أضواء على حمل الدعوة
حسـن الحسـن
Hasan.alhasan@gmail.com
جاء الإسلام رحمة للناس لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ولا يتأتى تحقيق هذا إلا بدولة تطبق الإسلام وتحمل الدعوة للناس كافة، لذلك كان حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية عبر إقامة دولة الخلافة فرض كبير وعمل جليل، يقوم به ويستمر عليه بجد وصدق من أضاء الله بصيرته لمعنى أن يكون الإسلام مجسدًا في دولة تحفظه وتحول دون انهيار وانحطاط وتفكك وضياع وانكسار الأمة التي تؤمن به، وتساهم في بناء علاقات الدول على أسس تتسم بالعدل والمسؤولية عن الغير، فترفض الاستعمار والاحتكار والاستغلال والاستئثار بثروات الشعوب، وتقف بالمرصاد للجور والطغيان والإفساد في الأرض. في هذا السياق، فإن متابعة الأحداث الجارية من جهة وأعمال حملة الدعوة لتحقيق هذه الغاية النبيلة من جهة أخرى، تحفز على التفكير بعمق فيما يمكن اعتماده من وسائل وأساليب تمكن من مواكبة المستجدات والتفاعل معها بشك صحيح وفاعل. فحسن التأتي والإبداع في الوسائل والأساليب عند حمل الدعوة له الأثر الأكبر في نجاحها بعد توفيق الله تعالى. إلى أن نجاح هذا الأمر يحتاج إلى وضوح في مفاهيم أساسية مرتبطة بحركة حملة الدعوة على الأرض، والتي أوجز بعضها بشكل مترابط، وبأمثلة عملية لتحفيز التفكير بما من شأنه دفع هذه الدعوة إلى الأمام، راجياً من الله تعالى الأجر والثواب وأن تجد استحساناً فتساهم في تسديد الخطى لحمل الدعوة بشكل نافع ومنتج.
حامل الدعوة
إن حامل الدعوة يجب أن يحرص على أن ينظر إليه على أنه حامل دعوة وعلى تقديم ما ينفع الدعوة وأن تظهر عليه الناحية السياسية المبدئية في عمله وفي تفاعله مع الناس. فصفة «حامل الدعوة» يجب أن تبقى صفة أصيلة لكل عامل لاستئناف الحياة الإسلامية، وتفرض عليه بشكل تلقائي اعتماد أي صفة أخرى لديه لتعزيز دوره كحامل دعوة يسعى إلى إقامة الخلافة. وهي صفة تُلزمه حين القيام بأعباء الدعوة أداءها كعبادة تقتضي سلامة النية والصدق والإخلاص وعدم المراءاة، مع ثبات على الحق وإقدام وعطاء وتضحية وإيثار، متخذًا من حمل همّ نجاح الدعوة مركز التنبه لديه لهذا فإنه عندما يتصدى لمتابعة الأحداث السياسية مثلاً، لا يتعامل معها كمحلل سياسي حتى وإن كانت تتوفر فيه كل مواصفاته ومؤهلاته، إنما يطالع ويتابع ويحلل لفهم تأثير تلك الأحداث على دعوته وكيفيه تعامله معها. وعندما ينخرط بعمل إعلامي لا يمارس ذلك بصفته صحفي حتى وإن كان هو فعلاً كذلك، بل يجب أن يكون إيصال رسالته هو مبتغاه. إلا أن الاستغراق في الدعوة واستحواذها على صاحبها لا يصح أن يعني بحال مجافاة آليات ومستلزمات حمل الدعوة على الوجه المطلوب، بما في ذلك تعلم بعض الفنون إذا اقتضى الأمر، كفن الخطابة أو الإعلام أو التحليل أو الكتابة، بغية إنجاز مهام الدعوة بفهم وإتقان. إلا أنه من المهم أن يفعل كل ذلك وهمه منصب على أن ما يفعله مطلوب لنصرة الدعوة، مما يحفظه كحامل دعوة ويقيه من الانصراف إلى ممارسة أعمال الدعوة كهواية أو وظيفة مجردة.
إشكالية الألقاب
شاع بين المشاركين في تناول قضايا الشأن العام سواء في المنتديات أو الندوات أو وسائل الإعلام التنافس على انتحال الألقاب الكبيرة، كلقب مفكر سياسي أو مفكر إسلامي أو مفكر قومي أو باحث أو خبير استراتيجي أو كاتب موسوعي أو غيرها من التصنيفات المميزة. ويكمن اللهثان وراء مثل هذه الألقاب غالباً طمعاً في اكتساب مكانة مرموقة تضفي وزناً زائداً على «وجهة نظر» صاحبها، تساعده على تسويق أفكاره بين الناس، الذين يجلون عادة أصحاب الكفاءات والشهادات والألقاب والمناصب الرفيعة. إلا أن هذا المنهج في تسويق وجهة نظر ما علامة انحطاط، إذ يعتمد على كسب تأييد الناس لأجندة معينة بناء على حيثية الشخص، أي هيئته أو نسبه أو لقبه أو مكانته، لا على قوة حجته أو أفكاره أو نجاعة معالجاته المطروحة. كما أن ثمة مفارقة يتيسر كشفها بقليل من البحث، وهي أن كثيرين من منتحلي تلك الألقاب الرفيعة يدلسون على الناس بادعائها، حيث إنهم يفتقدون المهارات أو المؤهلات التي تمنح صاحبها مثل هذا اللقب أو ذاك. ولهذا كان على حامل الدعوة التركيز في دعوته على مضمونها. لا يمنع هذا أن يستعمل حامل الدعوة مؤهله أو لقبه – إذا ما توفر – كعامل مساعد على جذب انتباه الناس إلى ما يريد أن يوصله لهم، وعلى أن يكون بوجه حق وليس تدليساً أو تورية، وعلى أن يبقى مدركاً أن استعمال لقبه ذاك مجرد إجراء شكلي، لا ينبغي أن يكون على حساب كونه حامل دعوة يعوزه استيعاب الأفكار والمفاهيم والمعالجات اللازمة التي تمكنه من إيصالها للناس بشكلها اللائق والصحيح، وعلى أن يقوم باستعمال مؤهله خدمة للدعوة لا لشخصه. وأن يحرص كل الحرص على ألا تطغى أي ميزة لديه، علمية كانت أو مهنية على كونه حامل دعوة، فهذا هو الثوب الذي يجب أن يظهر فيه للناس والذي هو عزه ورفعته، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
استعمال المصطلحات
يستخدم المصطلح في مجال ما ليدل على شيء معين مفهوم في سياق محدد، ويعتبر استعماله في خارج ذاك السياق هذراً أو تلبيساً على الناس، فمثلاً إطلاق لفظة فأرة في سياق الكمبيوتر له دلالة محددة لا علاقة لها البتة بالحيوان، كذلك إطلاق لقب مفكر على أحدهم حين تقديمه لعرض آرائه في مجال ما، لا علاقة له بمجرد وجود ملكة التفكير الفطرية لديه! إنما يطلق للدلالة على من لديه سعة اطلاع وعمق معرفة مكنته من إنتاج فكري متميز، كالمساهمة ببناء نظرية في فن من الفنون أو علم من العلوم، كما هو حال خالد بن الوليد أو نابليون بونابرت في المجال العسكري أو أينشتاين وأحمد زويل في المجال العلمي أو ابن خلدون وتقي الدين النبهاني في المجال الاجتماعي والسياسي. ويبقى أمثال هؤلاء قلة نادرة في كل عصر ومصر، تُدرس أفكارهم ونظرياتهم وفلسفاتهم على مدار أجيال وربما على مدار التاريخ. لذا كان لا بد لحامل الدعوة التنبه إلى إدراك معاني المصطلحات واستعمالها على وجهها حتى لا يعد عابثاً أو جاهلاً أو مدعياً. ولذلك كان لزاماً على حامل الدعوة – أكثر من غيره لما تقتضيه أمانته وصدقيته – أن ينزل المصطلح على الواقع بما يتطابق معه في سياقه لا كما يجول في ذهنه.
الدعوة والدعاية
تلعب الدعاية أهمية بالغة في تسويق أية مادة (فكرة أو بضاعة أو شخصٍ)، لذلك نلاحظ سباقاً محموماً على بناء مؤسسات إعلام قوية وقادرة على إجراء دعاية مؤثرة بين الناس. ويلاحظ تنافس تلك المؤسسات على استقطاب أصحاب الكفاءات العالية والشخصيات اللامعة (استضافة وتوظيفاً) لقاء مبالغ خيالية من أجل جذب أكبر عدد من المتابعين. ولشدة أهمية العمل الدعائي نجد أن أجر آلاف الموظفين الذين يعملون في مصنع لا يكاد يصل إلى أجر ممثل أو لاعب رياضي يشارك لبضع دقائق في دعاية لتسويق منتج صنعوه. وفي عالم الدعوة نجد أن وسائل الإعلام مهتمة بصناعة من يسمون بالدعاة الجدد أو بالتركيز على إبراز دعاة بأعينهم، بغية الترويج والتسويق لمنهج معين فيما يتم التعتيم على كل من يخالفه حيناً والتعامل وبالازدراء والاستخفاف حيناً آخر. ونتيجة لهذا الاهتمام الإعلامي تجد جماهيرية واسعة للدعاة صنائع الإعلام، فيما أن كثيرين من عمالقة الفكر والفقه والسياسة معتم عليهم إعلامياً، ولا يكاد يسمع بهم أو لهم سوى معارفهم ومن ارتبط بهم. يوضح هذا الواقع أهمية أن تشمل الدعوة الصادقة دعاية مناسبة لها للتأثير في أوسع شريحة ممكنة من الناس، فركون أي جماعة إلى قوة أفكارها وصدق لهجتها فقط دون إتقان استعمال الأدوات المتاحة إعلامياً في حمل الدعوة – على اعتبار أن الشكل غير مهم – يقلل من فرصها في الظهور والتأثير والاستقطاب في البيئة التي تحيا صراعاً وتنافساً حاداً على أكثر من صعيد. لذلك فإن إتقان استعمال وسائل الدعاية والتعامل مع آليات الإعلام الذي يعتمد على الصورة والمقال القصير والمذكرات التي تمجد الدعوة وتبرز تضحيات أصحابها وتفانيهم ودمج كل هذا بقنوات التفاعل الإلكتروني الحديث يمكن أن يكسب الدعوة شعبية أكثر من آلاف الخطب والكتب والنداءات. اللافت حقاً هو أن الاهتمام بوسائل التأثير هو شيء معمول به منذ القدم، إذ لطالما ربطت أحداث وأفكار بصور أو بقصائد مناسبة لترويجها وتعظيمها ولفت النظر إليها. بهذا الصدد، يجدر التنبيه إلى أن المطلوب هو الحرص على عرض الأفكار عند حمل الدعوة بكل جدية وبكل الوسائل الممكنة بحيث تظهر فيها بصورتها النقية وصفائها وبساطتها وغايتها السامية. لهذا فإن كان الاهتمام بالدعاية والإعلان والإعلام يقتضي عدم ارتجال الوسائل والأساليب أو التعامل معها بشكل تطفلي أو هامشي، إذ يفوت هذا الفرص، بل ويأتي أحياناً بنتائج معاكسة، فيتسبب بضرر للدعوة. مثل أن يقوم أحدهم بمحاولة إيصال رسالة دعوية من خلال إنتاج تسجيل مصور بشكل رديء وبصوت منفر وبلغة ركيكة. إضافة لهذا فإنه يجب أن يحذر المنخرطون في مثل هذا الأمر على أن لا تتحول دعوتهم إلى مجرد عمل دعائي، يغلب فيها التغني بالأمجاد ورفع الشعارات والفخر بالبطولات بعيداً عن ربطها بالمعايير والأفكار الصحيحة، لأنها تصبح حينذاك كالطبل الأجوف، الذي يُسمع ضجيجاً فيما يستبطن الفراغ.
الشخصيات القيادية
لطالما تتعرض الدعوات الصادقة التي تنشد التغيير المبدئي والجذري إلى حملات تشويه وتعتيم من قبل الأنظمة وأذنابها تحتاج معه لمن يتصدى لها ويدحضها على الأرض، كما يتطلب التفاعل مع قضايا المجتمع ومحاولة تحريك الناس تجاه تبني أهداف وقضايا معينة وجود شخصيات تمتلك قدرات ومهارات كافية للتواصل مع شرائح واسعة ومختلفة من الناس، وتبرز أهمية توفر مثل هذه الشخصيات أكثر أثناء خوض الصراع الفكري والكفاح السياسي للتأثير في الوسط السياسي. لذلك كان بروز حملة دعوة كقادة ورواد مؤثرين في محيطهم بين الناس ليقودوا العمل سياسياً في ميادين الصراع أمراً ضرورياً. إلا أن هذا البروز يجب أن يكون طبيعياً، أي من غير تصنع، وتفرضه مؤهلاته وإمكانياته بشكل تلقائي، وإلا أصبح عبئاً على الدعوة، فالأمر يجب أن يقوم به من هو أهل لذلك، شكلاً ومضموناً، ولا يصلح له أي كان. وبناء هكذا شخصيات إما أن يأتي من خلال الاهتمام بمن يظهر عليه النباهة والجدية والقدرة على المتابعة والتأثير في محيطه، وإما من خلال تقصد كسب شخصيات معينة ممن لها تأثير في المجتمع لصالح الدعوة بحيث تتفاعل مع هذه الدعوة فتناصرها أو تحتضنها وتصبح جزء منها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله أن ينصره بأحد العمرين. إلا أنه يجب التنبه هنا إلى أن بروز مثل هذه الشخصيات الرائدة يجب أن لا ينفصل بحال عن أفكار الدعوة ومعاييرها. فكسب أنصار أو مؤيدين جدد لا يمكن أن يعتبر مكسباً حقيقياً ما لم يتم من خلال ربط هؤلاء بأفكار ومعايير تفرضها الدعوة نفسها لا مجرد ثقتهم بشخصيات معينة، فالانقياد للأفكار هو الأصل والفصل في الحكم على صحة الارتباط بالدعوة والولاء الصادق لها. كما أن الانقياد للأفكار الصحيحة هو ضمان استقامة شؤون الدعوة وثبات أصحابها وتماسكهم. وأما ارتباط الدعوة بأشخاص مهما علا شأنهم، بمعزل عن اعتبار أفكارهم يجعل الدعوة عرضة للانزلاق وراء أخطائهم وتقلباتهم. ومن هنا كان لا بد من التأكيد على أن استعمال أي صفة أو لقب أو مهارة أو شخصية قيادية لا يتجاوز كونه أداة مطلوبة لدفع أعمال الدعوة إلى الأمام لا غير. متطلبات الدعوة إن الأعمال التي يقتضيها حمل الدعوة لديها مواصفات ومتطلبات وأهداف ترتبط بها، ولا بد من التعامل معها بجدية حتى يتم إنجازها وحتى تؤتي الثمار المتوخاة منها. والجدية هنا تقتضي النظر في كيفية إتمام العمل وتحقيق الهدف قبل مباشرته، وإلا كان العمل ارتجالياً وعابثاً. كما تقتضي الجدية إحسان اختيار أصحاب المهارات الأكثر كفاءة للقيام بالأعمال، إذ إن اكتساب صفة حامل الدعوة لا تعني صلاحه تلقائياً للقيام بكافة أنواع وأعباء الدعوة، بل يجب توخي تحميل العمل لمن يقوم به على وجهه، كما يجب الحرص على تأمين لوازم من يقوم بالعمل لضمان سيره بشكل صحيح وسلس. وفي حال عدم توفر القادر على القيام بالمطلوب يتم توجيه من يُظن به إمكان تحصيل تلك المهارات أثناء تلبسه بالعمل. وأما التلبس بعمل ما مع جهل بمتطلباته وكيفية تنفيذه وافتقاد آليات إتمامه فإنه يؤدي إلى عرقلة الأعمال المرجوة وتأخيرها وضياع الجهد والوقت وتفويت الفرص المتاحة لخدمة الدعوة بشكل صحيح ومؤثر. وإحسان اختيار من يجيد أداء المهمة المعينة من خلال ربط مهاراته وخبراته وعلومه بمواصفاتها ومتطلباتها أمانة ومسؤولية. خذ مثلاً اختيار طالوت ملكا على بني إسرائيل وربطه بما حباه إياه الله تعالى من بسطة في العلم والجسم، فالعلم والمعرفة عامل مهم في شخصية القائد إذ يضيء بصيرته ويجعله أكثر قدرة وجرأة ووعياً على اتخاذ القرارات المناسبة، وكمال الأجسام يظهر أثره في القدرة على تحمل المشقات وتجاوز الملمات، على عكس العاجز العليل، وهذه صفات مهمة بالنسبة للقائد سيما إذا تم اختياره لقيادة الناس في المعارك والحروب كحال طالوت عليه السلام. وهكذا هي مختلف أعمال الدعوة، فإن لديها متطلبات لا بد من البحث عن القادر على تلبيتها، ولا يكفي فيها مجرد التفاني والإخلاص. ف «المنصب» الإدراي مثلا يحتاج بطبيعة الحال إلى من لديه جلد على متابعة التفاصيل وضبط سير الأمور بحسب القوانين، و «المنصب» السياسي بحاجة إلى من لديه قدرة على قراءة مجريات الأحداث وربطها بمتطلبات الدعوة لاتخاذ القرارات وبناء الخطط المناسبة بحسب المستجدات، و «المنصب» الإعلامي بحاجة إلى من لديه قدرة على التواصل مع الناس للتأثير فيهم واستقطابهم وهكذا.
ترتيب الأولويات
إن حامل الدعوة يؤمن بأفكار يسعى لإيجادها في الحياة، وهو يعمل جاهداً ليوصلها للناس كي يؤيدوه في مساعيه لذلك. لهذا فإن مهمته ليس الصدع بالحق فقط إنما العمل على تجسيد هذا الحق في الواقع، لذلك يتوجب على حامل الدعوة ترتيب أولوياته وتحديدها بما يخدم أهدافه. وقد تختلف هذه الأولويات باختلاف ميدان الدعوة زماناً ومكاناً. فهو عندما يطرح أفكاره ومعالجاته فإنه يعرضها كخطوة على طريق تحقيق هدف ما، وليس بغض النظر عما يدور من حوله، وعليه أن يستوعب الحالة أو الواقع الذي يتعامل معه، فيدرس العوامل التي تؤثر فيه، والخطوات التي يجب أن يتبعها ليحقق ما يتوخاه. مثال ذلك، إن التصدي لأي محاولة من قبل النظام السوري لاحتواء الثورة، كالتعديلات الدستورية أو التفاوض مع المعارضة أو الانتخابات التشريعية، هو أمر يجب الاستمرار فيه لفضح النظام وبيان زيف ادعاءاته كجزء من عمل سياسي أشمل يهدف إلى إسقاط هذا النظام البشع في وقت تقف فيه سوريا على مفترق طرق. فيما قد لا يكون ثمة داع للتركيز على مسألة الانتخابات برمتها في بلد آخر لا تستهدف الدعوة إسقاط نظامه في المدى المنظور، إضافة إلى أن الدعوة فيه غضة طرية، وأن الاصطدام بالنظام الحاكم سيعرض حملة الدعوة إلى أذى شديد من غير هدف يستوجب ذلك حالاً، كما في تركمانستان مثلاً، حيث تقتضي الحكمة التركيز على بناء جسد الكتلة وكسب أنصار لأفكار الدعوة بهدوء وأناة، حيث إن بدء الدعوة في أي مكان جديد يتقصد ابتداء إيجاد الكتلة التي تقوم على أكتافها الدعوة فإذا ما وجدت هذه الكتلة وشبت عن الطوق سارت الدعوة في طريقها الطبيعي لإحداث التغيير الذي ينشده.
تفصيل الأهداف
إنّ إبقاء الغاية المنشودة (استئناف الحياة الإسلامية) وكذلك موجباتها وكيفية تحقيقها والتحديات التي تواجهها والمعوقات التي تعترضها جلية واضحة أمر ضروري، فوضوح الرؤية تمكن حامل الدعوة من السير بثبات على الطريق ومن التخطيط السليم ومن تبني أهداف عملية متعلقة بالواقع المستجد، إضافة إلى إسقاط المعالجات المطلوبة على الواقع المناسب. يؤهل هذا حامل الدعوة لمواءمة خطابه وتكييف وسائله وأساليبه بحسب احتياجات الدعوة ومتطلباتها، وبهذا يتجنب التقوقع والعزلة أو الانصراف إلى الترف الفكري البعيد عما يتطلبه تحقيق الغاية البعيدة والأهداف القريبة الموصلة إليها من خطط وأعمال. ويكون بالتالي في وسط الحلبة يصارع الخصوم والأعداء بما يتطلب الأمر لا بما اعتاد عليه. ومن هنا فإن على حامل الدعوة وضع أهداف محددة يسعى لإنجازها بحيث تصبح أعمال الدعوة مرتبطة بها، ويصبح معيار النجاح أو الفشل مدركاً من حيث الأثر المادي المرتبط بتحقيق تلك الأهداف. مثلاً إن طلب النصرة لإقامة الخلافة في بلد ما ابتداء يتطلب إيجاد رأي عام قوي لها في الأوساط السياسية والثقافية، بحيث تحظى الدعوة بتقدير واحترام وهيبة هذه الأوساط حتى ممن يخالفونها. وعليه يصبح إيجاد الثقل للرأي العام هدفاً بحد ذاته، بل ويصبح كل عمل موصل له هدفاً، كإبراز شخصيات قيادية لها احترام وهيبة بين الناس، وإيجاد مطبوعة (مجلة أو جريدة) محترمة تكسب ثقة الناس وتجتذب الوسط السياسي لمتابعتها والناس لتداولها وهكذا. وهذا يذكرنا بما لفتنا إليه النظر من قبل بوجوب اشتغال ذوي الشأن بوضع الخطط المتجددة التي تواكب الأحداث المتلاحقة، بحيث لا نتوقف عند فهم دوافعها والقوى المحركة لها، بل تحديد الأعمال التي يلزم القيام بها للاستفادة من هذه المناخات المفتوحة الجديدة. وتفصيل الأهداف يحول حامل الدعوة إلى النواحي العملية، إذ تفرض عليه أن يلتفت إلى أثر أعماله على الأرض، ويجب أن يتم هذا من خلال دوام ربط حملة الدعوة أعمالهم بأهداف تفصيلية واضحة العلاقة بالهدف الأعلى للدعوة المطروحة أي إقامة الخلافة لاستئناف الحياة الإسلامية. إن متابعة سيرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا المجال، تظهر لنا أنه كلما سد سبيل أمامه لإقامة الإسلام في كيان سياسي، كان يفتش عن مكان جديد لطلب النصرة فيه لحمايته وتمكين دعوته، فالمسألة لم تكن الدعوة لمجرد الدعوة، وإنما لإقامة الإسلام في واقع الحياة.
تقييم الأاء
يقوم العقل بعملية الربط والضبط والاستنتاج اللازمة بآليات ومعارف معينة متعلقة بطبيعة الواقع محل البحث، وأي إهمال لتحصيل أي من تلك الآليات والمعارف المرتبطة بمسؤولياتنا وتكاليفنا لا يصح ولا يليق، وعادة ما يكون الجهل بها أو الإخلال بالتزامها من عوامل الإخفاق بلا أدنى شك. لهذا كان إعمال الذهن في تقييم أعمال الدعوة بشكل مستمر أمراً ضرورياً لتحديد مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المتوخاة منها، سواء منها الأهداف العامة أم الأهداف التفصيلية. وكما يلزم حامل الدعوة دوام المراجعة لأفكاره وللواقع المراد تغيره والمناخ الدولي الذي يعيش فيه، يلزمه كذلك إجراء عملية التقييم لأي عمل من أعمال الدعوة من خلال الإجابة على أسئلة تمثل معايير متعلقة بالعمل، على نحو: هل كان العمل مناسباً وموصلاً بطبيعته لتحقيق الغاية المنشودة؟ وهل تحققت الغاية فعلاً بذلك العمل أم أضيفت أعمال أخرى أنجزته؟ وهل كان الوقت والجهد والموارد المرصودة له كافية لإنجازه؟ وهل تم تخطيط وتنظيم ومتابعة العمل بشكل صحيح يتناسب مع إنجازه على النحو المتصور له؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها يبلور واقع حال تلك الأعمال كما يساعد في تشخيص المشكلات وتحديد معوقات الأداء عند الإخفاق. كذلك يساعد في فهم مقدرات الأفراد وحاجياتهم لتطوير مهاراتهم ومستواهم للوفاء بالالتزامات المترتبة على مسؤولياتهم. أما في حال غياب التقييم أو عدم ضبطه بمعايير صحيحة فإن من شأنه التناقض بين أصحاب الفريق الواحد في العمل الواحد في الحكم على نجاح العمل أو فشله، سيما عندما يصبح التقدير فردياً ونسبياً ومزاجياً. وكثيراً ما نشاهد بسبب غياب عملية التقييم السليمة اعتبار عمل ما ناجحاً بل ومبهراً من قبل البعض، فيما يعتبره البعض الآخر قمة في البؤس والفشل، مما يؤدي إلى وجود حالة من البلبلة والفوضى والاحتقان والإحباط. إضافة إلى ما سبق، فإن غياب التقييم عادة ما ينتج خلطاً بالمفاهيم، إذ قد يعزو البعض عند الإخفاق المتكرر بأن تحقيق الهدف المقصود مستحيل، رغم أن واقع الأمر هو إما أن العمل المرتبط به لم ينجز بشكله الصحيح، أو أنه أصلاً لم يكن مناسباً لتحقيقه! ولا يمكن إدراك هذا كله إلا من خلال عملية تقييم منهجية تتعلق بالهدف وبتفاصيل العمل الموصل له.
خلاصة
ما من جدال حول أن مقصود حمل الدعوة هو نشر وتجسيد ما تشتمل عليه من مفاهيم ورؤى بهدف إقامة دولة الإسلام ابتغاء مرضاة الله تعالى وطمعاً بالفوز بالجنة والنجاة من النار. لذلك كان التركيز على بلورة ما تتضمنه الدعوة من أفكار هو الأصل، وأي عبث أو إهمال في ذلك يؤدي إلى هشاشة في الطرح وإلى اضطراب في المسير وإلى عدم إمكانية توجيه الأمة أو أخذ قيادتها بشكل صحيح. بعد التأكيد على هذه الحقيقة يجب أن نتنبه إلى حقيقة أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي أن تأثير أي فكر في الواقع لا يتعلق فقط بمقدار صحته وصدق أصحابه فقط، وإنما بقدرته أيضاً على إقناع الآخرين بحاجتهم إليه، ويكون ذلك من خلال عرضه على نحو يعالج مشاكل يلمسونها ويلتمسون لها حلولاً. من جهة أخرى، فإن تأثير هذه المعالجات يأتي من خلال القوالب التي يتم عرضها من خلالها، أي من خلال الوسائل والأساليب القادرة على جذب انتباه الآخرين لأهمية هذه المعالجات. فبغض النظر عما يمثل الفكر من أهمية لصاحبه، فإن عدم قناعة الناس بحاجتهم إليه يجعله عديم التأثير فيهم، أنظر مثلاً إلى هشاشة تأثير ما يسمى بعلم «العقيدة» أو «التوحيد» (علم الكلام) في عامة المسلمين، رغم أهميته المصيرية لدى أصحابه.لذلك كله يفترض بمن يتوسل العمل على استئناف الحياة الإسلامية أن يتلمس ذلك من خلال منهج منضبط بالشرع، وأن يتعامل مع الوقائع بمقتضى تنزيل ذلك المنهج على الأحداث بما من شأنه قيادة الناس قولاً وفعلاً لتحقيق أهدافه. (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين)