يا أيها الناس اعبدوا ربكم
2001/06/11م
المقالات
1,685 زيارة
(يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين * وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) [البقرة].
في هذه الآيات أمر الله ـ جلّ ثناؤه ـ الناس أن يعبدوه وحده لعلهم بهذه العبادة يكونون من المتقين الذين يرضى الله عنهم، (لعلّ) وإن كانت للترجي ولكنها من الله سبحانه تجري مجرى الوعد المحتوم وفاؤه.
ثمّ بيّن الله سبحانه لعباده أنه الخالق لهم وللذين من قبلهم، وهو سبحانه الذي خلق الأرض والسماء فجعل الأرض مهاداً يستقرون عليها، وجعل السماء سقفاً، وكلّ شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماء، ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه. ثمّ يذكّر الله سبحانه عباده بأنه الرازق لهم فهو الذي ينزل المطر من السماء فيخرج به الزرع والغرس من كلّ الثمرات، فكيف يجعلون مع الرازق عدلاء وأمثالاً يعبدونهم من دون الله وهم لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون في الوقت الذي لو أعملوا فكرهم بذلك لعلموا أن الله هو المعبود وحده سبحانه لا ندّ ولا شريك له.
ثمّ إنّ الله سبحانه لإقامة الحجة عليهم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل سور هذا القرآن ثم أعلمهم زيادة في التحدي أنهم لن يأتوا بمثله مهما دعوا من شهداء يساعدونهم من دون الله.
ومن الجدير ذكره أن الله سبحانه قد كان تحداهم في مكة أن يأتوا بسورة فعجزوا وذلك في سورة يونس (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس. وهنتا في البقرة وبعد الهجرة يؤكد الله سبحانه هذا التحدي مرة أخرى، لذلك جاءت الآية الكريمة في البقرة ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) باستعمال (من) قبل مثله والتي تفيد هنا التوكيد لأن (مِن) زائدة للتوكيد(1). ولأن آية البقرة تأكيد للتحدي السابق في سورة “يونس” لذلك جاءت الآية اللاحقة حاسمة في عجزهم الأبدي عن الإتيان بسورة مثله ( لم تفعلوا ولن تفعلوا) لإقامة الحجة القاطعة على أن هذا القرآن العظيم كلام الله سبحانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد.
بعد ذلك بيّن الله سبحانه في آخر الآيات أنه أعدّ ناراً عظيمة للكافرين وجنات للمؤمنين تجري من تحتها الأنهار، تحوي رزقاً من كلّ ما يشتهون من الثمار متشابه في الجودة والحسن والطيب ليس فيها مرذول، ولهم كذلك أزواج مطهرة من كلّ إثم وأذى.
ثم يذكر الله سبحانه تفضله على عباده المؤمنين الصادقين بتخليدهم في الجنات في نعيم مقيم وخير عميم.
وهنا لا بدّ من وقفة عند إرسال الله للرسل ومعجزاتهم فنقول:
-
إن الله سبحانه قد خلق الخلق لحكمة وهي عبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات.
-
أرسل الله رسلاً ليبينوا للناس كيف يعبدونه ـ جلّ ثناؤه ـ واقتضت رحمة الله أن لا يعذب حتى يرسل رسولاً يبلغ عن الله سبحانه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) النساء/164.
-
أرسل الله سبحانه رسله للناس بمعجزات تحداهم بها لتثبت للمرسَل إليهم بالحجة القاطعة أن صاحب المعجزة المرسل هو رسول من عند الله.
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون المعجزة المتحدى بها والمرسلة مع الرسل لأقوامهم هي في أعظم شيء عندهم زيادة في التحدي وقوة في الإعجاز.
-
كان للسحر في عهد موسى ـ عليه السلام ـ شأن عظيم عند فرعون الطاغية وآله فكانت معجزة موسى تشبه السحر: (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) الأعراف، فظن فرعون أن الأمر سهل لعظمة السحر عنده، فجمع السحرة لإبطال معجزة موسى ـ عليه السلام ـ (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين) الأعراف. ولقد التقى موسى ـ عليه السلام ـ السحرة في يوم عيد على ملأ من الناس فأبطل الله السحر وأظهر معجزة نبيه (قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) الأعراف. عندها أدرك السحرة أن موسى ـ عليه السلام ـ رسول من عند الله حقاً وأن ما جاء به ليس سحراً، فآمنوا بالله رب العالمين وكان إيمانهم عجباً، فبعد أن اشترطوا على فرعون أجراً إن كانوا هم الغالبين تراهم الآن ينسون الدنيا ويتحدون فرعون الطاغية وهو يهددهم بالقتل والصلب دون أن تضعف لهم عزيمة أو تلين لهم قناة (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين * قالوا إنا إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منا إلا أن ءامنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) الأعراف. (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) طه.
-
وفي عهد عيسى ـ عليه السلام ـ كان للطب شأن عظيم وكان قد استعصى على الأطباء إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فجاءت معجزة عيسى ـ عليه السلام ـ قوية واضحة التحدي في أعظم علم عندهم (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) آل عمران/49. ولما حاولوا قتله شبه لهم ولم يمكنهم الله من قتله أو صلبه بل رفعه الله إليه ونجاه من شرهم (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) النساء.
ولقد كان إيمان أصحابه ـ عليه السلام ـ عجباً كذلك قال: «كونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير وحـمّلوا على الخشب فوالذي نفسي بيده لموتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته»(2).
-
وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صناعة العرب هي الفصاحة والبيان يعقدون لها أسواقاً يتنافسون فيها في أعذب الكلام وأبلغه، فكانت معجزة محمّد صلى الله عليه وسلم أن أنزل الله عليه قرآناً يتلى عليهم من جنس كلامهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. تحداهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء. ثم بعشر سور من مثله (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود. ثم بسورة من مثله (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس.
فلم يأتوا بمثله وهم بأشدّ الحاجة لإبطال دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يستطيعون. وهذا التحدي والإعجاز قد تمّ في وقت كان العرب أقحاحاً يدركون معنى التحدي والإعجاز، فعندما لم يستطيعوا علموا أنه من عند الله فكان إيمانهم كذلك عجباً لا يخشون في الله لومة لائم، يستشهدون وهم صابرون كأنهم يرون قصورهم في الجنة رأي العين إيماناً بالله ورسوله “صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة”(3). وذاك لا يجري على لسانه إلا أحد أحد، وهو يعذب بشدة في سبيل الله، وآخر تقطع منه أجزاء من لحمه وهو حي وهو ثابت كالجبال الراسيات يساومونه على تركه مقابل أن يتمنى مجرد أمنية أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه يعذب وهو سالم في أهله، فيقول ـ رضوان الله عليه ـ: “والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحبّ أصحاب محمّد محمدا. ثمّ قتلوه فاستشهد يرحمه الله”(4). فأعزهم الله بدينه ونصرهم بنصره ففازوا في الدارين ونعم أجر العاملين.
-
كانت تلك المعجزات للرسل دليلاً قاطعاً على صدق نبوتهم، غير أن معجزات الأنبياء السابقين كانت مؤقتة فلا تستمر بعد انقضاء رسالتهم في قومهم، أما معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي باقية خالدة تتحدى الناس أجمعين في كلّ زمان ومكان، فرسالة الإسلام خاتمة الرسالات وللناس كافة إلى يوم الدين، ورسالات الأنبياء السابقين خاصة لأقوامهم «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي: كان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا أو مسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة»(5) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) سبأ/28. فهذا القرآن العظيم هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كلام الله سبحانه (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) آل عمران، (إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) الإسراء .
ــــــــــــــــ
(1) لا يوجد في القرآن تكرار أو زيادة لغير معنى، ولذلك فكلّ ما ورد في القرآن وكأنه تكرار أو زيادة هو في الحقيقة لزيادة معنى مثل (مِن) هنا فقد أفادت زيادة معنى وهو التوكيد أي توكيد التحدي السابق.
(2) المعجم الصغير: 749، المعجم الكبير: 20/9، مسند الشاميين: 658.
(3) المستدرك: 3/383، المطالب العالية: 4034، الحلية: 1/140.
(4) سيرة ابن هشام: 3/181.
(5) البخاري: 323، مسلم: 810.
2001-06-11