إن عظمة الإسلام لا تتمثل في كونه جاء بفكرة بناء الأمة والدولة فحسب، بل لكونه جاء أيضاً بطريقة الصيانة لهما، أو بعبارة أخرى جاء الإسلام بالأحكام التي تفرض على المسلمين صيانة أمتهم ودولتهم. وهي أي تلك الأحكام، سواء المتعلقة بالبناء أو الصيانة خرجت من مشكاة واحدة.
فقد نزل بتلك الأحكام الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إما في الكتاب أو السنة؛ وقد ارشد الكتاب والسنة إلى إجماع الصحابة، والقياس، الذي هو إلحاق فرع بأصل لاشتراكهما في علة النص، هي أدلة الأحكام الشرعية، فالمصلحة لا تكون إلا حيث يكون الحكم الشرعي. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة: 216].
وإذا كان لكل أمة من الأمم قضايا مصيرية تحددها تلك الأمم حسب مفهومها عن الحياة، وقد يختلف مفهوم أمة عن أمة أخرى في تحديد قضاياها المصيرية، لكن العلاج أو الإجراء الذي يتخذ تجاه القضايا المصيرية لا يختلف، فهو دائماً: الوقوف أمام الأعداء بحزم وعزم حتى الموت أو الحياة.
وإذا كانت الأمم قد حددت قضاياها المصيرية بنفسها فإن الأمة الإسلامية قد حدد الله لها قضاياها المصيرية تحديداً صريحاً واضحاً، تماماً مثلما حدد لها العلاج والإجراء الذي تتخذه تجاه قضاياها المصيرية. وإذا كان الأمر كذلك. وهو كذلك بالتأكيد فإن التقيد باتخاذ الإجراء المحدد المعين أمانة والانحراف عنه خيانة حذر الله في صريح القرآن المؤمنين من السقوط فيها (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة الأنفال: 27]. والأمانة أو الأمانات هي كل فرض فرضه الإسلام على المسلمين، وقد فرض الإسلام فرضاً على المسلمين تحديداً لقضاياهم المصيرية، كذلك فرض عليهم الإجراء الذي يتخذونه تجاهها.
وقد جعل الإسلام الوحدة من القضايا المصيرية، وفرض على رئيس الدولة أن يحميها لا بالتوجيه وحسب بل بقوة السلاح. أما الوحدة فقد أمر الله بها في صريح القرآن وصحيح السنة: أما القرآن فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 102 ـ 103]. وقد ذكر ابن كثير يرحمه الله نقلاً عن محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: «إن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج وذلك أن رجلاً من اليهود (شاس بن قيس) مرّ بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض، وتثاروا «ثاروا» ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرّة، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح -رضي الله عنهم-. هذا ما ورد في القرآن على سبيل المثال لا الحصر.
أما السنة فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال». رواه مسلم، ذكر ذلك ابن كثير وهو يفسر الآية السابقة (103) من سورة آل عمران. هذا وجاء في الكتاب الذي كتبه الرسول عليه وآله والصلاة والسلام عندما أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وبيّن فيه ما لليهود وما عليهم ما نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم-، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس…».
أن الإسلام قد أمر المسلمين بالوحدة وذلك من خلال وحدة الرئاسة سواء للجماعة المسافرة، وأقلها ثلاثة، أو جماعة المسلمين عامة؛ فقد روى أبو داود بسنده، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا عليهم أحدهم». وروى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم». وكلمة (أحد) هي كلمة (واحد) وهي تدل على العدد، أي واحداً ليس غير، ويفهم ذلك من مفهوم المخالفة للكلمة «أحدهم»، ومفهوم المخالفة يعمل به ودلالته كدلالة المنطوق من حيث الحجة ولا يعطل مفهوم المخالفة إلا في حالة واحدة وهي إذا ورد نص يلغيه. وهنا لم يرد نص يلغيه فيعمل به، أي فليؤمروا واحداً ليس أكثر فمفهوم المخالفة في الحديثين يدل على أنه لا يجوز أن يؤمروا أكثر من واحد ولا بوجه من الوجوه. وأيضاً فإن عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، دليل على أن الرئاسة، أو الإمارة فردية، فإنه عليه الصلاة والسلام في جميع الحوادث التي أمرّ فيها أمراء كان يؤمّر واحداً ليس أكثر، فوحدة الجماعة سواء كانت جماعة سفر أو أي جماعة تقوم بعمل مشترك لا تتحقق إلا من خلال وحدة إمارتها، أو رئاستها وكذلك وحدة الأمة الإسلامية لا تتحقق إلا من خلال وحدة الرئاسة، أو الإمامة أو الإمارة أو الخلافة. والدليل على ذلك الأحاديث الصحيحة التالية: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ وأنه لا نبيَّ بعدي وستكون خلفاء فتكثر». قالوا: «فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم. فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم». ومن حديث طويل قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر». وقال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وقال: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةً على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته». راجع الأحاديث في مختصر صحيح مسلم للمحافظ المندري. أرقام الأحاديث 1198 و1199 و1200 و1201.
وبناء على ما تقدم كان إجماع الصحابة واضحاً جلياً على وحدة الخلافة أو الإمامة، أو الإمارة أو الرئاسة. فعندما بلغهم التحاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى بادر الأنصار للاجتماع في سقيفة بني ساعدة، ثم حضر من المهاجرين أبو بكر وعمر وأبو عبيدة -رضي الله عنهم- جميعاً. ولقد اختلفوا على من يكون الخليفة لرسول الله ولم يختلفوا على وحدة الخلافة. أي على أن يكون الخليفة واحداً.
وبناء على ما تقدم من نصوص شرعية نرى أن الإسلام يأمر بالوحدة. وعلى المسلمين أن يعلموا للوحدة وذلك فرض عليهم إذ فيه قوتهم وعزتهم. فالوحدة من القضايا المصيرية. وكذلك حماية الوحدة فمن يعمل للانفصال عن الدولة يقتل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه سيكون هناتٌ وهناتٌ فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان». مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري رقم الحديث (1234).
وبعد فهذا هو حكم الإسلام في الوحدة وحمايتها.
لطفي الشنّيك
ملاحظة «الوعي»:
قد يخيّل للقارئ أن «الوعي» تقف في جانب علي عبد الله صالح ضد علي سالم البيض، وليس الأمر كذلك، فالرجلان ينفذان خطة أميركية، والرجلان يحكمان بأنظمة كفر علمانية. ولذلك فالطرفان باغيان.
وحدة البلاد الإسلامية في دولة واحدة فرض، والانقسام حرام وهو منكر.
الحكم بما أنزل الله فرض، أي تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها دون خلطها بشيء من قوانين الكفر هو فرض.
فإذا كان هنالك دولة إسلامية (دار إسلام) مطبقة لشريعة الإسلام وأراد قسم منها أن ينفصل عنها ليطبق أنظمة غير إسلامية فهو باغٍ وقتاله واجب لمنعه مِنْ شَق عصا المسلمين.
وإذا كانت الدولة لا تطبيق الشريعة الإسلامية (ليست دار إسلام)، وأراد قسم منها أن ينفصل عنها ليوجد دولة أخرى لا تطبق الشريعة الإسلامية، كما حصل في اليمن أخيراً. فهذا الانفصال حرام وهو منكر، لأنه أضاف منكراً جديداً إلى المنكر السابق. فعدم تطبيق الإسلام منكر، وتجزئة البلاد الإسلامية والأمة الإسلامية منكر آخر.
ولكن هل إزالة هذا المنكر الأخير وهو التجزئة والانفصال، هل إزالته تكون بالقتال كما هو حاصل في اليمن الآن؟
القاعدة الشرعية هي أن إزالة المنكر واجب شرك أن لا يكون ذلك بارتكاب منكر أكبر منه.
مع العلم أن الذي حرّض علي سالم البيض على الانفصال هو أميركا، والذي حرّض علي عبد الله صالح على استعمال السلاح لمنع الانفصال هو أميركا أيضاً. فهناك خطة أميركية لإيجاد الاقتتال في اليمن ولتوسيع دائرته لشمل دول النفط من أجل أن تكمل ما عجزت عنه في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق وفي حرب الخليج الثانية بعد احتلال العراق للكويت. فالقتال الآن ظاهرة للحفاظ على الوحدة وحقيقته تنفيذ خطة أميركية من جهة وحب الزعامة من جهة أخرى. ونسأل الله العافية.