سلسلة أمهات المؤمنين (7): جويرية بنت الحارث (رضي الله عنها)
2010/09/17م
المقالات
2,259 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (7)
جويرية بنت الحارث (رضي الله عنها)
بنو المصطلق
هم نفر من قبيلة خزاعة، أصحاب بأس وشدة وكثرة عدد.
ولقد عز على زعيمهم الحارث بن أبي ضرار أن يرى محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغ المكانة الرفيعة بين العرب، وأن يتبوأ تلك المنزلة السامية، وأن يشتد ساعده مع أنصاره وأصحابه إلى درجة كبيرة جعلت كل الجزيرة العربية، من أدناها إلى أقصاها ترهب جانبه وتدين له بالطاعة. عزّ عليه ذلك وثارت عنجهيته الجاهلية وغطرسته القبلية، فقام بهم إلى المدينة لقتال المسلمين في عقر دارهم. قرر ذلك دون أدنى تقدير لما يمكن أن تجره عليه وعلى قبيلته هذه النزوة الجاهلية، والعصبية العشائرية الجياشة، حباً بالزعامة، ورغبةً بالتسلط والسيطرة.
وكم من مغرور أمثال الحارث في الماضي والحاضر يحاول أن يهدم هذا الدين، ويتعرض للدعوة وأصحابها وأتباعها بالتسلط والإيذاء، فلا يلبث أن يزول وينتهي، على صورة العبرة والموعظة، والدرس البليغ لغيره من بعده.
القائد المظفر الناجح (صلى الله عليه وآله وسلم)
إن التحليل الموضوعي الصادق لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناحية القيادية العسكرية يثبت دون أدنى ريب أنه كان على أعلى المستويات في هذا المضمار.
فقد أرسل عليه الصلاة والسلام أحد أعوانه ممن كان يكلفهم مهمّات الاستطلاع، أن يستطلع ويستكشف أحوال وأخبار الحارث بن أبي ضرار، وجيشه الذي يعده، وخطته التي ينوي اتباعها، لتكون خطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبادأة والمفاجأة ناجحة ومؤكدة الظفر بإذن الله تعالى.
المعركة
وبعد أن أتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعداداته، خرج على رأس جيش المسلمين إلى ديار بني المصطلق لمفاجأتهم، كان ذلك في شهر شعبان من السنة الخامسة من الهجرة.
والتقى الجيشان في مكان يسمى المريسيع، بعد أن خرج بنو المصطلق سريعاً لملاقاة المسلمين الذين نزلوا ديارهم وباغتوهم.
ودعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام فأبوا واستكبروا بغير الحق، ثم نشب القتال ترامياً بالنبال وتراشقاً بالسهام، ثم جردت السيوف من أغمادها والتحم الفريقان في قتال مرير شديد، وأسفر عن هزيمة بني المصطلق هزيمة منكرة، ووقع أكثرهم أسرى في أيدي المسلمين، ولقد بلغ عددهم ما يزيد على سبعمائة، كما غنم المسلمون كثيراً من الإبل والشياه.
وفر الحارث مع قلةٍ من أصحابه لا يلوي على شيء ولا يهتدي إلى طريق، فر وقد ضاعت آماله، وانهارت قصوره وأوهامه وأحلامه التي زينها له شيطانه وجهله. وكان أعز شيء عليه أن تقع ابنته في الأسر مع من وقع من أصحابه وتسبى. لكن نجاته من الموت والأسر، كانت تخفف عنه بعض أحزان قلبه وأساه.
«برة» الأسيرة
وكان من بين الأسرى ابنة الحارث وتدعى برة وهي نفسها جويرية (رضي الله عنها) وسنأتي إن شاء الله على سبب تغيير اسم برة إلى جويرية.
كانت برة زوجة لأحد رجالات بني المصطلق الذين قتلوا في تلك المعركة، واسمه مسافع بن صفوان.
حديث عائشة (رضي الله عنها)
ولنترك الحديث الآن إلى السيدة عائشة (رضي الله عنها) فهي أولى بإتمامه وتفصيله منا وأصدق لهجة.
قالت أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءً من بني المصطلق فأخرج الخمس منه، ثم قسمه بين الناس، فوقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكانت تحت ابن عم يقال له مسافع بن صفوان بن مالك بن جذيمة ذو الشعر، فقتل عنها. فكاتبها الحارث بن قيس على نفسها على تسع أواقٍ، وكانت امرأة جميلة، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه.
فبينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندي، إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعرفت أنه سيرى منها الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأسر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبني على تسع أواقٍ، فأعني على فكاكي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أو خير من ذلك؟! فقالت: ما هو؟ قال: أؤدي عنك كتابك وأتزوجك.. قالت (قول المؤمنة بالله تعالى وبرسوله): نعم يا رسول الله… فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعلت.
الخير العظيم
نعود إلى حديث عائشة (رضي الله عنها) فتقول متابعة الحديث:
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا أصهار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسترقّون؟ فأعتقوا ما كان بأيديهم من سبي بني المصطلق فبلغ عتقهم مائة أهل بيت بتزويجه إياها. فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
اخترت الله ورسوله
وعلم أبوها الحارث بن أبي ضرار وهو في مكة لاجئاً عند قريش بما كان شأنها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزواجه منها، وكيف تحرر أكثر بني المصطلق بسبب بركتها، فأراد أن يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليباحثه في أمرها ويفتديها، فجمع إبلاً كثيرة وقدم إلى المدينة، فلما كان في ضاحية منها، أعجبه بعيران مما معه فعزلهما في ناحية وأخفاهما عن أعين الناس.. وعندما أذن له بالحضور وأمن على نفسه وجلس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: يا محمد… إن ابنتي لا يسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك، فخلِّ سبيلها..! فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مبتسماً: أرأيت إن خيرناها… أليس قد أحسنّا. فقال الحارث: بلى، وأديت ما عليك.
فأتاها أبوها وهي في حجرتها من بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه رسول الله، فقال لها: يا ابنتي إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا.. فقالت: إني قد اخترت الله ورسوله… فقال لها: قد والله فضحتنا… وخرج من عندها…
إسلام الحارث
ولم يغادر الحارث المدينة إلا وقد أسلم… وسبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل عن عدد الإبل التي جاء بها ليقدمها فدية لابنته، فذكر العدد، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن البعيرين الذين أخفاهما في الضاحية؛ عندئذ تيقظ وجدان الحارث، وأدرك أنه أمام نبي يوحى إليه؛ فاستسلم وأقسم أنه لم يعلم أحداً من خلق الله بأمر هذين البعيرين، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك يا محمد رسول الله.
وبإسلام الحارث سيد قومه تظهر بركة هذا الزواج وقيمته في الدعوة الإسلامية.
من برة إلى جويرية
روى سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: كانت جويرية بنت الحارث تدعى برة، فحول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمها فسماها جويرية لأنه كان يكره أن يقال خرج من عند برة. وتلك لطائف من أخلاق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمو سجاياه.
الصوامة القوامة في بيت النبوة
يروى عن تقواها (رضي الله عنها) كثير من الوقائع التي تدل على تغلغل الإيمان والإسلام في أعماق قلبها وفي صميم وجدانها؛ فقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليل الفجر، ثم خرج من عندها، فجلس حتى ارتفع الضحى، ثم جاءها في بيتها وهي لا تزال في مصلاها، حيث أدت فريضة الفجر خلفه، فقالت: مازلت بعدك يا رسول الله دائبة، فقال عليه الصلاة والسلام: ولقد قلت بعدك كلمات لو وزنَّ لرجحْنَ بما قلت: سبحان الله عدد خلقه، وسبحان الله رضى نفسه، وسبحان الله زنة عرشه، وسبحان الله مداد كلماته.
ويروي أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على جويرية بنت الحارث يوم جمعة وهي صائمة فقال لها: أصمت أمس؟ فقالت: لا… قال: أفتريدين الصوم غداً؟ قالت: لا… قال: فأفطري إذاً.
بينها وبين زوجاته (صلى الله عليه وآله وسلم)
المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان، قد ركب الله سبحانه وتعالى فيها غرائز معينة محددة، فهي تتسلل في الإنسانية والبشرية منذ حواء إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد سبق لنا أن تحدثنا في أكثر من مناسبة عن عاطفة الغيرة التي كانت تثور وتتفاعل في نفوس زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحداهن تغير من الأخرى… ومن الجديدة دائماً على وجه الدقة.
ونحب أن نقول بأن تلك الغيرة قد تهذبت كثيراً، وخفت حدتها بفضل توجيهات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). ولقد جاءت جويرية (رضي الله عنها) ذات يوم ولم يكن قد مضى على زواجها إلا أيام قلائل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيماء الحزن والأسى بادية على عينيها الدامعتين، ثم قالت: يا رسول الله، إن نساءك يفخرن علي، يقلن لم يتزوجك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهدهد عليه الصلاة والسلام من ثورة نفسها، وطمأن من حدة غضبها وحزنها، وقال لها: ألم أعظم صداقك؟ ألم أعتق أربعين من قومك؟ فسكتت جويرية (رضي الله عنها) سكوت الرضى.
ولقد أصبحت (رضي الله عنها) بإكرام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها درة ثمينة في عقد زوجاته الفاضلات. وضرب عليها الحجاب مثلهن، وفرض عليها ما فرض عليهن من الواجبات، ولها ما لهن من الحقوق. وكان يقرع لها مثلهن في الخروج معه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغزوات، والحج والعمرة، وكذلك كان يسهم لها فيما يحصل عليه المسلمون من غنائم.
وقد ذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطعم جويرية يوم خيبر ثمانين وسقاً تمراً، وعشرين وسقاً قمحاً.
بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
اشتدت العلة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأذن من نسائه ومن بينهن جويرية أن يمرض في بيت عائشة (رضي الله عنها) فأذن له.
وكانت جويرية تأتي وتمكث للاطمئنان عليه، وحين تخلو بنفسها في حجرتها تبكي وتتألم، وتسأل الله تعالى أن يخفف ما برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ألم المرض. فلما كان يوم وفاته عليه الصلاة والسلام ولحوقه بالرفيق الأعلى، كانت جويرية بين الحضور، بل كانت أدنى الناس من فراشه، تتأمل الوجه الشريف، ثم تبكي، ولكن دون نحيب أو عويل.
وعاد كل إلى داره ومأواه… وعادت جويرية إلى حجرتها، وإلى وحدتها، وليس لها من أنيس أو جليس سوى اتصالها الدائم بالله تعالى عن طريق عبادتها، قياماً وصياماً.
كانت (رضي الله عنها) شأن أمهات المؤمنين جميعاً، موضع حفاوةٍ واحترام وتقدير من أجلاء الصحابة. تصلها أعطياتها، ومخصصاتها من بيت المال، فتنفقها كلها على المساكين والمحتاجين والفقراء والمعوزين، تأسياً بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي علمهن أعظم الأمثولات، وأسمى الدروس.
وكانت (رضي الله عنها) تقصد الحج عندما يؤذن المؤذن بالرحيل، فتؤدي المناسك بقلب طاهر خاشع، ثم تعود إلى المدينة حيث مستقرها بجوار الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقيم في بيتها عابدة خاشعة، وتستأذن في زيارة الرمس الطاهر بين الحين والحين لتقف عنده بكل صفائها وحبها واحترامها مسترجعة أيام الذكرى متشوقة ليوم اللقاء في الجوار الكريم.
موقفها من الفتن
وعصفت في أيام خلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) الفتن بالمسلمين، وذر قرنها وأطلت على الأمة برؤوس الشياطين. فوقفت جويرية (رضي الله عنه) في الخصومات موقف المحايدة الحريصة على وحدة الأمة وترابطها وتماسكها، فكانت لا تصدر في أقوالها وأفعالها إلا عن دعوة إلى الخير والمحبة والسلام، فلا تناصر فئة على فئة، ولا تقف إلى جانب جماعة دون أخرى. اعتزلت يوم الجمل بعد استشهاد عثمان (رضي الله عنه) بل وجهت النصيحة إلى عائشة (رضي الله عنها) كما فعلت أم سلمة وغيرهما من أمهات المؤمنين. وكانت رضي الله عنها تدعو إلى الله أن يحجب دماء المسلمين وأرواحهم. وكذلك فعلت بعد استشهاد علي (رضي الله عنه)، كرم الله وجهه، لقد لزمت دارها وألزمت نفسها موقف الحق والعدل، وحب المسلمين جميعاً.
وفاتها (رضي الله عنها)
ولما أطل شهر ربيع الأول من العام السادس والخمسين للهجرة، كانت جويرية (رضي الله عنها) قد شاخت، ووهن منها العظم وضعفت ووقعت تحت وطأة المرض الذي لم ينفع معه علاج، ثم وافتها المنية وانتقلت إلى جوار الكريم، وصلى عليها والي المدينة يومئذ مروان بن الحكم، وكانت جنازتها مشهودة.
رضي الله عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث الحسيبة النسيبة، الطاهرة العفيفة، التقية النقية، الصوامة القوامة، المتصدقة الكريمة، وأكرم الله نزلها ومثواها.
2010-09-17