الدولة الخفية وواقعها في تركيا
2001/03/11م
المقالات
2,566 زيارة
1ـ مقدمة:
إن القرارات السياسية والاستراتيجية في تركيا لا تصدر عن المصادر المعنية بالأمر ولكن تصدر من جهات أخرى وتصادق عليها الجهات المعنية. فلا البرلمان ولا الحكومة ولا حتى رئيس الدولة أو مجلس الأمن القومي هم الذين يحددون القرارات. لقد أصبحت هذه حقيقة لا يمكن إنكارها وكثيرا ما يستخدم الإعلام تعابير مثل القوى الخفية والقوى المتحكِّمةِ للتعبير عنها.
إنه يمكن القول بأن هذه القوى تتحكم حتى في الجيش، فأية مؤسسة في الدولة تقوم بعمل غير مرغوب فيه تنالها الفضيحة أو التهديد وربما تُبعد عن الساحة بطريق الانقلاب أو بجناية فاعلها مجهول.
من هي هذه القوى الخفية:
بعد سنوات عِدة من المراقبة لإجراءات هذه القوى والبحث في المراجع عن واقعها وصلنا إلى قناعة بأن هذه القوى هي من الدونما.
إننا إذا أردنا أن نسرد جميع الأدلة على هذه الحقيقة فان ذلك سيحتاج إلى كتاب، ولهذا سنكتفي بجلب الانتباه إلى بعض النقاط التي أوصلتنا إلى هذه القناعة دون الدخول في التفاصيل.
2ـ نبذة عن تاريخ الدونما:
يُطلق تعبير الدونما على الزنادقة الذين هم يهود في أصلهم ولكنهم تظاهروا بالإسلام واستخدموا أسماءً إسلامية وتركية وعدّوا أنفسهم أتراكاً، ويُطلق على هؤلاء اسم “السباطيون” نسبة إلى اليهودي “ساباطاي سيفي”.
في سنة 1492م عندما هاجر اليهود من الأندلس توجهوا إلى الدولة العثمانية التي سمحت لهم بالاستيطان في مناطق معينة مثل “سيلانيك، إسطانبول، إدرنة، بورصة وإزمير”. ونظراً لأن هؤلاء يتقنون اللغات الأوروبية وكونهم ذوي معرفة في مجال الطب استطاعوا أن يتسللوا إلى القصور بصورة كَتَبَة أو مترجمين أو أطباء، وأصبح بعضهم وزراء ومقربين من الخليفة، وأصبحوا أغنياء، وعاشوا في ظل الدولة العثمانية حياةً مطمئنة مدة 400 عام، إلا أنهم كعادتهم لم يُقصّروا في خيانة الدولة العثمانية واستغلال نقاط الضعف في هذه الدولة، إذ لعبوا دوراً مهما في هدمها.
أما “ساباطاي سيفي” فقد ولد في 1626م في “إزمير”، وعائلته يهودية جاءت من إسبانيا إلى رومانيا ومنها إلى إزمير. تلقى هذا تعليمه على يد حاخامات اليهود، وفي 31ـ5ـ1665م أعلن مسيحيته فاعتقل في سنة 1666م ومثَل في القصر أمام القاضي وبحضور الصدر الأعظم، ولخوفه من الموت قبِل الإسلام تلقينا من رئيس الأطباء في القصر “مصطفى أفندي” وهو يهودي الأصل، وبعدها أصبح يُعرف بـ “محمد أفندي”. في سنة 1676م توفي في ألبانيا بعد أن كان قد نشر مذهبه بصورة سرية وكسب لجانبه أكثر من 200 عائلة بدلت دينها مثله. انهم تظاهروا بالإسلام ولكنهم بقوا على يهوديتهم سراً. إنهم الـ”دونما” والدونما تعني التحول أو الردّة.
بعد ذلك انقسم الدونما إلى ثلاثة أقسام هي:
1ـ القبّانيون 2ـ الكاراكاشيون 3ـ اليعقوبيون.
ويوجد هؤلاء بكثرة في “سيلانيك، إزمير، إسطانبول و إدِرنة”. في عام 1900م كان عدد سكان سيلانيك 150 ألفاً، منهم 60 ألف يهودي و20 ألفاً من الدونما، واليوم في تركيا 200 ألفٍ من الدونما تقريباً و100 ألف ـ 300 ألف يهودي.
قد لعبت سيلانيك دوراً مهما في هدم الخلافة العثمانية وتأسيس الدولة التركية العلمانية. لقد عمل الاتحاد والترقي وجون تُرك (حزب تركيا الفتاة) والمحافل الماسونية معاً لهدم الدولة العثمانية، حتى إن الجيش الذي أنزل عبد الحميد عن العرش جاء من سيلانيك. إن مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال نفسه لعنه الله من الدونما، ولد في سيلانيك ودرس في مدرسة شمسي أفندي التي هي للدونما، فمعظم قواد جون تُرك وقسم كبير من الاتحاد والترقي من الدونما كذلك.
تحالف الإنجليز واليهود والدونما في إسقاط الدولة العثمانية:
l كانت الدولة العثمانية تشكل عائقاً أمام أطماع المستعمرين الإنجليز، وتمنع اليهود من تأسيس دولة لهم في فلسطين، وهذا أدى إلى تحالف بين اليهود والإنجليز وتجمُّع يهود الدونما حول الإنجليز، وكان نتيجة هذا التحالف أن هُدمت الخلافة وتأسست الجمهورية العلمانية.
l بعد هدم الخلافة وتأسيس الجمهورية التركية تم التوقيع على معاهدة “لوزان” في سنة 1924م، وفيها عُين لتركيا حدودها الجغرافية وإطار سياسي معين. وطالما بقيت تركيا في هذا الإطار فقد خدمت الإنجليز وحافظت على مصالحهم، وجُعل بقاء تركيا ضمن هذا الإطار شرطاً في تركها وحالها، أي أن القوة بقيت بيد الدونما.
l استطاع يهود الدونما منذ أيام ساباطاي سيفي أن ينفذوا إلى كثير من الجماعات الإسلامية كالبكطاشيين والمولويين والملائميين والحلواتيين وحتى الطريقة النقشبندية في كثير من المناطق مثل البلقان وإدرنة وإسطانبول وإزمير، وأثروا في كثير من سلوكيات هذه الجماعات مثل إطفاء الشمع عند البكطاشيين، وغيرها الكثير من البدع في المعتقدات والعادات عند المولويين.
بعد تأسيس الجمهورية العلمانية مُنعت معظم الطرق الصوفية ما عدا ثلاثاً (البكطاشيين والمولويين وقسم من الطريقة النقشبندية). وكذلك بعض مشايخ بعض هذه الجماعات الصوفية لم يمسهم أذى. وبهذا استطاع الدونمة التغلغل في المجتمع دون أن يشعر بهم أحد.
l منذ تأسيس الجمهورية التركية العلمانية كان شعب الأناضول من مسنين ونساء ومعاقين يشكلون غالبية في المجتمع نظراً للحروب التي حدثت في نهاية العهد العثماني وما يسمى بحرب الاستقلال، إذ قتل فيها الكثير من الشباب والعسكريين والعلماء، ففي حرب ال “دردنيل” و”انافاطارلار” تحت قيادة مصطفى كمال قتل تقريبا 500 ألف شاب من الأناضول. وبعد ذلك قامت الجمهورية بزعامة مصطفى كمال بكثير من المجازر ناهيك عن الحرب الشاملة التي شنوها ضد الإسلام، وهناك الكثير من الثورات التي قامت ضد المؤسسات والمفاهيم الإسلامية التي كان منها ثورة الحرف (اللغة) التي أضحى بها كل الشعب أُمياً لا يعرف القراءة والكتابة في ليلة واحدة، فأصبحت الساحة فارغة أمام اليهود والدونما الذين يعرفون الحروف الأجنبية لبث سمومهم، فأُجبر الناس على أخذ علمهم في المدارس والمعاهد التي أسسها اليهود مثل الثانوية الفوزية وثانوية إشيك وثانوية الترقي وكلية روبرت وثانوية جلاتا صاراي. لقد فُتحت هذه المدارس بتمويل فرنسي وأمريكي وبريطاني وبوساطة الدونما، ناهيك عن الذين ذهبوا إلى أوروبا لتحصيل العلم هناك. نعم، لقد اجتثت ثورة الحرف الشعب التركي من أصوله الثقافية اجتثاثاً تاماً وأبعدته كل البعد عن ثقافته الإسلامية. وبهذا أصبح المتعلمون في المجتمع ومثقفوه وأساتذته وحكامه ومن يتولون المناصب المهمة من الدونما وبالذات الجيش.
l معظم رؤساء الأركان في تركيا والكثير من الوظائف الحساسة كانت بأيدي الدونما.
l كذلك جميع الصحف التي صدرت منذ تأسيس الجمهورية وبالذات تلك التي ظهرت بعد ثورة الحرف، ومعظم الفنانين والعاملين في قطاع السينما والمسرح وفي الراديو والتلفزيون كانوا من الدونما والأقلية الأرمنية.
l كل من يسعى لإصدار صحيفة أو مجلة من غير الدونما كانوا يقومون بعملهم في ظل ظروف صعبة. نتيجة تضييق الخناق عليهم.
l أصحاب المؤسسات التجارية الضخمة وأعضاء جمعية رجال الأعمال الأتراك معظمهم من الدونما واليهود أو الأتراك العلمانيين.
l كل رؤساء حزب الجمهورية، ومنذ عام 1950م. رؤساء الحزب الديمقراطي وحزب العدالة كان معظمهم من الدونما أو الماسونيين، وكذلك رؤساء الأحزاب الحالية مثل الحزب الديمقراطي اليساري وحزب شعب الجمهورية وحزب الطريق القويم وحزب الوطن الأم وحزب القوميين الأتراك قسم منهم مثل بولنت أجاويد وألطان أويمان وطانسو تشيللر هم من الدونما، أما مسعود يلماز ودولت بهشلي فهم إما من الدونما أو من الأرمن، أما سليمان ديميريل فمعروف بماسونيته، وإنُونو من الدونما ووزير الخارجية الحالي إسماعيل جام من الدونما كذلك.
l رئيس مؤسسة التعليم العالي الحالي كمال جورجوز ورئيس جامعة إسطانبول كمال عالم دارولو وكثير من رؤساء الجامعات المهمة من الدونما.
l أما البرلمان الحالي فهو يحوي من الدونما الكثيرين.
l لعبت تركيا دوراً مهماً خلال تأسيس إسرائيل، ففي سنة 1943 عندما صدر قانون ضريبة الوجود على اليهود، قسم كبير من اليهود الفارين من النازية في أوروبا جاء إلى تركيا بينما كثير من اليهود الموجودين في تركيا هاجروا إلى فلسطين، ونتيجة لهذا القانون أُجبر حوالي 100 ألف يهودي على الهجرة إلى فلسطين وبهذه الطريقة أيضا هُجّر اليهود القادمون من أوروبا إلى فلسطين.
l عندما أُسست إسرائيل كانت الجمهورية التركية من أوائل المعترفين بها.
l يجدر بالذكر أيضا أنه يرجّح بأن الرئيس الثاني لإسرائيل إسحاق بن زيفي كان من الدونما الذين جاءوا من تركيا، وكذلك مما يَلفت النظر أن رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون ووزيرة الخارجية جولدا مئير ومستشاره شمعون بيريس ورئيس الأركان زيوي زفي جاءوا إلى تركيا سراً للقاء رئيس الوزراء عدنان مندريس في 28 ـ 8 ـ 1958.
3ـ النتيجة:
كل ما تقدم وغيره من الأدلة أوجد قناعة لدينا بأن ما يسمى بالقوى الخفية في تركيا هم من الدونما، أما وجود بعض الأذيال من العلويين وعملاء الإنجليز من الاتحاد والترقي فلا يغير هذه الحقيقة، وأثرهم يبقى محصوراً. وبما أن الدونما من اليهود فلا توجد بينهم الأُلفة، فالخلافات والمشادات غالباً ما تحدث بينهم تبعا للمصلحة وخصوصاً عند زوال عدوهم المشترك. فكون قسم منهم مع إسرائيل وآخر مع الإنجليز وغيره مع الأميركان لا يغير من حقيقتهم.
ماذا تعني معرفة أن القوى الخفية بيد الدونما:
1ـ المجتمع بمعرفته هذه الحقيقة يعرف مصدر الظلم والمصائب التي تحل بهذا المجتمع، وبهذا لا تُهدر الطاقات لإيجاد الحلول في الأماكن الخطأ.
2ـ إننا بهذا نبين للشعوب الإسلامية أن السبب في كل ما يحدث في تركيا ضد الإسلام والمسلمين إنما هو اليهود، وهذا بدوره يغير نظرة هذه الشعوب تجاه الشعب المسلم التركي.
3ـ شيخ الإسلام مصطفى صبري (1869م ـ 1945م) كان من الذين أدركوا هذه الحقيقة، فقد حاول شرح هذه القضية في مصر التي هاجر إليها، يقول مصطفى صبري في كتابه “أسرار هدم الخـلافة”: “وبهذا، فإن من يتكلمون باسم الأتراك ومن يعملون باسمهم هم في الحقيقة ليس لهم علاقة بالأتراك ولا حتى بالإسلام، فهم اغتصبوا السلطة بالقوة وتسلطوا على أموال المسلمين وأعراضهم وهم من الدونما لا غير، وبسببهم أصبح الشعب التركي ضعيفاً ومتخلفاً، بعض إخوتنا العرب يظنون أن ما يقوم به هؤلاء الدونما هو من فعل الشعب التركي واتخذوه سببا في معاداة الشعب التركي، إني لأدعو إخواننا المسلمين لأن يعوا ذلك وأن لا يخلطوا بين الشعب التركي المسلم الذي ضحى من أجل الإسلام وبين هذه الأقلية المُسلّطة على الشعب”.
في الأيام الأخيرة أصبحت بعض الصحف تدرك واقع الدونما والحمد لله، نسأل الله أن يكون ذلك فاتحة خير.
يقول الله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الشورى 227]
2001-03-11