دور العلماء في التغيير: تبيان الحق ومواقف الصدق
عصام عميرة – بيت المقدس
العلماء هم ورثة الأنبياء وحماة الدين الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وشأنهم شأن عظيم، ودورهم في الأمة دور كبير. وهم صمام الأمان لدين الأمة الإسلامية وعقيدتها واستقامة أمرها وصلاح حكامها. ذلك أن العلماء هم أعلم الناس بشؤون العقيدة، وأفقه الناس بأمور الفقه والفتاوى، وأقدر الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهم يهتمون بنشر العقيدة الصحيحة بين الناس، ويعلمونهم أمور دينهم، ويفتونهم بما يقيم سلوكهم على المنهج الحق، وهم الذين ينبغي أن يكونوا رأس حربة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخصوصاً مع الحكام والأمراء ومن بيدهم مقاليد أمور الناس. والمفروض أن يكونوا أعمق الناس وعياً على مجريات الأمور، وأكثرهم إدراكاً لعقيدة الرزق والأجل والنفع والضر.
إن العلماء هم القادة في المجتمع، ولهم احترامهم المتميز بين الناس، ولو واكبوا الانتفاضات والثورات ضمن إطار ما يعرف بالربيع العربي حق المواكبة في أقوالهم وفتاواهم لكانت الحال اليوم مختلفة تماماً. ولأن كلمة العالم تؤثر في الكثيرين، فلو وقف العلماء وقالوا بحرمة تقسيم بلاد المسلمين، وحرمة الحكم بغير ما أنزل الله، وعدم شرعية الحكام، ووجوب وقوف المسلمين جميعاً مع المسلمين الثائرين المنتفضين على حكام الملك الجبري، وفرْضية إقامة الخلافة، وغير ذلك من الفتاوى الساخنة التي تثير الأمة الإسلامية، وتتناسب مع قاعدة وجوب البيان عند وقت الحاجة، لسار المسلمون في ثوراتهم وانتفاضاتهم نحو تحقيق أهداف شرعية واضحة ومحددة ليس أقلها خلع الحكام الظلمة وتنصيب خليفة.
ولكن بعد أن تقاعس كثير من العلماء عن أداء دورهم في هذه الثورات والانتفاضات، وانعقدت ألسنة كثير منهم عن قول كلمة الحق، بل إن بعضهم –مع الأسف الشديد– قد انحاز لجانب الحكام المجرمين ضد الثائرين والمنتفضين، مما فتَّ في أعضاد الناس، وأقعد كثيراً منهم عن العمل الجاد الهادف للتغيير. وبعد هذا الموقف المشين من العلماء، كشفهم الله أمام الناس وفضحهم، وأفقدهم ما كان قد تبقى للأمة من ثقة في كثير منهم وبخاصة البارزين. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: هل بطش الحكام مبرر لهؤلاء العلماء في خمولهم وركونهم؟ والجواب: إن المسألة خلاف ذلك تماماً، فهذا الكلام قد يصدق على الجاهل، أما على العالم فلا، كونه يعرف أهمية قول الحق والجرأة فيه، ويعرف عقيدة الرزق والأجل والنفع والضر، وعقيدة التوكُّل على الله، وعقيدة النصر بيد الله. فقوة العلم عندهم ينبغي أن تكون حافزاً قوياً لهم لقول الحق، ولا يصح مساواة العلماء بالسوقة! بل إن المعادلة مقلوبة، حيث لاحظنا أن العامة قد انتفضوا على الحكام وثاروا عليهم، وواجهوا آلة بطش الحكام بصدورهم العارية، وأما العلماء فتخلفوا عن الركب، ويا ليتهم كانوا في مؤخرته!
هذا وإن الأمة الإسلامية تمر اليوم في مرحلة صعبة، وهي بحاجة أكثر ما تكون إلى العلماء كي ترشّد هذه الانتفاضات وتوجهها بالإسلام، ولتكون مطالبها وأهدافها إسلامية بحتة، فتطالب بالحكم بما أنزل الله (القرآن والسنة)، وترفض ما سواهما، وتنادي بتوحيد صفوفها وجيوشها وقضاياها المصيرية وغير ذلك مما يطلبه الإسلام من المسلمين. فلماذا هذا الحيود والجنوح عن طريق المطالبة بالإسلام وتطبيقه؟ ولكننا لم نكد نلحظ أجواء الإسلام في ثوراتها وانتفاضاتها، وهي أمة الإسلام! بل رأيناها تطالب بتطبيق أنظمة الكفر عليها، وترفع شعارات الكفر في هتافاتها، وتحمل رايات الكفر في أيديها. صحيح أنها تعرضت منذ أكثر من قرن من الزمان لعاصفة هوجاء، وهجمة شرسة من الكفار ثقافياً وفكرياً وعسكرياً وما شاكل ذلك من أعمال التخريب والكبت والتضليل، وهو شيء طبيعي أن تتعرض لمثله أمة الإسلام. ولكن ليس من الطبيعي أن يتخلى عنها علماؤها في هذا الظرف العصيب. فهم المسؤولون عن كل ما يحصل لأمة الإسلام، وقد تسبب غيابهم عنها ردحاً طويلاً من الزمن في عدم نهضتها ودوام انحدارها، كونهم لم يقوموا بدورهم في توعية الناس التوعية المضادة لهذه الهجمة الشرسة على الأمة الإسلامية، ولم يعملوا جادين لوقف انحدارها، بل إن بعضهم كان معول هدم يضربها مع أعدائها! فنشأت أجيال لا تعرف كثيراً عن الإسلام، ولم تتخذ الإسلام منطلقاً لحركتها، فسهَّل العلماء بسكوتهم ومجاراة الحكام الظلمة ما لم يكن سهلاً أبداً على الحكام فعله عبر عقود طويلة. فكانت النتيجة أن اختطفت الثورات، وتاهت الانتفاضات في بحور الجهل وقلة الفقه، وضعف الوعي السياسي. ويحسن الاستشهاد هنا بما كتبه أبو حازم الأعرج رحمه الله إلى الزهري رحمه الله بعد أن علم قربه من السلطان، وأي سلطان؟ سلطان المسلمين الذي يحكم بشرع الله، وليس يشبه سلاطين اليوم في شيء، فقال له: “عافانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله عليك بما أصح من بدنك وأطال من عمرك، وعلمت حُجج الله مما حمّلك من كتابه وفقَّهك فيه من دينه وفهَّمك من سنة نبيه e فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك، وقد قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7))، انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمة الله عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبَّن الله راضياً منك بالتعذير، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) إنك تقول إنك جدل ماهر عالم قد جادلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالاً منك بفهمك، واقتداراً منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله عز وجل (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؟! اعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دُعيت، فما أخلقك أن ينوه باسمك غداً مع الجَرَمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظَلَمة. إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقاً، ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك. جعلوك قطباً تدور رحى باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلماً إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك بكثير ما أخذوا منك. فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس مبجَّلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته مستتراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً. ما لك لا تَتنَبَّهُ من نعستك، وتستقيلُ من عثرتك، فتقول: والله ما قمت لله عز وجل مقاماً واحداً أحيي له فيه ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً. أين شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه؟ ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله فيهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى)، إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده. إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، وليس أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، احذر فقد أوتيت، وتخلص فقد أُدهيت. إنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهز فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قول الله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)). أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ادخر لك خيراً منعوه، أو علمك علماً جهلوه؟ بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلوا، وإن حرَّمت حرموا، وليس ذلك عندك ولكن إكبابهم عليك، ورغبتهم فيما في يديك ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، وابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره. فالله لنا ولك ولهم المستعان. واعلم أن الجاه جاهان، جاه يجريه الله على يدي أوليائه لأوليائه الخامل ذكرهم الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة” حلية الأولياء، فهؤلاء أولياء الله الذين قال فيهم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22))، وجاه يجريه الله على يدي أعدائه لأوليائه وَمِقة يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس بتعظيم أوشك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19))، وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتوراً عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفةً عنه الفتن في عنفوان شبابه وظهور جلده وكمال شهوته، فعني بذلك دهره، حتى إذا كبر سنُّه ورقَّ عظمه وضعفت قوته وانقطعت شهوته ولذته فتحت عليه الدنيا شر فتوح، فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر، فهلَّا إذا عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد: “أما بعد فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا”. فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك فمن يلوم الحدث في سنِّه الجاهل في علمه المأفون في رأيه المدخول في عقله (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)(! على من المعول؟ وعند من المستعتب؟ نحتسب عند الله مصيبتنا وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام”.
وقال الشيخ ابن عثيمين: العلماء ثلاثة أقسام:
-
عالم الملة: وهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي بما دل عليه الشرع، أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.
-
عالم الدولة: وهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
-
عالم الأمة: وهو الذي ينظر ماذا يرضي الناس، إذا رأى الناس على شيء أفتى بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس.
نسأل الله أن يجعلنا من علماء الملة العاملين بها.
وقال الدكتور حسام الدين عفانة: فالحذر كل الحذر من المشايخ الذين يدافعون عن الطغاة والطغيان ويدافعون عن الظلمة والظلم، وبعضهم أصدر الفتاوى مساندةً لقتل الشعوب، فهؤلاء هم علماء الدولة كما قال العلامة العثيمين.
وجاء في البيان رقم (15) لهيئة النصيحة والإصلاح، بتاريخ 5/12/1415هـ، موافق 6/5/1995م، وهو بعنوان: العلماء ورثة الأنبياء بتصرف:
ونظراً لمكانة العلماء ومنزلتهم في الإسلام، وأهمية الدور وعظم المهمة المكلفين بها، ووعياً بخطورة الخلط في هذا المقام بين العلماء العاملين المرابطين على ثغور هذا الدين ممن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وبين المنتسبين إلى العلم من الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وضرورة التفريق بين الطائفتين، نقول: إن مما هو معلوم أن العلم الشرعي هو ميراث النبوة، وأن حملته العلماء هم ورثة الأنبياء، وبذلك نالوا ما نالوا من الفضل الذي وصفهم به الله ورسوله، فقد رفعهم الله درجات عظيمة على من سواهم، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وثلث بشهادتهم بعد شهادته هو وملائكته على وحدانيته فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)( ونفى أن يستووا مع غيرهم فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الْأَلْبَابِ (9)). وأثنى عليهم الرسول e، فقال في وصفهم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر» (رواه أبو داود والترمذي والدارقطني)، وقال صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (رواه الترمذي) وهذه المكانة التي أعطاها الله ورسوله للعلماء عرفها سلف الأمة لهم، فقال الأوزاعي رحمه الله: “الناس عندنا أهل العلم ومن سواهم فلا شيء”، وقال سفيان الثوري رحمه الله: “لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة”.
وكل النصوص التي تتحدث عن العلماء وفضلهم، ومكانتهم ومنزلتهم، وتحذر من النيل منهم، تقصد فئة العلماء العاملين الناهضين بأعباء ميراث النبوة، الموفين بمقتضى الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالجهر بالحق وبيانه، والصدع به وعدم كتمانه، فالعلماء بالمعنى الشرعي، كما قال الإمام الشافعي: “هم العلماء العاملون”. وبقدر ما رفع الله من شأن هؤلاء حطَّ وخفض من منزلة غيرهم من علماء السوء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وقصَّ علينا في القرآن من شأن هؤلاء ما فيه عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فذكر في سورة الأعراف مثلاً لهؤلاء هو ذلك العالم الذي آتاه الله آياته وعلمه اسمه الأعظم -كما يقول المفسرون- لكنه لم يقم بحق العلم، بل أخلد إلى الأرض واتبع هواه وانغمس في شهواته، وبدلاً من أن يرشد قومه إلى سبل الخير دلهم على سبل الشر، فاستحق ما وصفه الله به في نهاية الآيات (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)). يقول القرطبي: “الآية عامة في كل من تعلم القرآن ولم يعمل به، وألا يغتر أحد بعلمه ولا بعمله”. وضرب الله مثلاً آخر بعلماء اليهود الذين لم يعملوا بمقتضى العلم الذي حملوه، فقال في شأنهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5))، وقال في شأن علماء أهل الكتاب الذين استخدموا علمهم لأغراض دنيوية (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79))، وقال فيهم أيضاً: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). وصدهم هذا يكون بعدم عملهم بعلمهم، وبتحريفهم لآيات الله واشترائهم بها ثمناً قليلاً. ولدينا في الماضي القريب والحاضر المشاهد أمثلة حية منها:
عندما تبنى الهالك جمال عبد الناصر الملة الاشتراكية، وألزم الناس بها بقوة الحديد والنار، وبدلاً من أن يقف الأزهر وعلماؤه -المعروفة مواقفهم التاريخية لنصرة الإسلام والدفاع عنه -في وجه هذا الطاغية، قام شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت بالترويج لهذا المذهب الهدام، والدعاية له باسم الإسلام من خلال برنامجه الإذاعي اليومي “الاشتراكية والحياة”، فضلّ بسبب ذلك كثير من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
-
عندما قرر نفس الطاغية إعدام نخبة من خيرة رجال مصر ودعاتها سنة 1954م وهم عبد القادر عودة وإخوانه استصدر فتوى من الأزهر بذلك، فجاءته جاهزة تقول: إن هؤلاء كفار لا تقبل توبتهم! وقد جاء الطاغية عبد الناصر بهذا المفتي بعد أن رفض الشيخ محمد خضر حسين أن يفتيه بتلك الفتوى.
-
عندما قرر السادات الهالك إبرام اتفاقية كمب ديفد مع كيان يهود استصدر من شيخ الأزهر فتوى تبيح له ذلك المنكر الفظيع.
إن هذه الفئة من علماء السوء هي التي شجعت أهل الباطل على باطلهم، وخذلت أهل الحق عن حقهم، وطعنت في دين الله، وميَّعت عقيدة التوحيد والولاء والبراء، وعملت على انتشار مذاهب الضلال وعقائد الإلحاد، كل ذلك مقابل ثمن بخس دراهم معدودة باع بها هؤلاء دنياهم وآخرتهم بدنيا غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد صدق سيِّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال: (قصم ظهري رجلان: عالم متهتِّك، وجاهل متنسِّك). ويقول أبو حامد الغزالي واصفاً حال علماء عصره بعد أن ذكر من مواقف علماء السلف وتضحيتهم في سبيل الحق وعدم اكتراثهم ببأس السلاطين: “وأما الآن فقد قيَّدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم، فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا فلم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال” إحياء علوم الدين ج7/92. أ.هـ
وبعد هذا البيان الشرعي لموقف العلماء المتخاذلين عن نصرة دينهم وأمتهم، كان لا بد من خطاب العلماء بخطاب مؤثر، يحيي فيهم الغيرة على الإسلام، ويذكي فيهم روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعيدهم إلى موقعهم الطبيعي في قيادة الناس، واسترداد الثقة بهم، خصوصاً والأمة الإسلامية تشهد تحولات تاريخية، وتجتاز منعطفاً هاماً في مسيرتها النهضوية، لتتجه بقوة أكبر نحو إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. وذلك بلفت نظرهم إلى أهمية دورهم بين الناس، وضرورة تفعيل وجودهم بين ظهرانيهم، كي تنهض أمتنا الكريمة من كبوتها التي طالت. ونريد أن نرى ساحات التغيير وميادين التحرير ومناطق تجمع الناس كلها تعج بالعلماء الذين يقودون حركة الناس نحو التغيير الواعي بالفقه الصحيح والفكر المستنير، فنرى مئات الآلاف يهتفون بأحكام النظام السياسي الإسلامي وبالخلافة، ومئات آلاف أخرى تهتف بأحكام النظام الاقتصادي الإسلامي، ومئات آلاف غيرهم يهتفون بأحكام النظام الاجتماعي الإسلامي، مع سائر مفاهيم الحكم والسياسة والاستخلاف. فتموج الأمة موجاً مع أفكار الإسلام وأحكامه، لتنتقل الأمة بعد ذلك سريعاً من عهد الملك الجبرية إلى عهد الخلافة الثانية الراشدة على منهاج النبوة انتقالاً واعياً يتلاءم مع مصطلحات الاستخلاف والتمكين والأمن المذكورة في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)).
ومما لا شك فيه أن اتّباع العلماء فيما يبينون من حق ويدعون إليه من خير، هو واجب على المسلمين، يقول تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وقد سبق أن بينا أن طاعة الله ورسوله تقتضي طاعة العلماء لأنهم ورثة الأنبياء، وطاعة أولي الأمر يدخل فيها طاعة العلماء أيضاً؛ لأن المفسرين فسروا أولي الأمر بأنهم العلماء أو العلماء والأمراء، قال تبارك وتعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)). هذا وإن طاعة العلماء واتباعهم مربوطة بقدر التزامهم بالحق ودفاعهم عنه. وتكون البراءة منهم والعداوة لهم بقدر ميلهم عن الحق ومجانبتهم إياه، فذلك هو الميزان الشرعي الصحيح الذي دلت عليه النصوص الشرعية، وتواتر به عمل الصالحين من سلف هذه الأمة، والولاء المطلق لهم فيما هم عليه من الحق والباطل هو إخلال بمقتضى الإيمان الذي أوثق عراه الحب في الله والبغض فيه. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: “باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد أتخذهم أرباباً”. اهـ- فإذا قام العلماء بحق الله عليهم فيما آتاهم من علم، كان لهم التقدير والاحترام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه» (رواه أحمد والحاكم). وجماع ذلك في النقاط الآتية:
-
أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله، والله تبارك وتعالى يقول: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)).
-
أن يتثبت العالم في الفتوى ويكمل شروطها، فإذا طلبت منه فتوى في موضوع ما فعليه التأمل والتأني ومعرفة قصد المستفتي والآثار المترتبة على تلك الفتوى، ثم يفتي بعد توفر شروط الفتوى من فقه الشرع وفهم الواقع.
-
أن يحذر العالم من الاستدراج والاستغلال والتدليس عليه خاصة من قبل حكام الظلم وسلاطين الفساد الذين بارزوا الله بالحرب والعدوان.
-
أن يكون جريئاً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، فعليه أن يقول للمسيء أسأت كائناً من كان.
-
أن يبتعد عن مواقف الريب وخاصة أبواب السلاطين، فقد قال e في التحذير من السلاطين: «ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً» (رواه أحمد في المسند، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح). وقال حذيفة رضي الله عنه: “إذا رأيتم العالم بباب السلطان فاتهموا دينه، فإنهم لا يأخذون من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينهم ضعفه”.
-
أن يكون العالم داخل التغطية الشرعية دوماً، وهذا يعنى أن يكون التصاقة بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وثيقاً، بحيث لا يصدر عنه شيء يخالفهما أو يخالف ما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس شرعي بعلة شرعية.
-
وأخيراً وليس آخراً، يجب على العلماء أن يكونوا من العاملين لإعزاز هذا الدين، بإقامة دولة خلافة المسلمين الراشدة الثانية على منهاج النبوة، والقائمة قريباً بإذن الله.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148))، (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)(.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
خطبة جمعة مناسبة للموضوع الجمعة 2/7/1432 هـ الموافق 3/6/2011م
من البلوطي إلى البوطي
(الخطبة الأولى)
أيها الناس: جاء في كتاب “الجواب الكــافي لمن سأل عن الدواء الشافي” للإمــام ابن قيّــم الجوزيّة: “وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رُبَّ مهينٍ لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومذلٍّ لنفسه وهو يزعم أنه لها معز، ومصغِّرٍ لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبِّر، ومضيِّعٍ لنفسه وهو يزعم أنه مراعٍ لحقها، وكفى بالمرء جهلاً أن يكون مع عدوه على نفسه، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه، والله المستعان”. ثم يقول: “فإذا نسي العبد نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها”، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)). فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم، كما قال تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين، إحداهما أنه سبحانه نسيه، والثانية أنه أنساه نفسه، فالهلاك أدنى اليه من اليد للفم. ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم حقيقة وضيَّعوها، وأضاعوا حظَّها من الله، وباعوها رخيصة بثمن بخس بيع الغَبن، وإنما يظهر لهم هذا عند الموت، ويظهر كل الظهور يوم التغابن، يوم يظهر للعبد أنه غُبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار، والتجارة التى أتجر فيها لمعاده. فباعوا وأشتروا وأتجروا، وباعوا آجلاً بعاجل، ونسيئة بنقد، وغائباً بناجز، وقالوا هذا هو الزهرة…. فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين… وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”…
أيها الناس: يصدق كلام ابن القيم على العامة والخاصة، وعلى الجهلاء والعلماء، وعلى الحكام والسوقة، وعلى الأغنياء والفقراء، فما من شريحة من شرائح الخلق إلا ويصدق عليها هذا القول. وإننا من هذا المنبر نرسل قول الإمام ابن القيم إلى علماء زماننا بعامة، وعلماء سوريا بخاصة، نصيحة لهم وتحذيراً وإنذاراً، حتى لا يهينوا أنفسهم ولا يذلوها، ولا يصغِّروها ولا يضيِّعوها، فهو قول مناسب وقته، قليل حجمه، كبير معناه وأجره، مغمور مصدره، مشهور مورده، بسيط فهمه، صعب تطبيقه. فلا تتكبروا عليه، وإن جاءكم من تلميذ تربَّى على موائد علمكم، ومتكلم عز عليه صمتُكم، وعامل ساءه تقاعسُكم، وخطيب يتضاءل أمام جهبذياتكم. ولكنه أبى إلا أن يسديها لكم نصيحة من القلب مخلصة، في زمن كثر ناصحوه وقل منتصحوه. إن أخذتم بها أجرتم وأنقذتم أمتكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم. وإن أهملتموها فالله حسيبكم، والنار تنتظركم لتكونوا أول من تسعر بكم.
يا علماء سوريا: ألم يأتكم نبأ المتظاهرين المنتفضين الثائرين على حكم طاغية الشام بشار ليلاً ونهاراً؟ ألم يبلغكم أن جلاوزة الطاغية قد قتلوا الآلاف منهم وجرحوا، وهدموا المنازل وأحرقوا الممتلكات، واعتقلوا وعذبوا سراً وجهاراً؟ ألم يأتكم نبأ محمد الخطيب، ذلك الطفل الذي بلغ الحلم لتوه، فقطعوا إحليله، ومزقوا بالرصاص جسده، وتركوه ينزف حتى الموت ليكون أصغر شهيد من شهداء الكلمة في التاريخ، بل مع سيد الشهداء، ولنعم دار المتقين. ألم تسمعوا وتشاهدوا أعمال الاحتجاج على هذا المجرم ونظامه في الداخل والخارج؟
يا علماء سوريا، يا خطباء المنابر، يا فرسان الجمعات في مساجد الشام، ألم تسمعوا في كل جمعة عن جمعة للشعب، وجمعة للتحرير، وأخرى للرحيل، وغيرها كثير؟ ماذا قلتم في جمعة الغضب؟ وما هو موقفكم من جمعة الحرائر؟ وماذا أنتم قائلون اليوم في جمعة أطفال الحرية؟ أم تراكم لها منكرون؟ وتجعلون رزقكم أنكم تسكتون؟ وماذا يملك العالِم غير لسانه؟ فإن حبسه بين فكيه قتله، والنار أورده، وإن حرَّكه بالباطل قتل الناس ونفسه، وإن أطلقه بالحق كان أمضى من الحسام المهند على الباطل وأهله. فلماذا التمسك بهذا النظام الإجرامي الكافر المهترئ الذي شارف على نهايته وأنتم تنظرون، وساكنا لا تحركون؟!.
يا علماء سوريا: إن الله قد أخذ عليكم ميثاقاً غليظاً لتبينن العلم للناس ولا تكتمونه، وأنتم ورثة الأنبياء، ولكم فيمن سبقكم من العلماء أسوة، وفي إمام المسجد العمري بدرعا نموذج حي أمام أعينكم. فاليوم هو يومكم، فأروا الله منكم ما يحب، وأروا بشاراً وجلاوزته ما يكرهون. ولستم بحاجة إلى من يعلمكم ما تقولون، فأيديكم في العلم عليا، وألسنتكم في التعبير عنه طولى. وأما إذا أشكل الأمر، وأرتج عليكم القول، فإليكم نفحتان من نفحات العلماء التي عبقت بها الأجواء يوم أن مروا بظروف تشبه ظروفكم، وأحوال أقل سوءاً من أحوال أمتكم. فهذا العز بن عبد السلام، سلطان العلماء، يواجه سلطان الديار المصرية في يوم العيد بموكبه العظيم وشرطته وحاشيته، والأمراء يقبلون الأرض بين يديه، فناداه قائلاً: “يا أيوب! ما حجتك عند الله إذا قال الله لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، تبيح الخمور؟ فقال: أويحدث هذا؟! فقال: نعم، في مكان كذا وكذا حانةٌ يباع فيها الخمر. فقال السلطان: يا سيدي، هذا من عهد أبي. فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟! فأصدر السلطان أمراً بإبطال الحانة، ومنع بيع الخمور، وانتشر الخبر بين الناس، ورجع العز إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه يقال له الباجي، فسأله: يا سيدي، كيف الحال؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه. فقال: يا سيدي، أما خفته؟ فقال: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط”.
(الخطبة الثانية)
أيها الناس: بعد هذه الرسالة العامة إلى العلماء في سوريا وغيرها، هذه واحدة إليك يا محمد بن سعيد البوطي خاصة، يا خادم حافظ وبشار، من المنذر بن سعيد البلوطي، سلطان الأندلس ومعلّم الملوك وراية الحق. عاش في زمن عبد الرحمن الناصر الذي كان مولعاً بالعمارة وإقامة المعالم وتشييد الدور، وهو الذي بنى مدينة الزهراء، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، حتى أشغله ذلك عن صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع متوالية، فأراد المنذر أن يعظ الخليفة، ويكسر من غروره، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله. فلما كان يوم الجمعة، وحضر الخليفة، صعد المنذر المنبر، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)). وأتى بما يشاكل هذا المعنى من التخويف بالموت وفجاءته، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة وأسهب في ذلك، وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية والأحاديث وآثار السلف وأقوال الحكماء والشعراء وغير ذلك، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه، وضجوا بالبكاء، وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير. إلا أنه وجد في نفسه على المنذر، وشكا إلى ولده الحكم ما لقيه من والده الشيخ، وقال: “والله لقد تعمدني بالكلام، وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي”، وأقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى. فرحم الله أولئك العلماء العاملين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، رحمهم الله، لم يخافوا في الله لومة لائم أو جبروت حاكم. إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم، فشمروا لحملها، وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم، فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون، ونصحوا للأمة حق النصح، فلا عدمت الأمة أمثالهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يا علماء المسلمين: إذا لم تتحركوا الآن والأمة في هبتها، وذروة انتفاضتها على الطواغيت من حكامها، فمتى سيكون تحرككم لنصرتها؟ واعلموا أن الأمة ستتدبر أمرها مع حكامها وأعدائها وتقيم خلافتها، سواء عليكم أتحركتم لنصرتها أم لم تتحركوا، وبعد ذلك ستتدبر أمرها معكم، ولات ساعة مندم.