صهر الشعوب
2010/10/17م
المقالات
1,911 زيارة
صهر الشعوب
الأستاذ/ عبد الرحمن سعد
إن التعدد البشري هو سمة خلقها الله سبحانه وتعالى في الناس، فهو الذي خلقهم مختلفين في ألوانهم ولغاتهم وأعراقهم وغيرها من أنواع التعدد، يقول عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود 118] ويقول سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات 13] ولذلك خلقهم ليتعارفوا فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى.
إن صهر الشعوب وجعلها أمة واحدة هو عمل عظيم، ولا يقول بغير ذلك أحد من العالمين، ومن ذا الذي يقول إنه يجب أن يكون الناس متفرقين ومشتتين؟ من يفضل تكتل الناس في عرقيات وقبليات على أن يكونوا إخواناً متحابين؟ من يقول إن صهر الشعوب وجعلها أمة واحدة أمر بغيض ومكروه؟ لا يقول بذلك إلا شخص عنصري بغيض يحب العزلة والتفرق، أو مستعمر طامع له مصلحة في ذلك.
إن صهر الشعوب، يعني إذابة كل الأدران والمفاسد التي تمنع الناس من أن يكونوا إخواناً متقاربين متحابين فيما بينهم في بوتقة واحدة لديها القدرة على صهر الناس بمختلف مسمياتهم وإذابتهم فيها، ولديها -هذه البوتقة- القدرة على ربط الناس فيما بينهم، برابط قوي متين لا يتزعزع، قادر على تجاوز تلك الاختلافات في العرق أو اللون أو الشكل أو اللغة.
إن جعل الشعوب بهذه الكيفية منصهرة مع بعضها البعض يحتاج إلى فكر يستطيع أن يربط الناس بمختلف مسمياتهم، فالربط على أساس العرق كالقوميات مثلاً لا يستطيع أن يربط إلا من هم في هذه القومية، فبالتالي إطارها ضيق على العالمين، فإن لم أكن عربياً (بالمفهوم العرقي)، هل يعني ذلك أنني دون العربي في شيء؟ وهل إذا أردت أن أصبح عربياً لا أستطيع ذلك لأنني مولود بعرقية مختلفة؟ فأي فهم هذا؟ نعم!! إنه مفهوم يزرع الفتنة ويثير القوميات الأخرى ويفرق بين الناس، وهكذا القبليات والجهويات وغيرها من الأسس غير الفكرية، ولكن الفكر من خواصه أنه غير مرتبط بلون أو عرق أو غير ذلك، بل هو مرتبط بكل إنسان عاقل، وبهذا يستطيع الفكر أن يربط جميع الناس في الدنيا، ويستوعبهم.
والفكر الذي نتحدث عنه هنا هو الفكر المبدئي، أي الفكر الأساسي الذي يبنى عليه كل فكر وكل عمل، فهو بمثابة القاعدة الفكرية التي يرجع إليها في كل شيء، وهو العقيدة نفسها. قد يقول قائل: لماذا حصرت أن يكون الفكر بهذه المواصفات؟ أقول لأن الإنسان عندما يرتبط مع أخيه الإنسان تحدث اختلافات بينهم ومشاكل، وذلك أمر طبيعي، ولكن إذا لم تجد هذه المشاكل علاجاً تفاقمت وصارت هوة وشقة بين الناس تؤدي إلى تشرذمهم وتقضي على وحدتهم؛ لذلك كان خير ما يعالج مشاكلهم هو ذلك النوع من الفكر المبدئي، بوصفه قناعة عند كل الأطراف، على أساسه ارتبطوا ابتداء، وعلى أساسه بنوا حياتهم.
ولا نجد في العالم غير ثلاثة أفكار بها هذه الصفة المبدئية هي (الإسلام، والرأسمالية، والاشتراكية) فلننظر فيها أيها قادر على صهر الناس والمؤاخاة بينهم. فالاشتراكية فشلت في أن تصهر الشعوب وتؤاخي بينها، وما أدل على ذلك من أنه عندما انهار النظام الاشتراكي، اندثر وعادت تلك الشعوب لدينها وعقيدتها التي أجبرتها الاشتراكية على التخلي عنها، ليس قناعة وإنما جبراً وعدواناً. ولن نخوض في الاشتراكية أكثر من ذلك، فهي فكرة قد اندثرت، وأصبحت من التاريخ ولا تتمسك بها فعلاً أي دولة من الدول، ولا أي شعب من الشعوب، فحتى الدول التي تسمى اشتراكية أو تلك الشعوب التي يتعارف على أنها اشتراكية، هي اشتراكية اسماً ولكنها رأسمالية فعلاً (كالصين وكوبا وكوريا الشمالية وغيرها…) من الدول والشعوب.
أما الرأسمالية بتطورها التكنولوجي وأعمالها الضخمة التي قامت بها وغزت العالم عن طريق الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي فإنها مع كل ذلك فشلت فشلاً ذريعاً، وعجزت أيما عجز عن أن تجعل الشعوب أمة واحدة وتصهرها بفكرها الرأسمالي.
وذلك الفشل والعجز آتٍ من ناحيتين:
الناحية الأولى: أيدولوجية أو فكرية:
فالرأسمالية تحمل في أحشائها فشلها وعجزها عن حل المشاكل والتقريب بين الناس. فابتداء هي تقوم على عقيدة غير مقنعة للعقل، وبالتالي تجعل هذه العقيدة الإنسان غير مستقر في حياته على إجابة مقنعة؛ لذلك لم يكن غريباً أن ينتحر (29000) مواطن أميركي سنوياً، بمعدل انتحار80 شخصاً يومياً كما جاء في صحيفة «يو إس إيه توداي» الأميركية، وكان السبب في ذلك الانتحار كما أوردت الصحيفة هو الاكتئاب ومشاعر القلق. نعم الاكتئاب من الحياة والقلق مما بعد هذه الحياة؛ لأن الرأسمالية لم تجب عما بعد الحياة إجابة شافية، بل من أصحاب هذا المبدأ من قتل نفسه حتى يرى ما الذي يحصل بعد الموت.
وكذلك عقيدة الرأسمالية غير موافقة لفطرة الإنسان التي فطره الله عليها؛ وذلك بجعلها التشريع للبشر فوق رب البشر. فإذا اعترفت العقيدة الرأسمالية بوجود الإله فلماذا لا يجعل تشريع ذلك الإله هو الملزم؟ مع العلم أن الإنسان إذا ترك لوحده أصدر قوانين مختلفة متناقضة تؤدي إلى شقاء بني الإنسان، فالفقر في ظل الرأسمالية قد بلغ 3 مليار شخص حول العالم أي نصف سكان العالم تقريباً.
كل ذلك كان كافياً لتشتت الشعوب وتمزقها نتيجة لفساد هذا المبدأ من الناحية الأيدولوجية، وهذا ما جعل البعض من أصحاب هذا المبدأ يطالبون بقراءة القرآن بدلاً من الإنجيل في ظل هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، وهذا ما حدا ببعض تلك الشعوب أن تطالب بحق تقرير المصير كالذي حصل في الولايات المتحدة الأميركية بمطالبة عشر ولايات بحق تقرير المصير إثر الأزمة المالية العالمية… هذا هو التأثير الأيدولوجي في صهر الشعوب وجعلها أمة واحدة.
الناحية الثانية: سياسية:
عندما قامت الدول الرأسمالية بحمل مبدئها للعالم عن طريق الاستعمار، والذي تمارسه حتى الآن، لم تنجح دولة من هذه الدول الاستعمارية في جعل ذلك الشعب الذي استعمرته جزءاً من أمتها يدين لها بالولاء لما قدمته له، ولنأخذ أمثلة على ذلك للبيان فقط وليس الحصر.
فأميركا مثلاً.. هذه الدولة، الناظر إلى تاريخها ونشوئها يدرك أن هذا الشعب الأميركي الذي قتل وأباد مايقارب الـ 48 مليون مواطن من شعب الهنود الحمر!! شعب هذه بداية حياته كشعب، كافية لأن ترينا بشاعة وجرم هؤلاء الناس وما يقومون عليه من أفكار ومبادئ، فعندما استعمرت تلك البلاد، فبدلاً من أن تصهرهم عملت على إبادتهم، ولم تكتفِ بذلك بل اسْتَرَقّتْ الأفارقة ليقوموا لها بالأعمال، وأزهقت أرواح عشرات الملايين من البشر على مدار 200 سنة خلال الترحيل من أفريقيا إلى أميركا، ومن نجا من هؤلاء الأفارقة كان يُسخَّر عبداً لخدمة الأميركان!! نعم لم تستطع أن تصهر أميركا هذه الشعوب بمفاهيمها وأفكارها لأنها مفاهيم استعمارية بغيضة، ولم تكن هنالك فكرة أبغض عند الناس كلهم من فكرة الاستعمار، التي هي جزء أصيل من هذا المبدأ الرأسمالي، والتي تقوم على نهب الثروات ولو على حساب قتل الأبرياء، وما يحدث في العراق من قتل وتشريد الملايين لهو خير دليل على ذلك. فها هي أميركا تقتل منذ دخولها إلى العراق حتى عام 2008م (مليون) مسلم في العراق على حسب ماورد في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش في العام 2008م، ويكفي لَفْظاً لأميركا في العراق أن يتم توديع رئيسها (جورج بوش الصغير) بحذاء يقذف في وجهه.
وفرنسا.. هذه الدولة التي بدأت فيها، ثورة أسموها ثورة الحرية، والتي نادت بالحرية وحقوق الإنسان والمساواة إلى آخر مفاهيم الديمقراطية الحديثة. فقد قامت هذه الدولة باحتلال جزء من بلاد المسلمين، بعد ضعف دولة الخلافة الإسلامية، واحتلت الدولة الفرنسية بلاد شمال أفريقيا، و لكن دعونا ننظر إلى ما حدث في الجزائر فقط.
عملت فرنسا عملاً جباراً لمدة 130 سنة، و لم توفر أي جهد من جهدها في محاولة صهر الشعب في تلك البلاد؛ لتجعل منه جزءاً من شعب فرنسا، حيث إنها ألغت لغة هذا الشعب وركزت على تدريس لغتها، حتى صار جميع سكان هذا البلد تقريباً يتكلم اللغة الفرنسية بطلاقة، وصار لسانهم لساناً فرنسياً بجدارة من حيث اللغة، وأعلنت أن هذا البلد جزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي، وأن سكان هذا البلد يحملون الجنسية الفرنسية، ولكنها لم تفلح بالنهاية في صهر هذا الشعب.
فإنها و بعد أن رحلت بقواتها العسكرية عن هذا البلد وأبقت عملاءها على رأس الحكم، فإننا نجد بعد التحليل والدراسة الآتي:
أولاً: قتل أكثر من مليون ونصف المليون من أبناء هذا البلد.
ثانياً: تصدرت فرنسا الدول الاستعمارية بأبشع العمليات الإجرامية والتي تقشعر لها الأبدان، من قتل جماعي للشيوخ والنساء والأطفال على حد سواء، وحرقٍ للبلاد، وبقرٍ لبطون الحوامل، واغتصابٍ للنساء، ونهبٍ للثروات، وغير ذلك الكثير.
ثالثاً: إن هذا الشعب لم يكن يوماً فرنسياً بعد كل هذه المحاولات، حيث إنه مازال حتى الآن شعباً مسلماً وجزءاً لا يتجزأ من أمة الإسلام.
وبريطانيا.. التي كانت تسمى فيما مضى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لكبر حجمها وتوسعها في العالم الإسلامي خاصة، فشلت في جعل أهل السودان مثلاً جزءاً من عقيدتها، أو أن ينصهر أهلها في مبدئها فيكونوا جزءاً من الأمة الإنجليزية.
من خلال هذا فقط والذي يعتبر غيض من فيض من مشاهد الفشل الذريع في صهر الشعوب، تلك الأمثلة التي ينطق بها التاريخ في كتبه وسجلاته، ونحسها في واقعنا اليوم.
إذاً، فالرأسمالمية فشلت في صهر الشعوب وجعلها أمة واحدة، بل ارتكبت فيها أبشع الجرائم على مر التاريخ.
بعد هذا لم يبقَ غير مبدأ الإسلام مبدأً حقاً… ذلك المبدأ العظيم الذي صهر الشعوب التي استطاع أن يبلغها الرسالة بلاغاً مبيناً، وجعلها أمة واحدة من دون الناس، بل حتى عندما انهارت دولة المسلمين على يد اليهودي الكافر مصطفى كمال في عام 1924م لم تندثر الأمة الإسلامية وتفنى من الوجود، بل على العكس من ذلك، فكل ما قامت به الدول الرأسمالية من غزو فكري وسياسي وثقافي واقتصادي بل وحتى عسكري، لم تستطع أن تقضي على أمة الإسلام، بل الآن هذه الأمة تثوب إلى دينها وعقيدتها شيئاً فشيئاً وأكثر مِن ذي قبل.
وتلك الشعوب التي صهرها الإسلام بعقيدته الحقة ولم ينسلخ شعب بكامله -كما حدث للاشتراكيين والرأسماليين- عن عقيدة وفكر الإسلام رغم الجهود الجبارة التي قامت بها الدول الرأسمالية؛ لتفتيت الأمة ومنعها من التكتل كما كانت في دولة واحدة، وبعد أن هَدَمَتْ الدولة الإسلامية، لم يتخلَّ المسلمون عن دينهم بل تمسكوا به ودافعوا عنه بالغالي والنفيس، وهذا مالم يحصل للمبادئ الأخرى ولن يحصل أبداً، والسبب في ذلك نلخصه في ناحيتين:
الناحية الأيدلوجية والفكرية:
إن الإسلام يستند إلى عقيدة صحيحة تؤمن بالله عز وجل وتوحده وتنهى عن عبادة ما سواه، وهي عقيدة مقنعة للعقل، وذلك من مجرد النظر إلى المخلوقات التي يحس الإنسان فيها العجز طبيعياً، مما يوصله إلى حقيقة وجود هذه المخلوقات طالما أنها عاجزة، فبالتالي هناك من فرض فيها هذا العجز، وذلك هو الواحد الأحد رب السموات والأرض ومن فيهما وما فيهما، هو الله سبحانه وتعالى.
كما أنه -الإسلام- يحمل من الأفكار ما يعطي كل ذي حق حقه، فليس في الإسلام حصانة دبلوماسية أو شخص منزه عن تطبيق القانون عليه، بل حتى خليفة المسلمين يمثل أمام القضاء ويحاكم مثله مثل أي أحد من الناس؛ كما حدث لسيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو في السلطة في نزاعه مع اليهودي في الدرع، وغيرها من قصص الأمراء الذين مثلوا أمام القضاء لمحاسبتهم وأخذ الحقوق منهم، فلم يشهد العالم عدلاً ونظاماً مستقراً اقتصادياً وسياسياً استطاع أن يحكم العالم طيلة ثلاثة عشر قرناً من الزمان بأحكام ومعالجات صحيحة صادقة تعالج الوقائع فعلاً كما فعل نظام الإسلام ومنها:
معالجة الإسلام للمشكلة الاقتصادية، فقد حدد الإسلام المشكلة بأنها خلل في توزيع السلع والخدمات على الناس، وليس الأمر هو زيادة الإنتاج، فكل من يتمكن من الحصول على إشباع حاجاته الأساسية يكون قد كفى نفسه، ومن لم يتمكن من ذلك تتولى الدولة معالجة مشكلته تولياً كاملاً، لذلك كان غريباً عند المسلمين أن يظهر أحد من الناس، وهو يستعطي، فعندما حدث ذلك في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من يهودي استنكره سيدنا عمر (رضي الله عنه) وأرجع ذلك اليهودي إلى بيته معززاً مكرماً معه قوته الذي يكفيه من بيت مال المسلمين.
أما في الحكم، فالخلافة تنظر للحكم بأنه أمانة، ويوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذه بحقه، وأن التشريع فيه هو لله عز وجل وحده، المتعالي عن الغرض في وضع القوانين للناس، سبحانه وتعالى، وأن الخليفة وحده هو الذي يتبنى الأحكام ولا يتبنى الخليفة تلك القوانين إلا بقوة الدليل ويلتزم ويلزم الرعية بذلك.
الناحية السياسية:
لقد نجح الإسلام نجاحاً منقطع النظير على مر التاريخ البشري في صهر الشعوب وجعلها أمةً واحدةً، فها هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوفى بعد أن دخلت الجزيرة العربية كلها في الإسلام، بل وبدأ بدعوة الشعوب والأمم المجاورة بإرسال الكتب إلى ملوكها وحكامها، وبالسرايا والغزوات على حدود الروم في مؤتة وتبوك. وقد جاء بعده الخلفاء الراشدون فتتابعت الفتوحات، ففتح العراق وكان يسكنه خليط من النصارى والمزدكية والزرادشتية من العرب والفرس، وفتحت فارس وكان يسكنها العجم وقليل من اليهود والرومانيين، وكانت تدين بدين الفرس، وفتحت الشام وكانت إقليماً رومانياً يتثقف بثقافة الرومانيين ويتدين بالنصرانية ويسكنه السوريون والأرمن واليهود وبعض الرومان وبعض العرب، وفتحت مصر وكان يسكنها المصريون وبعض اليهود وبعض الرومان، وفتحت شمال أفريقيا وكان يسكنها البربر وكانت في يد الرومان. وجاء بعد الخلفاء الراشدين الأمويون، ففتحوا السند وخوارزم وسمرقند وأدخلوها ضمن أراضي الدولة الإسلامية، ثم فتحت الأندلس وأصبحت ولاية من ولايات الدولة الإسلامية، وكانت هذه الأقطار المتعددة متباينة القوميات واللغة والدين والتقاليد والعادات والقوانين والثقافة، وطبيعياً كانت مختلفة العقلية مختلفة النفسية، ولذلك كانت عملية صهرها ببعضها وتكوين أمة واحدة منها موحدة الدين واللغة والثقافة والقوانين أمراً عسيراً وعملاً شاقاً، ويعتبر النجاح فيه شيئاً غير عادي، ولم يحصل لغير الإسلام، ولم يتحقق إلا للدولة الإسلامية.
وطريقة الإسلام في ذلك هي الجهاد الذي عن طريقه تفتح البلاد وتحكم بالإسلام في المعاملات والعقوبات، وما سوى ذلك يترك أهلها وما يعتقدون، ومعاملاتهم الخاصة تفصل على حسب أديانهم وعقيدتهم. إن الفتوحات الإسلامية التي اشتهر بها المسلمون عملت أموراً عجيبةً حقاً جعلت من الغازي أخاً للمغزو يصاهره ويحبه بل ويعتقد عقيدته ويحارب معه جيرانه ليدخلهم في هذا الدين، فها هم أهل السند بعد أن دخلت جيوش المسلمين إلى بلادهم وتسلمت زمام أمرهم، أرسل بعض منهم رسالة إلى خليفة المسلمين يخبره بأن الجيش لم يخيرهم الخيارات الثلاث الشرعية، فأمر خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز بسحب الجيش، ولكن المفاجئ للأمر أن تمسك أهل تلك البلاد بالجيش الذي غزاهم وفتح أرضهم، لا لشيء إلا لأن هذا الجيش كان هو حامل لواء العدل والرحمة، وغير ذلك من القصص التي رويت تحكي عن قدرة الإسلام وبراعته في صهر الشعوب وتناسي كل الاختلافات والروابط الأخرى غيره.
لم يبقَ إذاً إلا النظام الذي لم يضطهد على مر التاريخ أي مجموعة من الناس داخل الدولة الاسلامية، بل صهرهم جميعهم في بوتقة الإسلام وجعلهم أمة واحدة من دون الناس. ألا وهو نظام الإسلام الذي يجب أن تعمل البشرية كلها من أجل أن يسود العالم ويقوده، أو على الأقل أن تعمل الأمة الإسلامية من أجل ذلك، فبه خلاصها وخلاص البشرية جمعاء.
2010-10-17