ القَبَائِلُ رَغبَة ً عَنْ دَعوَتِهِ، أو إعرَاضاً عَنهُ، أو أنْ ترُدَّهُ رَدَّا ً غَيرَجَمِيلٍ…!
– النموذج ُالثاني: طلب النصرة من بَني شيبَانَ
أخرَجَ أبُو نَعيم عَن ِابن ِعبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنهُما, عَنْ عليِّ بن ِأبي طالبٍ كرَّمَ اللهُ وَجهَهُ قالَ: لمَّا أمَرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ يَعرِضَ نفسَهُ عَلى قبَائل ِ العَرَبِ خَرَجَ وَأنا مَعَهُ وَأبُو بَكرٍ (رضي الله عنه) إلى مِنَى, حَتى دُفِعنا إلى مَجلس ٍ مِنْ مَجَالِس ِ العَرَبِ، فتقدَّمَ أبُو بكرٍ فسَلَّمَ, وَكانَ أبُو بَكرٍ مُقدَّماً فِي كُلِّ حِينٍ، وَكانَ رَجُلا ً نسَّابَةً فقالَ: مِمَّن ِالقومُ؟ قالُوا: مِنْ رَبيعَة، قالَ: وَأيِّ رَبيعَةٍ أنتُم؟ فذكرَ الحَديثَ بطُولِهِ وَفيهِ قالَ: ثُمَّ انتهيتُ إلى مَجلس ٍعَليهِ السَّكينة ُ وَالوَقَارُ، فتقدَّمَ أبُو بَكرٍ فسَلَّمَ، قالَ عَليٌ: وَكانَ مُقدَّما ً فِي كُلِّ حِين ٍ فقالَ لهُمْ أبُو بَكرٍ: مِمَّن ِالقومُ؟ قالُوا: نَحْنُ بنُو شَيبانَ بن ثعلبَة، فالتفَتَ إلى رَسُولِ اللهِ، فقالَ: بأبي أنتَ وَأمِّي، فليسَ بَعدَ هَؤلاء مِنْ عزٍّ في قومِهم…!!
وَكانَ فِي القومِ مَفرُوقُ بنُ عَمْروٍ وَهَانئُ بن قبيصَة، وَالمُثنَّى بنُ حَارثة، وَالنُّعمَانُ بنُ شُريك، فذكرَ الحَدِيث بطولِهِ حَتى قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ: (أدْعُوكُمْ إلى شهَادَةِ أنْ لا إلهَ إلا َّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأنْ تُؤوُونِي وَتَنصُرُونِي وَتمنعُونِي حَتَّى أؤدِّيَ عَن ِاللهِ تعَالى مَا أمَرَنِي بهِ، فإنَّ قُرَيشا ً قدْ تَظَاهَرَتْ عَلى أمْرِ اللهِ، وَكذبَتْ رَسُولَهُ، وَاستغنَتْ بالبَاطِلِ عَن ِالحَقِّ، وَاللهُ هُوَ الغنِيُّ الحَمِيدُ).
فقالُوا: (إنَّمَا نزَلْنَا عَلى عَهدٍ أخَذهُ عَلينَا كِسرَى، أنْ لا نُحْدِثَ حَدَثاً، وَلا نُؤوِيْ حَدَثاً، لعَلَّ هَذا الأمْرَ الذي تدْعُونَا إليهِ مِمَّا تكرَهُهُ المُلوكُ…!!
فأمَّا مَا كانَ يَلي بلادَ العَرَبِ فذنْبُ صَاحِبهِ مَغفُورٌ، وَعُذرُهُ مُقبُولٌ، وَأمَّا مَا كانَ يَلي بلادَ فارِسَ فذنْبُ صَاحِبِهِ غيرُ مَغفُورٍ، وَعُذرُهُ غَيرُ مَقبُولٍ، فَإنْ أرَدْتَ أنْ نَنْصُرَكَ مِمَّا يَلي العَرَبَ فعَلْنَا).
فقالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَا أسَأتُمُ الرَّدَّ إذ أفْصَحْتُمْ بِالصِّدق ِ …!! وَإنَّهُ لا يَقُومُ بدِين ِاللهِ إلا َّ مَنْ أحَاطَهُ مِنْ جَمِيع ِ جَوَانبهِ)، ثُمَّ قالَ لِبَني شَيبَانَ: ( أرَأيتُمْ إنْ لَمْ تلْبَثُوا إلا َّ يَسيرا ً حَتَّى يَمنَحَكُمُ اللهُ بلادَهُمْ وَأموَالَهُمْ، وَيُفرِشَكُمْ بَنَاتِهُمْ، أتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدِّسُونَهُ)؟!
فقالَ لهُ النُّعمَانُ بنُ شُريكٍ: وَإنَّ ذلكَ لكَ يَا أخَا قُرَيش؟! فَتَلا رَسُولُ اللهِ قولَهُ تعَالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب 46].
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَابِضَاً عَلى يَد أبِي بَكر ٍ (رضي الله عنه)…!!
– النموذج ُالثالث: طلبُ النُصْرَةِ وَالمَنعَةِ مِنْ ثَقِيف:
قالَ ابنُ إسحَاقَ: فلمَّا هَلكَ أبُو طالِبٍ نَالَتْ قُرَيشٌ مِنْ رَسُول ِاللهِ مِنَ الأذى مَا لَمْ تَكُنْ نَالتْهُ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ أبي طالِبٍ، فخَرَجَ رَسُولُ اللهِ إلى الطَّائِفِ يَلتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النُّصْرَة َ وَالمَنَعَة َ بِهِمْ مِنْ قَومِهِ، وَرَجَا أنْ يَقبلُوا مِنهُ مَا جَاءَهُمْ بهِ مِنْ عِندِ اللهِ تعَالى، فخَرَجَ إليهمْ، وَرَدُّوهُ رَدَّا ً غَيرَ جَمِيلٍ، بَلْ رَدُّوهُ رَدَّاً قَبيحاً..!!
وَلمَّا انتهَى رَسُولُ اللهِ إلى الطائِفِ وَعَمَدَ إلى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ هُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأشَرَافُهُمْ، وَهُمْ إخْوَة ٌ ثلاثَةٌ: عَبدُ يَالِيل، وَمَسْعُودٌ، وَحَِبيبٌ، وَعِندَهُمُ امرَأة ٌمِنْ قُرَيشٍ، فَجَلَسَ إليهمْ فَدَعَاهُمْ إلى اللهِ، وَكلَّمَهُمْ لِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتهِ عَلى الإسلامِ، وَالقِيَام ِ مَعَهُ عَلى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَومِهِ.
فقالَ أحَدُهُمْ : أنَا أسْرِقُ ثِيَابَ الكَعْبَةِ إنْ كانَ اللهُ بَعَثَكَ بشَيءٍ قطُّ…!!
وَقالَ الآخَرُ: أعَجِزَ اللهُ أنْ يُرْسِلَ غَيرَكَ؟ وَقالَ الثالِثُ: وَاللهِ لا أكلِّمُكَ بَعدَ مَجلِسِكَ هَذا كَلِمَة ً وَاحِدَة ً أبَدا ً: لَئِنْ كُنتَ رَسُولاً كمَا تقُولُ، فأنتَ أعْظَمُ شَرَفا ً وَحَقَّا ً مِنْ أنْ أكَلِّمَكَ!! وَلَئِنْ كُنتَ تَكذِبُ عَلى اللهِ، فأنتَ شَرٌ مِنْ أنْ أكَلِّمَكَ!! وَمَا يَنبَغي لِي أنْ أكَلِّمَكَ!!
فَقامَ رَسُولُ اللهِ مِنْ عِندِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَير ِ ثَقِيفٍ، فَقالَ لهُمْ: إنْ فَعَلتُمْ مَا فَعَلتُمْ فاكتُمُوا عَنِّي!! فَلَمْ يَفعَلُوا، وَأغرَوا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ، وَيََصِيحُونَ بِهِ حَتَّى اجتَمَعَ عَليهِ النَّاسُ، يَستهزِئُونَ بِرَسُولِ اللهِ، وَقعَدُوا لَهُ صَفَّين ِعَلى طَريقِهِ، فأخذوا بأيديهِمُ الحِجَارَةَ، فجَعَلَ لا يَرفَعُ رِجلَيهِ وَلا يَضَعُهُمَا إلا رَضَخُوهُمَا بالحِجَارَةِ، وَهُمْ فِي ذلكَ يَستهزئُونَ وَيَسخَرُونَ…!!
فَلمَّا خَلَصَ مِنْ صَفَّيهمْ، عَمَدَ إلى حَائِطٍ مِنْ كُرُومِهمْ، فأتى حَبْلة ً مِنْ عِنَب ٍ فجَلَسَ فِي أصْلِهَا مَكرُوباً مُوجَعاً، وَقدَمَاهُ تَسيلانِ الدِّمَاءَ، فإذا فِي الكَرْم ِعُتبَةُ وَشَيبَةُ ابنَا رَبيعَة.
فلمَّا أبصَرَهُمَا كَرِهَ أنْ يَأتيَهُمَا، لِمَا يَعلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهمَا للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَبِهِ الذي بِهِ، وَابنَا رَبيعَة َ يَنظُرَان ِ إليهِ، وَيَريَان ِ مَا يَلقَى مِنْ سُفَهَاءِ أهْل ِالطَّائِفِ، فَلمَّا اطمَأنَّ أخَذ َ يُناجِي رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ بهَذا الدُّعَاءِ الذي تَتَفَطَّرُ لَهُ القُلُوبُ، وَيَأخُذُ الألبَابَ:
«اللهُمَّ إليكَ أشكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّة َ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلى النَّاس، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ، أنتَ رَبُّ المُستضعفينَ، وَأنتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أمْ إلى عَدُوّ ٍ مَلَّكتَهُ أمري؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غََضََبٌ عَليَّ فَلا أبَالِي!! وَلكِنَّ عَافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي، أعُوذ ُ بِنُور ِ وَجْهِكَ الذي أشرَقَتْ لَهُ الظُّلمَاتُ، وَصَلُحَ عَليهِ أمْرُ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، مِنْ أنْ يَنزِلَ بي غَضَبُكَ، أوْ يَحِلَّ عَليَّ سَخَطُكَ، لكَ العُتبَى حَتَّى ترْضَى، وَلا حَولَ وَلا قُوَّة َإلا َّ بِكَ».
فلمَّا رَأى شَيبَةُ وَعُتبَةُ ابنَا رَبيعَة َ مَا لقِيَ رَسُولُ اللهِ تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوا غُلاما ً لَهُمَا نَصْرَانِيَّاً يُقالُ لَهُ: عَدَّاسٌ، وَقَالا لَهُ: خُذ قُطفاً مِنْ هَذا العِنَبِ، فَضَعْهُ فِي هَذا الطَّبَقِ ثُمَّ اذهَبْ بِهِ إلى ذلكَ الرَّجُلِ فَقُلْ لَهُ يَأكُلُ مِنهُ، ففَعَلَ عدَّاسٌ، ثُمَّ ذهَبَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَينَ يَديْ رَسُول ِاللهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ، فلمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ فيهِ قَالَ: بسمِ اللهِ، ثُمَّ أكَلَ، ثُمَّ نَظَرَ عدَّاسٌ فِي وَجْههِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ إنَّ هَذا الكلامَ مَا يَقُولُهُ أهْلُ هَذِهِ البِلادِ، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: وَمِنْ أهْل ِأيِّ بِلادٍ أنتَ يَا عدَّاسُ، وَمَا دِينُكَ؟ قَالَ: نَصْرَانِيٌ، وَأنَا رَجُلٌ مِنْ نِينَوَى، فقَالَ رَسُولُ اللهِ: مِنْ قريَةِ الرَّجُل ِ الصَّالِح ِ يُونُس ِ بن ِمَتَّى. فقَالَ لَهُ عدََّاسٌ: وَمَا يُدريكَ مَا يُونُسُ بنُ مَتَّى؟ فقالَ رَسُولُ اللهِ: ذلكَ أخِي كانَ نَبيَّاً، وَأنَا نَبيٌ، فَأكَبَّ عدَّاسٌ عَلى رَسُول ِ اللهِ، يُقبِّلُ رَأسَهُ وَيَدَيهِ وَقدَمَيهِ…!!
فقالَ أبنَاءُ رَبيعَة َ أحَدُهُمَا لِصَاحِبهِ: أمَّا غُلامُكَ فقدْ أفسَدَهُ عَليكَ، فلمَّا جَاءَ عدَّاسٌ قالا لَهُ: وَيلَكَ يَا عدََّاسُ، مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأسَ هَذا الرَّجُل ِ وَيَدَيهِ وَقَدَمَيهِ…؟؟!!
قالَ: يَا سَيِّدي مَا فِي الأرض ِشَيءٌ خَيرٌ مِنْ هَذا..!! لقَدْ أخَبَرَنِي بأمْر ٍلا يَعْلَمُهُ إلا َّ نَبيٌ…!! قَالا لَهُ: وَيحَكَ يَا عدَّاسُ، لا يَصْرفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإنَّ دِينَكَ خَيرٌ مِنْ دِينِهِ…!!».
القبيلتان اللتان نصرتا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
وَلمْ يَطُلْ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الانتِظارُ حَتَّى بَدَتْ تبَاشِيرُ الفَوزِ والنصر آتِيَةً مِنَ المَدِينَةِ، قالَ ابنُ إسحَاقَ: «فلمَّا أرَادَ اللهُ إظهَارَ دِينِهِ، وَإعزَازَ نَبيِّهِ، وَإنجَازَ مَوعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ فِي المَوسِم ِالذي لَقِيَهُ فيهِ النَّفَرُ مِنَ الأنصَار، فعَرَضَ نَفسَهُ عَلى قبَائِل ِالعَرَبِ كمَا كانَ يَصنَعُ فِي كُلِّ مَوسِمٍ، فبَينا هُوَ عِندَ العَقَبَةِ لقِيَ رَهْطا ً مِنَ الخزرَج، أرَادَ اللهُ بهمْ خَيراً فقالَ لهُمْ: (مَنْ أنتُم؟). قالُوا: نَفَرٌ مِنَ الخزْرَجِ، قالَ: (أمِنْ مَوَالِي يَهُود ؟) قالُوا: نَعَمْ، قالَ: (أفلا تجلِسُونَ أكلِّمُكُمْ ؟) قالُوا: بَلى، فجلَسُوا مَعَهُ فدَعَاهُمْ إلى اللهِ، وَعَرَضَ عَليهِمْ الإسلامَ، وَتلا عَليهمُ القُرآنَ، وَكانَ مِمَّا صَنَعَ اللهُ بهمْ فِي الإسلام ِ أنَّ يَهُودَ كانُوا مَعَهُم فِي بلادِهِمْ، وَكانُوا أهْلَ كِتَابٍ وَعِلمٍ، وَكانُوا أهْلَ شِركٍ، أصَحَابَ أوثانٍ، وَكانُوا قدْ غَزَوهُمْ ببلادِهِمْ، فكانُوا إذا كانَ بَينهُمْ شَيءٌ قالُوا: إنَّ نَبِيَّا ً مَبعُوثٌ- أي سَيُبعَثُ- الآنَ قدْ أظلَّ زَمَانُهُ نَتَّبِعُهُ، نَقتُلُكُمْ مَعَهُ قَتلَ عَادٍ وَإرَمَ…!!
فلمَّا كلَّمَهُمْ رَسُولُ اللهِ قالَ بَعْضُهُمْ لبَعضٍ: «يَا قَومُ، تَعلمُونَ وَاللهِ إنَّهُ لَلنَّبيُّ الذي تَوَعَّدُكُمْ بهِ يَهُودُ، فلا يَسبِقُنَّكُمْ إليه»… فأجَابُوهُ فيمَا دَعَاهُم إليهِ بَأنْ صَدَّقُوهُ، وَقبِلُوا مِنهُ مَا عَرَضَ عَليهِمْ مِنَ الإسلامِ وَقالُوا لَهُ: «إنَّا قدْ ترَكْنَا قَومَنَا -أيْ الأوسَ وَالخزْرَجَ- وَلا قَومٌ بَينهُمْ مِنَ العَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَينَهُمْ، وَعَسَى أنْ يَجْمَعَهُمُ اللهُ بكَ، فسَنقْدُمُ عَليهِمْ، فنَدْعُوهُمْ إلى أمْرِكَ، وَنعرِضُ عَلَيهِمُ الذي أجَبنَاكَ إليهِ مِنْ هَذا الدِّينِ، فإنْ يَجْمَعْهُمُ اللهُ عَليكَ، فلا رَجُلٌ أعَزُّ مِنكَ»…!!
ثُمََّ انصَرَفُوا عَن ِ رَسُول ِ اللهِ رَاجِعينَ إلى المَدينةِ، وَقدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا، فذكَرُوا لِقَومِهمْ إسَلامَهُمْ فَألفَوا قُلُوبا ً مُنشَرِحَةً وَنفُوساً مُتلهِّفَةً لِلدين ِالجَدِيدِ…!!».
قالَ ابنُ إسحَاقَ: «فلمَّا انصَرَفَ عَنهُ القَومُ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بنَ عُمَيرٍ، وَأمَرَهُ أنْ يُقرِئَهُمُ القُرآنَ، وَيُعَلِّمَهُمُ الإسلامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ. نزَلَ مُصْعَبٌ عَلى أسْعَدَ بن ِ زُرَارَة، فكانَ يُسمَّى بالمَدِينَةِ المُقرِئ، خَرَجَ أسْعَدُ بمُصْعَبٍ يُرِيدُ بهِ دَارَ بَنِي عَبدِ الأشهَلِ وَدَارَ بَنِي ظُفَر. وَكانَ سَعدُ بنُ مُعاذ ابنَ خَالةِ أسْعَدَ بن ِ زُرَارَة، فدَخَلَ بهِ حَائِطاًً مِنْ حَوائِطِ بَنِي ظُفَر, فجَلَسَا فِي الحَائِطِ- البستان- وَاجتمَعَ إليهمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أسلمُوا. وَسَعدُ بنُ مُعَاذ، وَأسَيدُ بنُ الحُضَير ِ يَومَئذٍ سَيِّدا قومِهمَا مِنْ بَنِي عَبدِ الأشْهَلِ. وَكِلاهُمَا مُشرِكٌ عَلى دِين ِ قَومِهِ، فلمَّا سَمِعَا بمُصْعَبٍ، قالَ سَعدٌ لأسَيدٍ: لا أبَا لكَ، انطلِقْ إلى هَذينِ الرَّجُلَينِ اللذينِ قدْ أتَيَا دَارَينَا ليُسفِّهَا ضُعَفاءَنا، فازْجُرْهُمَا، وَانهَهُمَا أنْ يَأتِيَا دَارَينَا، فإنَّهُ لَولا أسْعَدُ بنُ زُرَارَة َ مِنِّي حَيثُ قَدْ عَلمْتَ كَفَيتُكَ ذلكَ، هُوَ ابنُ خَالَتِي، وَلا أجِدُ عَليهِ مُقدَّماً، قالَ: فأخَذ أسَيدُ بنُ حُضير ٍحَرْبَتَهُ ثُمَّ أقبَلَ إليهمَا…!!
فلمَّا رَآهُ أسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ، قالَ لمُصْعَبٍ: هَذا سَيِّدُ قَومِهِ، وَقَدْ جَاءَكَ فاصْدُق ِاللهَ فيهِ، قالَ مُصْعَبٌ: إنْ يَجلِسْ أكلِّمْهُ. قالَ: فوَقَفَ عَليهمَا مُتشتِّماً، فقالَ: مَا جَاءَ بكُمَا إلينَا تُسَفِّهَان ِ ضُعَفَاءَنَا…؟؟ اعتزِلانَا إذا كُنتُمَا لا تُرِيدَان ِالخرُوجَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ…!! أوْ كانَ لَكُمَا بأنفُسِكُما حَاجَةٌ…!!
فقالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أوَلا تجْلِسُ فَتَسْمَعَ، فإنْ رَضِيتَ أمْرَنَا قبِلتَهُ، وَإنْ كَرِهْتَه، كَفَفْنَا عَنكَ مَا تكرَهُ…؟! قالَ: أنْصَفتَ، ثُمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إليهمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بالإسلام، وَقَرَأ عَليهِ القُرْآنَ، فقَالا: وَاللهِ، لقَدْ عَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإسلامَ قَبْلَ أنْ يَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: مَا أحْسَنَ هَذا وَأجْمَلَهُ…!! كيفَ تَصْنَعُونَ إذا أرَدتُمْ أنْ تَدْخُلُوا فِي هَذا الدَّينِ..؟! قَالا لَهُ: تَغتَسِلُ، وَتُطَهِّرُ بَدَنَكَ وَثَوبَيكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَة َ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فاغتَسَلَ وَطهَّرَ ثَوبَيهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّّ قَامَ فَرَكَعَ رَكعَتَينِ، ثُمَّ قالَ لهُمَا: إنَّ وَرَائِي رَجُلا ًإن ِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنهُ أحَدٌ مِنْ قَومِهِ، وَسَأرْسِلُهُ إليكُمَا الآنَ. سَعْدُ بنُ مُعاذ…!!
ثُمَّ أخَذ أسَيدُ بنُ الحُضَير حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إلى سَعْدٍ وَقَومِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهمْ فَلمَّا نظَرَ إليهِ سَعدُ بنُ مُعاذٍ مُقبلاً، قالَ: أحْلِفُ باللهِ، لقَدْ جَاءَكُمْ أسَيدٌ بغَير ِ الوَجْهِ الذي ذهَبَ بهِ مِنْ عِندِكُمْ…!!
فلمَّا وَقَفَ عَلى النَّادِي قالَ لَهُ سَعدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَين، ِ فَوَاللهِ مَا رَأيتُ بهمَا بَأساً وَقَدْ نَهَيتُهُمَا فقالا: نَفعَلُ مَا أحْبَبتَ، فقامَ سَعدٌ مُغضَباًً وَأخذ الحَرْبَة َ فِي َيدِهِ وَقالَ : مَا أرَاكَ أغنَيتَ شَيئاً…!!
ثُمَّ خَرَجَ إليهِمَا، فلمَّا رَآهُمَا مُطمَئِنَّين ِعَرَفَ أنَّ أسَيدا ً إنَّمَا أرَادَ أنْ يَسمَعَ مِنهُمُا، فوَقَفَ سَعدُ بنُ مُعاذٍ مُتشَتِّماً ثُمَّ قالَ لأسْعَدَ بنِ زُرَارَة َ: وَاللهِ يَا أبَا أمَامَةَ، وَاللهِ لَولا مَا بَينِي وَبَينَكَ مِنَ القَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذا مِنِّي، أتغْشَانَا فِي دَارِنَا بمَا نَكرَهُ…؟؟ فقالَ لَهُ مُصْعَبٌ: «أولا تجْلِسُ فتَسْمَعُ, فإنْ رَضِيتَ أمْراً رَغِبْتَ فيهِ قَبِلْتَهُ، وَإنْ كَرِهْتَهُ عَزَلنَا عَنكَ مَا تَكرَهُ…؟!» قالَ سَعدٌ: أنصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ الحَرْبة َ وَجَلسَ، فعَرَضَ عليهِ الإسلامَ، وَقرَأ عَليهِ القُرأنَ. وَذكرَ مُوسَى بنُ عُقبَة َ أنَّهُ قَرَأ عَليهِ أوَّلَ سُورَةِ الزُّخرُفِ…!! قالَ عَزَّ مِنْ قَائِل: (حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ(5)وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(7)فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [الزخرف 1-8] قَالا: فعَرَفنَا وَاللهِ فِي وَجْهِهِ الإسلامَ قبلَ أنْ يَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قالَ لهُمَا: كَيفَ تَصْنَعُونََ إذا أنتُمْ أسْلمتُمْ وَدَخلتمْ فِي هَذا الدِّين ِ…؟؟!! قَالا: تَغتَسِلُ، وَتُطَهِّرُ بَدَنَكَ وَثَوبَيكَ ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَة َ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِي رَكعَتَينِ، فقَامَ سَعدٌ فاغتَسَلَ، وَطهَّرَ ثَوبَيهِ، وَشَهِدَ شَهَادَة َالحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكعَتَينِ، ثُمَّ أخَذ حَرْبَتَهُ فَأقبَلَ عَائِداً إلى نَادِي قَومِهِ وَمَعَهُ أسَيدُ بنُ الحُضَيرِ. فَلَمَّا رَآهُ قَومُهُ مُقبلاً قَالُوا: نَحلِفُ باللهِ، لَقَدْ رَجَعَ إليكمْ سَعدٌ بغَيرِ الوَجْهِ الذي ذهَبَ بِهِ مِنْ عِندِكُمْ…!! فَلمَّا وَقَفَ عَليهِمْ، قَالَ: يَا بَنِي عَبدَ الأشْهَلِ كَيفَ تعلَمُونَ أمْري فِيكُمْ …؟؟ قالُوا: سَيِّدُنَا، وَأفْضَلُنَا رَأياً قالَ: فإنَّ كَلامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكمْ عَليَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ..!! قَالَ: فوَاللهِ مَا أمْسَى فِي دَار ِ بَنِي عَبْدِ الأشْهَل ِ رَجُلٌ وَلا امْرَأة ٌ إلا مُسلِمَاً أو مُسلِمَةً…!! وَرَجَعَ سَعدٌ وَمُصْعَبٌ إلى مَنزِلِ أسْعَدَ بن ِ زُرَارَةَ فَأقَامَا عِندَهُ يَدْعُوَان ِالنَّاسَ إلى الإسلام ِ حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِالأنصَارِ إلاَّ وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسلِمُونَ…!!»
وهكذا تحققتِ النصرةُ لِلنبي فكَانَتْ بَيعَة ُ العَقَبَةِ الأولى ثُمَّ الثَّانِيَة، وَانتَهَتِ المَرحَلة ُ الثانيةُ بهجرَةِ الرَّسُول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المَدِينَةِ جَاعِلاً إيَّاهَا نُقطَةَ ارتِكَازٍ لَهُ، فَأقَامَ فِيهَا الدَّولةَ، وَتَوَلَّى السُّلطَانَ…!! من هذه النماذج الثلاث نجد أن طلبَ النُّصْرَةِ أمْرٌ مِنَ اللهِ يَجِبُ القِيَامُ بِهِ وَهُوَ جُزءٌ مِنَ الطَّريقَةِ الشَّرعَِّيةِ لا يَجُوزُ تجَاهُلُهُ أو إنكَارُهُ. وتأخر النصر وعدم استجابة من طُلبت النصرة منهم والإخفاقُ فِي طَلَبِ النُّصْرَةِ لا يَعنِي الخَطأ فِي الطريق ِأو المَنهَجِ، وإنَّ تِكرَارَ طَلَبِ النُّصْرَةِ مَعَ الرَّدِ وَالإخْفَاقِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لا يَعنِي الخَطأ فِي الطَّريق ِأو المَنهَجِ، إنَّمَا يَعنِي الثَّبَاتَ على المبدأ حَتَّى المَمَاتِ، عَلى الطَّريقَةِ الشَّرْعِيَّةِ التي أمَرَ اللهُ بهَا…!
ومما سبق يلاحظ:
1- إن طلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للنصرة من خارج مكة بدأ ينشط بها بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه عَقِبَ وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه من قريش، وذلك لأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعَّال في النشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جوّ من العنف، والضغط وبالتالي فإن طلب النصرة لحماية الإسلام ودعوته منطبق على الواقع في زمننا وفي زمنه عليه الصلاة والسلام.
2- إن عرض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو وحي من الله عزوجل له، وليس مجرد اختيار من بين البدائل.
3- إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حصر طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون، لأن هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدعوة وحملتها.
4- إنه يلاحظ في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلب النصرة إنما كان يطلبها لأمرين:
أ) من أجل حماية تبليغ الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إليها وإلى حَمَلتها.
ب) من أجل أن يتسلم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مقاليد الحكم والسلطان على أساس تلك الدعوة، وهذا ترتيب طبيعي للأمور.
5- إن من صفة النصرة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبها لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بقوى دولية تتناقض مع الدعوة، ولايستطيعون التحرر منها.
فالملاحظ أن الحماية المشروطة أو الجزئية لاتحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضد كسرى لو أراد قتال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المؤمنين، وبذلك لم ينجح معهم النقاش حول طلب النصرة.
6- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه»، كان هذا الرد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس. يدل على ان النصرة لا تكون بأي كيفية، بل يجب أن تستكمل كل الشرائط الشرعية، وقد أحسنت بنو شيبان حين كانت كالكتاب المفتوح ولم تخفِ شيئاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
7- إن العمل العظيم الذي قام به سيد الأنصار سعد بن معاذ (رضي الله عنه) لنبراسٌ لكل من تتوق نفسه أن يكون من أنصار هذا الزمان، فيفوز بذلك الفضل العظيم، فهو استنفد كل ما يملكه من قدرة لإقناع قومه للدخول في الإسلام ونصرة الإسلام فنجح أيما نجاح، وكل ميسر لما خلق له.
8- إن نصر الله آتٍ لا محالة، والأصل ألا نحزن في تأخره، فقد تأخر كذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كرر طلب النصرة مراراً ولم تستجب له القبائل من أول وهلة، وكان فيه الصد والرد الشنيع والإيذاء وصبر (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه، ولكن الأصل أن نهتم لأمرين: الأول عدم الكلل والملل في القيام بالحكم الشرعي وهو طلب النصرة، والثاني أن يكون حزننا إن لم يخترنا الله أن نكون جنوداً لهذا النصر، إما طلاباً له أو أنصاراً له، وما ذلك على الله بعزيز، والمطلوب أن نبحث لنا عن موطئ قدم حتى نكون من أنصار الله.
لقد اتضح مما سبق وجوب طلب النصرة من قِبَلِ الأمة وكل حزب يدعو لاستئناف الحياة الإسلامية، فلا يكفي أي جماعة تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية أن تكتفي بالتثقيف لأفرادها وللأمة، ولا يكفيها التفاعل مع الأمة والصراع الفكري فحسب، بل يجب أن تقوم بطلب النصرة من كل من ملك سلطاناً يصلح أن يكون نواة لدولة الخلافة التي بشرنا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). والقيام بالواجب كاملاً لا يكون إلا بالتلبس بإقامة الدولة عن طريق طلب النصرة ممن بيدهم القوة والمنعة من زعماء العشائر والقبائل وأبناء الأمة في قيادة الجيوش، فهم من بيدهم القوة والمنعة، وقد ابتلاهم الله عز وجل، بهذه القوة، فالواجب عليهم أن يقدموا كل ما في يدهم لنصر دين الله، وتحقيق وعد الله لعباد الله المؤمنين، ونحن الآن في آخر الزمان الذي سيكون فيه النصر المؤزر لأمتنا الإسلامية، ونحن قادرون على تحقيق هذا النصر، فالله عز وجل طلب من المؤمنين أن يكونوا أنصاره، والله سبحانه لا يخيِّب مجيباً لطلبه، قال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) [الصف 14] وقال عز من قائل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد 7]. ونحن إذا نظرنا إلى أهل الحرمين فهم أحفاد الصحابة الأنصار والمهاجرين، وإلى أهل العراق فأجدادهم من نصر الإسلام منذ ان دخلوا في الإسلام وكانوا منارة الإسلام من بغداد، ولننظر إلى الأكراد فجدهم صلاح الدين محرر بيت المقدس، أما أهل الشام فقد وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم أهل النصر، أما الأتراك فهم أحفاد بني عثمان ومحمد الفاتح، أما أهل مصر فقد قال عنهم رسول الله: «خير الجند جند مصر»، أما أهل السودان ومن جاورهم فقد قال عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «لا تكتمل ثلتنا حتى نستعين برعاة الإبل من السودان»، أما أهل شمال أفريقيا حتى المغرب فهم أحفاد عقبة بن نافع وطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين، وهذا غير مسلمي شرق ووسط وجنوب آسيا أهل الخير والإيمان والجهاد، فأمتنا تاريخها زاهر بالأنصار وما زالت دماؤهم تزكي نفوسنا وتجري في عروقنا.
إن حزب التحريرهو الحزب الوحيد في العالم الذي يطلب النصرة الآن لإقامة دولة الخلافة، وقد قام بعمل جدي أكثر من عدة مرات وقدم شهداء كثر من أجل القيام بهذا الواجب.
والأمة الآن تنتظر من ينصر دين الله بإقامة الخلافة، وهو واجب لا يجوز تأخيره على ثلاثة أيام كما أجمع الصحابة الكرام، والقاعدة الشرعية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومما يجب ذكره أن حزب التحريرقدم دستوراً – من باب الواجب- مكوناً من (191) مادة لتحكم به دولة الخلافة القادمة قريباً بإذن الله، وقد بسط الأدلة الشرعية لكل مادة من مواده في كتابه القيم مقدمة الدستور، حتى تقوم الدولة على بصيرة من نور ربها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختصنا بأن نكون عنده من قام بعمل مصعب الذي قام بطلب النصرة بطلب من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح قلوب أهل القوة والإيمان لنصرة هذا الدين (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم 3-4].
2010-07-17