محنة سعيد بن جبير
1988/04/17م
المقالات
3,704 زيارة
هذه محنة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف طاغية العراق، وسعيد بن جبير من أكابر أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، ومن أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم، وكثرة العمل الصالح. وقد رأى خلقاً من الصحابة، وروى عن جماعة منهم، وروى عنه خلق من التابعين.
وقد قال خصيف يوماً: (كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبير، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير).
تلك شهادة عالم حصيف هو الشيخ حصيف… في إمامنا الممتحن.
وقد قال خصيف يوماً: (كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبير، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير).
تلك شهادة عالم حصيف هو الشيخ حصيف… في إمامنا الممتحن.
كان ابن جبير من الذين يناوئون حكم عبد الملك بن مروان، لإساءة الأخير في حكم الرعية المسلمة، ولوقوع مظالم في عهده.
وكان الحجاج بن يوسف، والياً لعبد الملك، يأخذ بالشبهات، ويتحرى المناوئين في جميع البلاد الإسلامية، لحكم أميره وسيده.. فيصب المحن عليهم، دون هوادة، ولا خوف من الله، المقتدر الجبار، وكان خالد بن عبد الله القسري والياً على مكة المكرمة ـ زادهها الله مثابة وأمنا ـ وقد علم بوجود ابن جبير في ولايته، فألقى القبض عليه، واعتقله، ثم أراد أن يتخلص منه، لمعرفته بأن سعيداً، قد أوتي لسناً ناطقاً، وقلباً حافظاً، وسرعة بديهة بإلقاء الحجة القوية لإسكات خصمه، إذ هو ليس من أولئك الذين يخشون رهبة حاكم، ولا بطش سلطان في سبيل معتقده غير مبال بالنتائج مهما كانت. ودفعاً للوقع في لجة المخاصمة وخضم المنافسة التي لا تضمن نصره وخوفاً من مس شعور أهل مكة الذين يدينون بالولاء والاحترام لابن جبير، أرسله مخفوراً مع إسماعيل بن واسط البجلي، إلى الحجاج بن يوسف.
وهنا تبدأ المحنة، ثم تشتد سورتها مع لقاء الحجاج طاغية العراق، وفي هذا اللقاء، غير الكريم، جرت المناقشة والمخاصمة الفكرية، كان سعيد فيها فارس الميدان، وصاحب لواء النصر والظفر، حيث كان فيها جريئاً، لا تلين قناته، صلباً لا يضعف سيف لسانه، يقول الحق، وهو يعلم أنه مفارق الدنيا، بسبب ذلك:
(قال الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: شقيت أمك وشقيت أنت.
سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
الحجاج: لا بد لك بالدنيا ناراً تلظى.
سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
الحجاج: فما قولك في محمد؟
سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى.
الحجاج: فما قولك في عليّ، أهو في الجنة أم هو في النار؟
سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها، عرفت أهلها.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: ليست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدقني.
سعيد: إن لم أحبك لن أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار.
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستوِ القلوب).
ذلك هو المشهد الأول من هذه المناقشة، أو قل الفصل الأول من المحنة، وقد بدا للحجاج أنه غير قادر على إخضاع سعيد إليه، أو حمله على إعطاء الولاء لأميره وسيده، ولو بالإشارة أو التلميح.. ولم ينفعه التهديد بالقتل، كما لم تفد غلاظة الكلام، وقبح الاتهام.
وهنا يسلك الحجاج طريقاً آخر، لعله يصل فيه إلى ما يريد ويحصل على مبتغاه من سعيد.
(ثم يأمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فجمعه بين يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء للدنيا إلا ما طاب وزكا).
وهكذا ينتهي المشهد الثاني من هذه المحنة، فلم ينفع الحجاج هذا الإغراء بالمال والذهب، كما لم تسعفه منحه التي أومأ بها، فليس ابن جبير من عباد المال، ولا من الذين يبيعون دينهم بدنياهم، لذا فقد لقنه درساً لن ينساه، في أن المال، أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال، وصلاح الآخرة، إن جمع بطريق الحلال الطيب.. لاتقاء فزع يوم القيامة، (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ @ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
ثم يسلك الحجاج سبيلاً آخر.
(ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي، بكى سعيد، فقال: ما يبكيك؟ أهو اللعب؟ قال سعيد: هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة).
فسعيد ليس من هواة الطرب ولا من رواد الناي والعود، وإنما من هواة الحق ورواد الإسلام الذي وهب حياته له، فإعراضه عن ذلك وإظهار حزنه حين تذكر الآخرة وشدة عذابها، فكان درساً آخر لقنه إياه، وإدراك المسلم ذلك دائماً، لما عصى الله، أو خالف أمراً من أوامره، وبعد أن اسقط في يده، وفشلت جميع تلك السبل، هنا اشتدت المحنة قليلاً، فعلا غضب الحجاج، وفقد أعصابه، وكان ينهي هذه المحنة بمشاهدها، أو يصل إلى نهايتها، ولكن تريث إلى حين، لعله يحظى بشيء من سعيد.
(قال الحجاج ويلك يا سعيد: فقال لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة. قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال اختر أنت لنفسك، فوا لله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة؟. فقال: أريد أن أعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر).
عند ذلك ضاق الحجاج ذرعاً بسعيد، ولم يطق صبراً عليه، وهو يتلقى منه هذه الأجوبة الجريئة والتي كانت سهاماً تصب قلبه.. فأمر بإنهاء المحنة.
(قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فردوه إليه، وقال: ما أضحك؟ فقال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط. وقال: اقتلوه، فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة.
قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.
قال الحجاج: كبوه على وجهه.
قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
قال الحجاج: اذبحوه.
قال سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريط له وأن محمداً عبده ورسوله خذها منى حتى تلقاني بها يوم القيامة.. اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي)
فذبح من الوريد إلى الوريد. ولسانه رطب بذكر الله.. وبهذا انتهت محنة سعيد بن جبير باستشهاده. وبقيت المحن تصيب أمثاله، من الذين أعرضوا عن الحكام بكليتهم. لإعراض الحكام عن الله وعن دينه وشريعته.
وهكذا شأن الله مع عبادة المؤمنين الصابرين. فلم يُضيّع إيمانهم، أولم ينسهم ذكره في أوقات محنتهم، وهم قادمون إليه، وكيف ينساهم.. أو يضيعهم.. ومحنتهم كانت في سبيله، ومن أجل إعزاز دينه. لذا قيل لهم: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير. فقال: “اللهم ائت على فاسق ثقيف. والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار).
(وقال احمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه..)
1988-04-17