قضيةُ جنوب السودان… النشأة والتطور
2010/10/17م
المقالات
4,761 زيارة
قضيةُ جنوب السودان…
النشأة والتطور
المهندس/ حسب الله النور
نشأت قضية جنوب السودان بوصفها قضية سياسية إبان فترة الاستعمار الإنجليزي وهذه هي تطوراتها:
بعد قيام ما يسمى الحكم الثنائي (المصري-البريطاني) في السودان عام 1899م قامت سياسة حكومة الخرطوم التي كان يسيطر عليها الجانب الإنجليزي، تجاه جنوب السودان على ركيزتين:
1- إضعاف الوجود الشمالي في الجنوب تحت ذريعة أن هذا الوجود يمكن أن يتسبب في اضطرابات، إذ إن أبناء المديريات الجنوبية لا ينظرون إلى الشمالي إلا من خلال الذكريات القديمة حين كان يعمد بعض أبناء الشمال إلى استرقاق الجنوبيين، مما دعا الأخيرين إلى توصيف الأولين بالجلابة.
2- إضعاف الثقافة العربية، سواء بإحلال الإنجليزية محل العربية كلغة عامة، أم بتشجيع انتشار اللهجات المحلية وتحويلها إلى لغات مكتوبة. ومنع انتشار الإسلام، وهو الأمر الذي تكفلت به الإرساليات التنصيرية التي أطلق لها حرية العمل الديني في الجنوب على عكس الشمال، حيث قيدت هذه الحرية بميادين التعليم والخدمات الصحية. وتأسيساً على هاتين الركيزتين يمكن أن نميز بين ثلاث مراحل بين عامي 1899م و1956م في السياسة البريطانية تجاه جنوب السودان.
المرحلة الأولى: التمهيد للأرض (1899م-1919م).
عملت بريطانيا على منع انتشار الإسلام في جنوب السودان عن طريق إطلاق حرية العمل الديني للإرساليات التنصيرية في حين خصصت هذه الحرية في الشمال بميادين التعليم والخدمات الصحية.
وأهمها عام 1910م الذي مثل نقطة البدء في الاتجاه نحو تطبيق السياسة البريطانية لفصل جنوب السودان عن شماله لسببين:
1- إقامة إدارة فعالة في تلك المناطق الشاسعة (أعالي النيل، بحر الغزال، منقلا) – وكان قد تم إنجاز ذلك خلال السنوات العشر السابقة. وقد استعانت السلطات الإمبريالية بوسائل متعددة لتحقيق ذلك مثل: تخويل زعماء القبائل بعض الصلاحيات الإدارية، الاستعانة بالإرساليات التنصيرية لتنفيذ ما أسموه «تمدين البشر».
2- إنه قد تم خلال العام المذكور انتقال حاجز اللادو (Lado Enclave) من إدارة حكومة الكونغو إلى إدارة حكومة السودان البريطانية، ونشأ خلاف بين الإبقاء على يوم الأحد كإجازة أسبوعية. إلا أن السلطات المحلية في المديريات الجنوبية خشيت رد فعل الشماليين المسلمين المقيمين في الجنوب على اتخاذ مثل هذه الخطوة.
التخلص من الوجود الإسلامي العربي:
كان الوجود العربي الإسلامي في المديريات الجنوبية يتمثل في ثلاث مجموعات: قوات الجيش المصري المعسكرة في الجنوب، والموظفون المصريون والسودانيون ممن كان يحتاج إليهم دولاب الإدارة في الجنوب، والتجار الشماليون الذين كان يعمل بعضهم لحسابه الخاص والبعض الآخر لحساب بيوت تجارية في الشمال. وللتخلص من تهديدات المجموعة الأولى أوصى حاكم منقلا في مارس/ آذار 1911م باتخاذ خطوات لتجنيد السودانيين الجنوبيين وتشكيل ما يعرف «بالفرقة الاستوائية». وانتهى الأمر بخروج آخر جندي من القوات السودانية الشمالية من الجنوب يوم السابع من ديسمبر/ كانون الأول 1917م. ولم يمض أكثر من شهر حتى تم الاعتراف بيوم الأحد إجازة أسبوعية.
كما سعت الحكومة الإنجليزية في السودان إلى استبدال المسلمين الشماليين، وقدمت كل التيسيرات لإلحاق الجنوبيين بالمدارس الحكومية ولكن بدون جدوى، الأمر الذي دفعهم في نهاية الأمر لأن يتركوا تلك المهمة للإرساليات التنصيرية. كما فرضت اللغة الإنجليزية في التعليم. وتم التخلص من التجار الشماليين.
وقد أكد حاكم منقلا «أوين باشا» في كتاب له إلى الحاكم العام يوم 10 يناير/ كانون الثاني 1918م أنه قد نجح في إبعاد من أسماهم «كافة المتعصبين من الجنود أو التجار» وأعرب لسلطات الخرطوم عن رغبته في ألا يعودوا أبداً إلى الجنوب.
المرحلة الثانية: بناء الأسوار (1919م-1949م).
«لا يجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها ويبقى فيها إلا إذا كان حاملاً رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها».
كان ذلك هو نص الإعلان البريطاني بإغلاق مناطق جنوبية عام 1922م.
فرضت ثورة 1919م في مصر تغييرات هامة على السياسة البريطانية في السودان، خاصة في الجنوب الذي كان موضع اهتمام لجنة ملنر Milner التي جاءت للتحقيق في أسباب الثورة، وخصت جنوب السودان بثلاث مذكرات:
1- الأولى بتاريخ 15 فبراير/ شباط 1920م بعنوان “اللامركزية في السودان بهدف فصل الزنوج عن الأراضي العربية” بإقامة خط يفصل الزنوج عن الأراضي العربية يمتد من الشرق إلى الغرب ويسير مع أنهار بارو والسوباط والنيل الأبيض وبحر الجبل.
2- ورأت المذكرة الثانية التي أعدتها حكومة السودان أنه فيما يخص الزنوج، فهي على استعداد لقبول اندماجهم في حكومات أملاك أفريقية أخرى، مثل أوغندا وشرق أفريقيا “وإقامة اتحاد لوسط أفريقيا تحت الإدارة البريطانية يضم بالطبع زنوج السودان”.
3- آخر هذه المذكرات وأكثرها صراحة كتبت يوم 14 مارس/ آذار 1920م، وجاء فيها بالنص “إن سياسة الحكومة هي الحفاظ بقدر الإمكان على جنوب السودان بعيداً عن التأثير الإسلامي، ففيه يتم توظيف المأمورين السود، وعندما تقتضي الضرورة إرسال كتبة من المصريين يختارون من الأقباط، وأصبح يوم الأحد هو يوم العطلة بدلاً من يوم الجمعة، وأخيراً تشجيع المشروعات التنصيرية”.
يصبح مفهوماً على ضوء هذه المذكرات ما جاء في تقرير اللورد ملنر من أن: “الأكثرية الكبرى من أهل مصر متجانسة، أما السودان فمنقسم بين العرب والسود، وفي كل منهما أجناس وقبائل يختلف بعضها عن بعض كثيراً. أما عرب السودان فيتكلمون باللغة التي يتكلم بها أهل مصر وتجمع بينهم جامعة الدين”.
بعد شهور من إصدار الحكومة البريطانية لتصريح 28 فبراير/ شباط 1922م الذي اعترفت فيه باستقلال مصر، وفي سبتمبر/ أيلول من ذات العام على وجه التحديد صدر أمر “الجهات المغلقة” Closed Districts الذي تضمن جدولاً بجهات معينة تشمل مديرية بحر الغزال ومديرية منقلا والسوباط ومركز بيبور ومديرية أعالي النيل غرب وجنوب خط يمتد من شركيلة إلى ملكال ومنها شرقاً إلى حدود المديرية، تقرر أنه “لا يجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها ويبقى فيها إلا إذا كان حاملاً رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها”.
“القبول باستمرار اللغة العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام مما يضيف للشمال المتعصب منطقة لا تقل عنه في المساحة” [المصدر: كتابات السكرتير الإداري البريطاني المستر/ ماكمايكل].
* توصيات ومذكرات فصل الجنوب:
وفي منتصف عام 1929م قام المندوب السامي البريطاني في القاهرة اللورد لويد بجولة في السودان وعاد بعدها ليكتب مذكرة سرية عما أسماه «مشكلة السياسة التعليمية في جنوب السودان»، بدأها بالقول إن هناك مشكلة لغة في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 4 و12 شمالاً (الجنوب)، وهي المنطقة التي يعيش فيها السودانيون الوثنيون.
أما طبيعة هذه المشكلة فهي «هل ستبقى اللغة العربية لغة تفاهم عام؟». أجاب عن تساؤله من خلال عرض مذكرتين كتب أولاهما المستر ماكمايكل السكرتير الإداري Civil Secretary، ووضع الثانية المستر ماثيو سكرتير إدارة المعارف.
المذكرة الأولى ذكرت أن القبول باستمرار العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام مما يضيف للشمال المتعصب -على حد قوله- منطقة لا تقل عنه في المساحة.
أما المذكرة الثانية فقد أشارت إلى أن اللغة العربية المنتشرة في الجنوب أقرب إلى الرطانة الغامضة، واقترحت تشجيع الموظفين لدراسة اللهجات المحلية، وحيث لا يمكن استخدام هذه اللهجات تحل الإنجليزية محل العربية.
وعلى ضوء هاتين المذكرتين وضع اللورد لويد توصياته على النحو التالي:
1- تشجيع الموظفين في المديريات الجنوبية على تعلم اللهجات المحلية، ونشر بعض المجموعات اللغوية.
2- محاربة اللغة العربية وتشجيع استخدام اللغة الإنجليزية بدلاً منها.
3- بذل الجهود لمواجهة الاحتياجات التعليمية المتزايدة في المديريات الجنوبية بتأسيس مدرسة أو مدرستين حكوميتين في مناطق بعينها، ويمكن تحديد هذه الاحتياجات بتدريب عدد مناسب من الصبيان للخدمة في الإدارات الحكومية. ويسمح في نفس الوقت لمدارس الإرساليات القائمة بالاستمرار في عملها.
أقرت حكومة لندن هذه المذكرة مع اختلافات بسيطة في الوسيلة لا الهدف، الأمر الذي بينته مذكرة لوزير الخارجية المستر هندرسون الذي رأى الموافقة على مقترحات لويد لسببين:
الأول ديني، لأن إنجلترا «كدولة مسيحية لا يمكنها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار الإسلام بين شعب يزيد على ثلاثة ملايين وثني».
والثاني سياسي، «فبالنظر إلى انتشار خطورة التعصب الديني بين شعوب انتشر فيها الإسلام مؤخراً قد يترتب عليه نتائج مدمرة».
أما الاختلاف في الوسيلة فقد رأى هندرسون الاقتصار على الجمعيات التنصيرية مع زيادة المعونة الحكومية لها «ومازال المنصرون حتى يومنا هذا يشكلون المؤسسة التعليمية الوحيدة في الجنوب.
وإنه في ظل الظروف الحالية، فأمام العمل التنصيري في السودان مستقبل غير محدود، ويستطيع المنصرون من خلال تقديم الخدمات الطبية كسب ثقة الأهالي، ونشر شكل مبسط من القيم المسيحية، والتخلص من الخزعبلات البدائية التي تسيطر على معتقداتهم».
على ضوء هذه الأفكار وفي يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 1929م وضع الحاكم العام للسودان السير مافي خطة لتنفيذها ذات أربعة جوانب:
1- تشغيل الموظفين من (غير المسلمين) في الإدارة بهيئاتها الكتابية والفنية.
2- الإصرار على تعليم الموظفين البريطانيين معتقدات وعادات ولغات القبائل التي يقومون بإدارة مناطقها.
3- التحكم في هجرة التجار الشماليين.
4- سياسة تعليمية محددة، وهو الجانب الذي لقي عناية كبيرة باعتبارها حجر الزاوية في سياسة «لا لتعريب» جنوب السودان.
جانب آخر من جوانب هذه السياسة التي تقضي بالتخلص من استخدام اللغة العربية المنتشرة في بعض أنحاء الجنوب، هو وصف المسؤولين في حكومة السودان لها بأنها «عربية مهلهلة».
وبدأ المسؤولون في حكومة السودان البحث عن البديل، وقد جمعوا بين استخدام اللهجات المحلية بعد تطويرها على نحو يجعلها لغات مقروءة جنباً إلى جنب مع اللغة الإنجليزية، وهو البديل الذي بدأ المسؤولون اتخاذ الخطوات اللازمة لوضعه موضع التنفيذ من خلال وسيلتين:
أولاهما، عقد مؤتمر لغوي في مدينة «الرجاف» حضره موظفو حكومة السودان المسؤولون عن التعليم، وقد تم خلاله اختيار عدد من المجموعات اللغوية المحلية ووضع الكتب والمراجع بها.
الثانية، استخدام الإنجليزية محل العربية في المناطق التي لا يعرف موظفو الحكومة الحديث باللهجة المحلية، كما هو حادث بين القوات الاستوائية وقوات البوليس، وحيث تكون اللهجة المحلية غير قابلة للاستخدام.
* إجراءات فصل الجنوب:
في يناير/ كانون الثاني 1930م وجه السكرتير الإداري لحكومة السودان تعليمات إلى مديري المديريات الجنوبية تضمنت الإجراءات التنفيذية للسياسة الجديدة، وقد شملت جانبين:
الجانب الأول: تضمّن بناء سلسلة من الوحدات العنصرية أو القبلية ذات الهياكل والنظم القائمة على التمايز العنصري والديني. على أن يتم ذلك بإبعاد الموظفين المتحدثين بالعربية ولو كانوا جنوبيين، وجعل الإنجليزية لغة المكاتبات الرسمية بالنسبة للكتبة، وكذلك جعلها لغة الأوامر العسكرية ولغة التخاطب مع العمال والخدم، بل وتفضيل استخدام المترجمين بدلاً من الاستعانة بالعربية. وحصر هجرة التجار الشماليين وتشجيع التجار اليونانيين والسوريين المسيحيين.
الجانب الثاني: تضمّن تحديد وسائل قياس التقدم في تنفيذ السياسة المذكورة بإعداد جدول سنوي يوضح في جانب منه عدد المسلمين بالنسبة لمجموع موظفي الحكومة في الجنوب، ثم عدد الموظفين البريطانيين الذين أجادوا تعلم اللغات المحلية، يلي ذلك تطور عدد التجار الشماليين في الجنوب، بعدها عدد المدارس التنصيرية والأموال التي تنفقها الحكومة على التعليم. وبعد وضع خطة «لا لتعريب جنوب السودان» في أدق تفاصيلها بقي تنفيذها الذي تطلب أولاً مسح الوجود العربي الإسلامي في الجنوب. وتضمن الجانب الثاني من الإجراءات ما كان متصلاً بالتخلص من الوجود الثقافي العربي، وقد ظلت عملية الفصل نشطة خلال السنوات التالية.
في عام 1929م حين بدأ التخطيط بجد لفصل الجنوب عن الشمال، كان هناك أربع إرساليات تنصيرية تعمل في المديريات الجنوبية تشرف على ثلاث مدارس وسطى و30 مدرسة أولية فيها 1907 تلاميذ. وفي عام 1931م أقامت الإرسالية الكاثوليكية مدرسة لتدريب المعلمين في توريت بمديرية منقلا، زادت في العام التالي خمس مدارس للبنات، وثلاث مدارس حرفية، ومدرستين لتخريج معلمي المدارس الأولية، هذا فضلاً عما أسماه الإنجليز مدارس الشجرة Tree Schools التي أقيمت في القرى، ويقوم على التدريس فيها معلم من أبناء القرية نفسها.
فضلاً عن ذلك فقد تم استخدام لهجات الجنوب بعد أن تحولت إلى لغات مكتوبة، فوضعت أسس قواعد لغات الباري واللاتوكا والشلك والدينكا والنوير. ففي عام 1931م تم طبع كتابين بلغة الزاندي، ومثلهما بلغة الباري، وأربعة بلغة الدينكا، وواحد بكل من لغات النوير والكريش والمورو واللاتوكا، الأمر الذي استمر في تزايد خلال السنوات التالية.
المرحلة الثالثة: الحصاد المُر (1949م-1955م)
اقتنعت بريطانيا بعد التخلف الذي ساد الجنوب بسبب سياستها هناك؛ بأن العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم وحدة الشمال مع الجنوب كي يستطيع الجنوبيون الاعتماد على أنفسهم ويكونوا أنداداً متساوين اجتماعياً واقتصادياً مع شركائهم وزملائهم من الشماليين.
”أثناء الحرب العالمية الثانية وبعد إنشاء المجلس الاستشاري لشمال السودان كتب مدير المديرية الاستوائية يوم 14 أغسطس/ آب 1943م طالباً إعادة النظر في السياسة المتبعة في الجنوب، وكتب مدير المعارف في العام التالي ما مؤداه أن سياسة الحكومة في جنوب السودان قد أدت إلى تخلفه إذا ما قورن بالشمال.
في العام التالي وجه الحاكم العام بالسودان مذكرة للسفير البريطاني في القاهرة طالب فيها بضرورة البحث في مصير الجنوب، إما بالاندماج في الشمال أو الاندماج في شرق أفريقيا أو دمج بعضه في هذا الجانب ودمج البعض في الجانب الآخر. وفي عام 1946م وبعد اتباع سياسة السودنة تشكلت لجنة للنظر في إمكان تنفيذها في الجنوب فوضعت تقريراً أدانت فيه بشدة سياسة الحكومة الجنوبية، وطالبت «بإلغاء تصاريح التجارة، واتباع سياسة موحدة للتعليم في الشمال والجنوب، وتعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب، وتحسين وسائل الاتصال بين الجانبين، وتشجيع انتقال الموظفين بين الشمال والجنوب وتوحيد النظم بينهما»، الأمر الذي يتطلب البحث في الأسباب التي أدت إلى الانقلاب في السياسة البريطانية تجاه جنوب السودان، وهو ما شرحه التقرير بالتفصيل.
* أسباب انقلاب السياسة البريطانية:
الأول: ما أسماه التقرير «التحولات الهامة في الجو السياسي للقطر كله»، وأخطرها ظهور عدد غير قليل من الأحزاب السودانية يدعو أغلبها لوحدة وادي النيل، وأقلها مثل حزب الأمة الذي تأسس عام 1945م يدعو إلى استقلال السودان بكامل حدوده الجغرافية. وكان الاستمرار في السياسة القديمة يمد دعاة الاتحاد بحجة قوية لمعاداة الوجود البريطاني، ويوقع دعاة الانفصال عن مصر في موقف صعب.
الثاني: ونتج عما اتضح من إخفاق الخطط الخاصة بإنشاء شبكة مواصلات بين شرق أفريقيا وجنوب السودان، إذ توقف نجاح هذه الخطط على الخزان الذي كان مزمعاً إنشاؤه على بحيرة ألبرت، ولم يعد مع ذلك من مندوحة بتوجيه تجارة الجنوب إلى الشمال بعدما أخفق الخيار الأول.
الثالث: وهو سبب تعليمي، فقد رأى البريطانيون أن إقامة مدرسة ثانوية في الجنوب يمثل أقصى المتاح، ولكن ماذا عن أبناء الجنوب الراغبين في مزيد من التعليم بعد المرحلة الثانوية، الإجابة كانت في كلية غوردن بالخرطوم، وأنه لابد مع هذا الاحتمال من تعليم طلاب المرحلة الوسطى وما بعدها اللغة العربية.
وعرض التقرير أخيراً للاختلافات القائمة في الأجور وشروط الخدمة وضرورة استخدام الشماليين في مشاريع التنمية بالجنوب، وانتهى إلى القول إن سياسة حكومة السودان قامت على أساس أن الجنوبيين يتميزون بأفريقيتهم وزنجيتهم، لكن العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم وحدتهم حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم في المستقبل، ويكونوا أنداداً متساوين اجتماعياً واقتصادياً مع شركائهم وزملائهم من السودانيين الشماليين. وكان الأخذ بما جاء في هذا التقرير يعني التخلي عن السياسة الجنوبية القديمة، وهو ما حدث أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، وما تبع ذلك من إجراءات أدت إلى انفجار الوضع في الجنوب.
فقد تم بعد عام 1948م تغير ملحوظ في السياسة التعليمية في الجنوب، حيث أقيمت أول مدرسة ثانوية، وأبطل إرسال طلاب المدارس العليا الجنوبيين إلى كلية ماكريري في أوغندا التي استبدلت بكلية غوردن في الخرطوم، في نفس الوقت أقرت الجمعية التشريعية خطة السنوات الخمس للتعليم في الجنوب، وكلف معهد التربية في «بخت الرضا» بتخريج المدرسين اللازمين للجنوب. وكان هناك بعد ذلك ما ترتب على عقد اتفاقية فبراير/ شباط 1953م بين مصر وبريطانيا لتقرير مصير السودانيين والتي ترتب عليها نتائج عكسية على الجنوب، كان منها غضب الجنوبيين من أنه لم يسمع أحد من المتفاوضين لمعرفة آرائهم، ثم ما جرى في الانتخابات التي أعقبت المعاهدة من إسراف للوعود التي قطعت لهم، سواء من جانب الأحزاب الشمالية أم من جانب المصريين، وهي الوعود التي لم يتحقق منها شيء.
ووصلت الشكوك إلى ذروتها عندما بدأ الشماليون عام 1955م في إعادة تنظيم القوات العسكرية، وتقرر نقل بعض مجموعات الفرقة الاستوائية إلى الشمال، الأمر الذي انتهى بتمرد هؤلاء، وهو التمرد الذي كان بداية لتفجر مشكلة الجنوب ثم تحولها بعد ذلك وتحت الحكم العسكري الذي حكم السودان منذ عام 1958م وحتى يومنا هذا، لتصبح بمثابة الحصاد المر للسياسة الاستعمارية في جنوب السودان.
فصولُ مسرحيةِ التمهيدِ للتقسيم… بعد خروج جيش المستعمر
لقد تركت بريطانيا مشكلة الجنوب إسفيناً أشغلت السودان به على مر العقود التالية للاستقلال، وقد وضعت بذرة انفصال الجنوب عن الشمال قبل أن تخرج من السودان، ثم رعت الدول الغربية هذه البذرة وسقتها لدرجة لم تختلف نظرة عملاء بريطانيا من الحكام أو عملاء أميركا إلى أن للجنوب وضعاً خاصاً، فالجميع أقروا بضرورة الانفصال بشكل من الأشكال ولكن الاختلاف كان في الأساليب.
لقد تطورت قضية الجنوب في ظل الحكومات المتعاقبة على حكم السودان على عدة فصول، ولعب عملاء الكافر المستعمر دورهم بإحكام وخبث، فنفذوا سيناريوهات المستعمر الخبيثة أيما تنفيذ… وتم الانتقال من فصل لفصل لتستمر مسرحية التمهيد لتقسيم بلد إسلامي عظيم هو السودان، وأبرز هذه الفصول هي:
مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965م.
اتفاقية أديس أبابا 1972م.
اتفاقية كوكدام – الصادق قرنق 1986م.
اتفاقية الميرغني – قرنق 1988م.
مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995م.
إعلان مبادئ الإيقاد عام 1994م ، ثم بروتوكول ميشاكوس عام 2002م.
اتفاق (السلام الشامل) المشهور باتفاق نيفاشا عام 2005م.
مائدةٌ مستديرة… أعدها المستعمر وقدمها لضحاياه
منذ أكتوبر/ تشرين أول 1964م كانت المشكلة السياسية كما استطاع أن يصورها الإنجليز لعملائهم من الحكام السياسيين في السودان هي حل مشكلة الجنوب حلاً سياسياً يضمن للجنوب نوعاً من الحكم الذاتي, وقد كانت أولى محاولاتهم لإيجاد هذا الحكم الذاتي، وبخبث ودهاء الإنجليز، عقدهم (مؤتمر المائدة المستديرة) سنة 1965م، وبعد فشلهم في ذلك المؤتمر استمرت محاولات الإنجليز وعملائهم، فكانت لجنة الاثني عشر، ثم مؤتمر الأحزاب السودانية، ثم لجنة الدستور القومية، وكل تلك المحاولات من المستعمر كانت لإطعام ضحاياه وجبة (الحكم الذاتي) المسمومة؛ وليحرزوا تقدماً في السير في فصول جريمة التمهيد لفصل الجنوب.
بريطانيا… تهاجم الحكم الإقليمي وتعلنُ بدءَ فصلٍ جديد
لقد تحولت سياسة اللاعب الأكبر (البريطاني) في أواخر ديسمبر/ كانون الأول من عام 1967م من إيجاد حكم فدرالي في السودان إلى فصل الجنوب فصلاً تاماً عن الشمال؛ وإقامة جمهوريتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب وربطهما باتحاد كونفدرالي.
وقد بدأ اللاعب البريطاني هذا الفصل الجديد بأن شن ممثل الإنجليز العريق (إسماعيل الأزهري)، هجومه المشهور على الحكم الإقليمي في ديسمبر/ كانون أول لعام 1967م, ثم تبعه بعد فترة وجيزة بقية العملاء في مؤتمر (أبا) ومن داخل الجمعية التأسيسية السابقة. وقد دلت الأحداث أن الإنجليز قد أوكلوا مهمة فصل الجنوب للثنائي المتألق في العمالة؛ (حزب الأزهري وحزب الأمة جناح الهادي) فكان الاتفاق على اقتسام الحكم, (أزهري) لرئاسة الجمهورية ومحجوب (الهادي) لرئاسة الوزراء, وكان لا بد من حل الجمعية التأسيسية السابقة, وقد بدأت تنظر في مسودة الدستور المتضمنة الحكم الإقليمي, وكان لا بد من إجراء انتخابات جديدة ليتمكن حزبا الائتلاف من السير في محاولة فصل الجنوب.
وقد كانت الخطوات التي سار بها الإنجليز وعملاؤهم نحو فصل الجنوب منذ تكوين (حكومة المحجوب الثالثة الائتلاف السابع) في مايو/ أيار 1967م؛ هي قيامهم بعدة مناورات قصد منها إيجاد مكان يصلح لأن يكون نقطة ارتكاز تبدأ منه عملية الغزو لفصل الجنوب, وبعضها قصد منه تهيئة الرأي العام لاستقبال الحدث. فبالنسبة للرأي العام العالمي أوعزوا لعميلهم (باندا) بأن يهاجم حكومة السودان ويصف الوضع في الجنوب بالكارثي، كما أعلنوا قبل ذلك خبراً عن تكوين ما سموه (بحكومة المنفى), ومن الداخل دعوا لعقد (مؤتمر أمن الجنوب) ليوجدوا وقائع لوكالات الأنباء العالمية لتلفق على أساسها أكاذيب عما يجري في الجنوب؛ وذلك لتُكسب المتمردين عطف الرأي العام، ثم اصطنعوا الخلافات بين السودان وأوغندا لتتمكن أوغندا من احتضان حكومة المنفى وتصبح نقطة ارتكاز لغزو الجنوب. ولم يبقَ لهم إلا خلق المبرر لبدء عملية الانفصال، وقد رتبوا حدود ذلك من داخل لجنة الدستور وذلك بأن يثير الكفار من سياسيي (حزب سانو) وجبهة الجنوب مسألة علمانية الدستور؛ فيفتعل عملاء الإنجليز تمسكهم بإسلامية الدستور, ثم يُصعَّد الخلاف حتى تشتعل الشرارة الأولى. فكانت هذه هي الخطوات التمهيدية التي سار فيها الإنجليز وعملاؤهم في فصلهم الجديد.
حكم النميري… فصلُ التفاقم والتعقيد
في 25 مايو/ أيار 1969م بدأ حكم (النميري)، وفي ظل حكمه هذا تفاقمت مشكلة الجنوب وازدادت تعقيداً، وساهم في تعقيدها إهمال الجنوب وعدم تنميته من قِبَل جميع الحكام المتعاقبين على السلطة، وساهم في تعقيدها أيضاً إقرارهم جميعاً بضرورة إعطاء أهل الجنوب وضعاً خاصاً، وكان هذا هو الفخ الذي أدى لقبولهم فيما بعد بفكرة (حق تقرير المصير).
إن اللاعب الجديد على الساحة الدولية (أميركا) عندما أوعز لعميله (النميري) بتوقيع اتفاقية أديس أبابا مع متمردي الجنوب في يوم 27/03/1972م؛ قد أعطى المسرحية منعطفاً إجرامياً جديداً. فبعد أن كانوا في وضع المتمردين الخارجين على الدولة جعل منهم نِدّاً؛ على قدم المساواة مع الدولة، واعترف بهم ككيان سياسي. فأعطاهم بموجب الاتفاقية حُكْماً ذاتياً للأقاليم الثلاثة مجتمعة مع بعضها: الاستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل؛ يرأسها رئيس يُعيَّن بعد توصية من المجلس المحلي للولايات، ويقوم هذا الرئيس بتعيين مجلس للوزراء مسؤولٍ عن إدارة هذا الكيان الوليد. كما وأقر لهم بموجب الاتفاقية جعل اللغة الإنجليزية لغة رئيسية لإدارات الدولة. وغيرها من التنازلات التي زادت في تعميق الفجوة بين الشمال والجنوب.
وقد برز نجم (جون قرنق) في الجنوب في نهاية حكم جعفر نميري حيث كان ضابطاً من ضباط الجيش السوداني أرسل إلى الجنوب للمساعدة في حفظ الأمن، فانفصل عن الحكومة وكوَّن مليشيا خاصة به بمساعدة أوغندا وبالتنسيق مع أميركا لإيجاد قوة نصرانية وثنية تقف في وجه انتشار الإسلام في الجنوب. وكذلك لتكون حركة قرنق أداة ضغط بيد أميركا على حكومة السودان. وبدأ فصل جديد من فصول المسرحية تبادلت الحكومات المتعاقبة على الحكم الأدوار في تنفيذ سيناريوهاته.
فحكومة المهدي أجرت الحوار على أساس الحكم الذاتي أو الإقليمي، وحكومة النميري نفذت الحكم الإقليمي وعيَّنت مجلساً أعلى لإدارة الحكم في الجنوب، وحكومة الإنقاذ بقيادة (البشير) نفذت الحكم الفدرالي وطرحت فكرة حق تقرير المصير لأهل الجنوب، ولم تختلف أحزاب المعارضة مع البشير على هذه الفكرة بدليل أن ما يسمى بالتجمع الوطني الديمقراطي -وهو مجموعة الأحزاب المعارضة لحكومة الإنقاذ-، عرضت حق تقرير المصير لأهل الجنوب وجبال النوبة في مؤتمر القضايا المصيرية الذي عقد بأسمرا عام 1995م. ثم تبعه إعلان (مبادئ الإيقاد) عام 1994م، ثم (بروتوكول ميشاكوس) عام 2002م، وهكذا تم الاتفاق على (حق الجنوبيين) في الانفصال بإقرار الجميع لمبدأ (حق تقرير المصير)، وإلى هنا انتهى الفصل ما قبل الأخير ليُعلن بدءُ فصلِ خارطةِ الطريق ومكان عرضها بضاحية نيفاشا.
اتفاق نيفاشا… خارطة طريق لفصل الجنوب
ثم كان اتفاق نيفاشا عام 2005م، الذي أُعطي الجنوبيين فيه (حق تقرير المصير) في استفتاءِ يُقام بعد 6 سنوات انتقالية ليُهيَّأ الرأي العام للانفصال، وليتم إعداد وتدريب الحكام الجدد لدولة الجنوب من قبل اللاعب الأكبر في الساحة الدولية (أميركا)، وفعلاً شرع اللاعب الأكبر (الأميركي) في تكوين فريق عمل داخل البيت الأبيض لتدريب كوادر الدولة الجنوبية، فقد نقلت صحيفة (الصحافة) السودانية في عددها رقم (5933) تصريح وزير رئاسة حكومة الجنوب قائلاً: «إن الحكومة الأميركية قامت بتكوين فريق عمل مصغر داخل البيت الأبيض ليتولى مهام دعم وبناء قدرات الجنوب، وتهيئته لنتائج الاستفتاء».
وبذلك ينتهي الفصل الأخير من فصول التمهيد لإعلان فصل الجنوب رسمياً، فاتفاقية نيفاشا فصلٌ أخيرُ، كُتبت سيناريوهاته في أروقة مطبخ الإجرام (الأميركي)؛ ليكون خارطة طريق للانفصال، ذلك الانفصال الذي لطالما حلم به اللاعبون الدوليون الكبار بدءاً بالمستعمر البريطاني وانتهاءً (بالعم سام) صاحب الحلم الأميركي.
خاتمة الختام
وهكذا كانت قضية جنوب السودان فتيلاً زرعه اللاعب الأكبر في المسرح الدولي آنذاك (المستعمر البريطاني)، فانفجر الفتيل بعد خروج المستعمر بجيوشه وتنصيب لاعبيه الذين دربهم بإحكام، ثم عقبهم لاعبو (العم سام)؛ فساروا في مخططه خطوة خطوة ليحرزوا أهدافه ويُدخلوا أمتهم في ظلمات بعضها فوق بعض، فكانوا بحق أيدٍ قذرة تنفذ خطط الغرب الكافر المستعمر عدوها وعدو الأمة: (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الأنعام 31].
وإن حساب كل هؤلاء لعسير في الدنيا قبل الآخرة؛ على أيدي قضاة محاكم دولة الخلافة الراشدة، فتُتزل عليهم عقوبات قاسية؛ وهي مهما بلغت قسوتها فلن تبلغ مقدار السوء والجُرم الذي أجرموه تجاه البشرية وتجاه أمتهم، هذا في الدنيا: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) [البقرة 85] إن شاء الله تعالى. ذلك بالنسبة للحكام العملاء، أما الكفار المستعمرون فرد الخلافة عليهم فعلاً لا قولاً ولا تهديداً، سيكون ملاحم عسكرية في ميادين الوغى والجهاد؛ تنسيهم وساوس الشيطان، وتقطعهم إرباً إرباً بواسطة ضربات عباد الرحمن، وحينها ترفرف راية العقاب عالية خفاقة فوق كل بقاع الدنيا لتعلن بدء عصر جديد يشع نوراً وخيراً للبشرية جمعاء، وعندها فحسب يحق للبشرية أن تستنشق نسيم الحق والنور بعد قرونٍ من سيطرة ظلماتِ الرأسمالية والجور (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم 4-5].
2010-10-17