(لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) القرار الحاسم!
1987/07/21م
المقالات
4,937 زيارة
تاريخ الإسلام حافل بالمواقف العظيمة التي ينحني أمامها التاريخ إجلالاً واحتراماً. ومواقف النبي ﷺ تشكل خير منهاج يقتدى به. ووقفته أمام حكام مكة، وثباته على الحق وإصراره عليه، تشكل أعظم موقف وقفه داعية أمام الحكام.
بعث الله تعالى رسوله للناس بشيراً ونذيراً، فبدأ دعوته في مكة. وإذ نزل قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، دعا رسول الله ﷺ من كان حوله من أقربائه وصحبه إلى الإسلام، وعبادة الله الواحد، والتصديق بنبوته. وكان أول من آمن به عليه الصلاة والسلام زوجته خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وصاحبه أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين. ثم اسلم العديد من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّث الناس به.
ثم تفاعلت الدعوة في المجتمع، واستمرت ثلاث سنوات على سرّية من التكتل. فكان الرسول ﷺ يتّصل بالناس يعرض عليهم الإسلام ويكتّلهم حوله على أساس هذا الدين سراً. وقد أسلم خلال هذه الفترة من شباب مكة أربعون على أصح الروايات، منهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وغيره كثير. واستمر الأمر كذلك حتى نزل قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ)، إيذاناً منه بإعلان كتلة الحق، وتحدّي المشركين.
ومضى رسول الله ﷺ يدعو إلى الإسلام متحدياً عقائد الكفر. فكان يسفّه أحلام(1) قريش وسادتها الذين يتخذون من الحجارة والخشب وحتى التمر أصناماً يعبدونها. كما كان يهاجم العلاقات التي كان يقوم عليها مجتمع مكة، وكان صراعه مع مشركي مكة صراعاً فكرياً، وكان منحاه الجدال بالحق، وإذ كان الرسول ﷺ وأصحابه لا يقبلون في الحق مسايرة أو مهادنة، رأى سادة قريش في هذه الدعوة خطراً عليهم، وتهديداً لتجارتهم، وزعزعة لمكانة قريش بين العرب(2). فأعلنوا الحرب على الرسول، وحاربوه وفكرته بشتى الوسائل، وبثّوا الدعاية ضده في مكة وخارجها. كما حاولوا إقناع الرسول ﷺ بترك دعوته أو التنازل في أمرها والتخفيف منها، لكن نبي الله عليه الصلاة والسلام وقف منهم ومن محاولاتهم موقفاً تاريخياً لا نزال نحصد ثماره إلى اليوم.
واعتدت قريش على المستضعفين يعذبونهم ويجبرونهم على الكفر والنيل من رسول الله ﷺ بسوء الكلام. كما تهجّموا على النبي ﷺ ببذيء الكلام وبفاحش القول وبسوء الفعل، واعتدوا على أصحابه بالأذيّة ما استطاعوا سبيلاً إلى ذلك. ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يفتنونهم عن دينهم. ولكن الرسول ﷺ كان أعلن أن لن يثنيه شيء عن الدعوة إلى ربه حتى يظهر الله أمره. وفي ذلك يقول الصادق المصدق صلوات الله وسلامه عليه: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون بين يوم وليلة ومالي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبطُ بلال» [أخرجه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ].
ذكر ابن هشام في سيرته عن ابن اسحق أن رسول الله ﷺ لما بادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد عنه قومه ولم يردّوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها. وكأنهم لم يعنوا به أول الأمر ظناً منهم أن حديثه لن يعدو حديث الرهبان والحكماء، وأنه إنما يدعوهم إلى دين آبائهم وأجدادهم، حتى عاب آلهتهم. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهو قليل مستخفون. وحَدِب على رسول الله ﷺ عمُّه أبو طالب، ومنعه وقام دونه. ومضى رسول الله ﷺ على أمر الله، مظهراً له لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ لا يعتبهم(3) من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدِب عليه وقام دونه فلم يسلّمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب. وكان من هؤلاء عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري، والأسود بن المطلب، وأبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وعاب آباءنا. فإمّا أن تكفه عنا، وإما أن تخلِّيَ بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله ﷺ على ما هو عليه يُظهِر دين الله ويدعو إليه. ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا(4). وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها، فتذامورا فيه(5)، وحض بعضهم بعضاً عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سِنّاً ومنـزلة وشرفاً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه. فعظُم على أبي طالب فراقُ قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله ﷺ لهم ولا خذلانه.
ثم إن أبا طالب حين قالوا له هذه المقالة بعث إلى رسول الله ﷺ، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا للّذي كانوا قالوا له، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله ﷺ أنه قد بدا لعمه فيه بداء(6) أنه خاذله ومسلّمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. ورغم ذلك، لم يقبل الرسول ﷺ أيّ مهادنة أو مساومة، ولم يرضَ أن يحيد قيد شعرة عن الطريق الذي أوحاه إليه ربه. وقد كان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يخفف من كلامه لقريش، بألاّ يعمد إلى الجهر والتحدي والمهاجمة، وأن يرضى بالواقع فيذعن له. لكنّه ﷺ أبى إلا أن يتخذ موقف الرجل المبدئي الواعي على خط سيره، المدرِك لطريق التغيير في المجتمع كما علّمه إياه ربه، لا يحيد عنه ولا يوفر جهداً دون المضي فيه. فأعلن ﷺ موقفه التاريخي: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري(7)، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته».
ثم إن أشراف قريش اجتمعوا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تُعذروا فيه. فبعثوا إليه أنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله ﷺ سريعاً وهو يظن أنّه قد بدا لهم في أمره بدء(8). وكان حريصاً يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنقدر فيك. إنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت إنما تطلب الشرف سودناك علينا. وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رِئْياً(9) تراه قد غلب عليك فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرؤك أو نُعذر فيك. فرد عليهم رسول الله ﷺ وعلى إهاناتهم وعروضهم رداً يليق به كرسول وكحامل لدعوة الله وساعٍ لتغيير المجتمع: «ما بي ما تقولون. ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً. فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة. وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
ﷺ، أرسلَه ربه رحمة للعالمين لينقل الناس من الظلمات إلى النور المبين، ولكن الكافرين لا يعلمون. لقد رفض عليه الصلاة والسلام كلّ المغريات وكلّ العروض، وأبى إلاّ أن يستمر على أمر ربه حتى يظهره الله. كما لم يأبه للتهديد والوعيد، ولم يتوانَ عن المضيّ في طريق دعوته.
إن موقف النبي ﷺ مع سادة قريش لا بد أن يواجهه كل حامل لدعوة الإسلام مع سادة مجتمعه، وحينذاك حري به أن يقتدي بالرسول ﷺ، فيرفض المغريات، ولا يضعف أمام التهديدات. فإن دور المسلم في الحياة دور كفاح وجهاد في سبيل مبدأ الإسلام. لذلك فإن الصعاب أمامه تهون، والمغريات تصبح تافهة أمام الهدف الذي وضعه منذ البداية واختط له طريقه.
فعلى كل مسلم أن يقتدي بالرسول ﷺ، بأن يتّخذ مثل ذلك الموقف العظيم من نفسه أولاً ثم من مجتمعه. فعليه أن يحدد دوره وهدفه في الحياة، بأنه مخلوق لله تعالى وظيفته عبادة الله تعالى، والعمل من أجل رفع راية الحق وإعلاء كلمة الله. فإذا تم ذلك، حصلت له ولأمته العزّة، ونعِم بالعيش الكريم وبالسعادة تحت راية لا إله إلا الله. لذلك تحتّم على المسلم أن يكيّف حياته على أساس هذا الدور وهذا الهدف، دونما اكتراث لكل الأهداف الجانبية أو التهديدات التي يلاقيها في طريقه.
إن تغيير المجتمع يكون بإعلان الصراع الفكري فيه، حتى تنتصر فكرة الحق على جميع الأفكار الباطلة. فإذا تم لفكرة الحق أن تصارع أيّ فكر آخر، فإن الفكرة الصحيحة لا بدّ ستنتصر. لكن هذا يتطلب مواقف ثابتة مستقيمة على المبدأ لا تحيد ولا تنحرف. فلا يمكن لحامل الدعوة أن يدعو المجتمع إلى تبني فكرته، ثم يقبل هو المساومة على ذلك. كما لا يمكن لمن يدعو المجتمع إلى العمل بالإسلام أن يتنازل عن تطبيق بعض أحكامه مهما كانت الظروف والأسباب. فإذا فعل ذلك سقطت دعوته، وتفرق الناس عنها وعنه، ولم يجد حينذات إلى التغيير سبيلاً. لأن نظرة المجتمع إلى من يدعوه لاعتناق الإسلام وتطبيقه نظرة مثالية، فهو لا يقبل أن يسير وراء أشخاص إلا إذا كان المبدأ متجسداً فيهم. فإذا رأى المجتمع فكرته يساوم عليها، فتهادن أو تداهن تفرق عنها وتركها إلى غيرها، وربما عاد إلى ما كان عليه. فعلى حامل الدعوة أن يضع نصب عينيه أن تمسكه بالمبدأ أمر مصيري، فإما أن يكون المبدأ أو لا يكون. فإذا كان ذلك، تجسدت الفكرة في المجتمع، فتبناّها وحملها لغيره، وبذلك حصل التغيير. وهذا ما فعله الرسول ﷺ في مجتمع مكة والمدينة، إذ جعل من أصحابه كتلة فكرية تتحدى أفكار الكفر بأفكار الإسلام. واستمر على ذلك حتى أذن الله تعالى بالتغيير، فكان تطبيق الإسلام في مجتمع المدينة المنورة، ونشأ أول مجتمع إسلامي. فلم يأبه ﷺ خلال دعوته للعروض البرّاقة، ولم ينخدع إزاء المغريات، كما لم يثنِه عن عزمه شيء في سبيل الدعوة إلى الإسلام.
وبهذا فهمنا موقفه ﷺ، وعلمنا أنه لولا ذلك القرار الحاسم الذي اتخذه برفض كل المساومات دون تطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص، لولا ذلك لما أخذ الإسلام طريقه إلى التطبيق في مجتمع المدينة المنورة، ولما اتسعت الفتوحات بعد ذلك، ولما انتشر الإسلام في أقاصي الأرض، ولما كنا ننعم بالإسلام في ربوعنا كما ننعم به الساعة، والله أعلم.
لقد أرسل الله تعالى نبيه ﷺ على اشد ما يكون من الحرص على أمته والتضحية في سبيلها. قال تعالى يصف نبيه عليه الصلاة والسلام: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). [التوبة: 128].
لقد جاهد نبينا عليه الصلاة والسلام فأوذي وهزّيء لأجل أن يوصل لنا دعوة الإسلام، رحمة بنا، وخوفاً علينا من عذاب يوم عظيم، فهل نحن جديرون بتضحياته؟.
(2) حيث كانت العرب تحج إليهم في كل عام ليؤدوا الطقوس لأصنامهم التي كانت في الكعبة.
(3) أي لا يرضيهم.
(4) أي تعادوا.
(5) حض بعضهم بعضاً.
(6) أي ظهر له رأي.
(7) قال السهيلي: خص الشمس باليمين لأنها الآية المبصرة، وخص القمر بالشمال لأنها الآية الممحوة. وقد قال عمر رحمه الله لرجل قال له: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل واحد منهما نجوم. فقال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر وقال: كنت مع الآية الممحوة، إذهب فلا تعمل لي عملاً. وكان عاملاً فعزله. فقتل الرجل في صفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد. وخص رسول الله ﷺ النيرين حين ضرب المثل بهما، لأن نورهما مجسوس، والنور الذي جاء به من عند الله.
(8) أي أنهم قرروا الاستماع له.
(9) كانوا يسمون التابع من الجن رئياً.
1987-07-21