أثر الأحكام التي شُرِعتْ في المدينة المنورة بعد قيام الدولة في أحكام الطريقة التي شُرِعتْ في مكة المكرمة قبل قيام الدولة (1)
2001/02/11م
المقالات
5,309 زيارة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وعلى من اتبع نهجه وسار على هداه، وبعد.
إذا استثنينا بعض الأحكام الفردية التي شرعت في مكة كعبادة الصلاة، وما اتصل بالذبائح والقرابين، فإن أغلب التشريع المكي كان منصباً على معالجة طريقة إقامة الدولة، ومن تتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثته حتى انتقاله إلى دار الحكم في المدينة نجد أن أعماله صلى الله عليه وسلم كلها كانت تستهدف ذلك الانتقال، وعلى رغم ما ضن به الفقهاء الأوائل في بحث هذه المرحلة حركياً، إلا أن واحداً منهم لم يزعم أن نهاية المرحلة المكية لم تكن بداية الحكم الإسلامي.
========================================
كانت المرحلة المكية بأحكامها الشرعية والمعاناة التي اكتنفتها، والصراع الفكري السياسي المحض الذي صاحبها، مرحلة تأسيسية للكتلة أكثر من كونها تأسيسية للدولة، فالدولة على كل حال وجدت بالأحكام الشرعية وبقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.
لذلك كانت الأحكام المكية (باعتبار مكان نزولها) تشكل مرحلة تشريعية، وكانت الأدلة الشرعية فيها مادة وفيرة لاستنباط الأحكام الشرعية التي تعلقت بأعمال تلك المرحلة.
والناظر إلى الأحكام المكية يجد أنها تناولت ما يتعلق بالكتلة: تأسيسها، أعمالها، والخطوط العريضة التي تحدد ملامح صراعها في الواقع الذي وجدت فيه، فضلاً عن وفرة أفكار العقيدة التي تعتبر أيضاً من ضوابط تشكيل الكتلة، إذ أنها تحدد ماهية الصراع الفكري في المجتمع. هذا الصراع الذي كان صراعاً بين الكفر والإيمان.
أما الأحكام التي شرعت بعد قيام الدولة فإنها كانت تكملة للتشريع بوصفه العام، وما دنا أجل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وكانت أحكام التشريع كلها قد نزلت: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، غير أن أحكام المدينة (باعتبار مكان نزولها) تناولت عدة مناحٍ، فهي فضلاً عن تناولها لتشريعات الدولة، فقد تناولت القتال ورعاية الشئون والأعمال المادية، وأحكام الخروج على الحاكم، وسائر الأحكام التي عالجت علاقات الفرد الثلاث.
بعد هذه المقدمة الموجزة أقول: إن المتعبد بالأحكام الشرعية إبان نزولها يختلف في أخذه لها عن المتعبد بها بعد اكتمالها، ويتضح ذلك من الفرق بين ما شرع في مكة وما شرع في المدينة بالنسبة لمن عاش فترة نزول التشريع تلك، وعدم وجود هذا الفرق ابتداءً عند من عاش بعد فترة نزول التشريع.
أما بالنسبة للمتعبد بالأحكام إبان نزولها فهو غير مطالب إلا بها، باعتبار عدم نزول تشريع غيرها عليه، ولذلك التزم الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وسائر المسلمين بالأحكام التي شرعت قبل الهجرة، وكذلك كان التزامهم بالأحكام الشرعية التي شرعت بعد الهجرة إلى وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
والمتعبد بأحكام الإسلام بعد اكتمال تشريعها ملزم بها على حد سواء دون التفريق بين الأحكام المكية والمدنية، إذ لا يجوز التفريق في أخذ أحكام الإسلام بحسب الزمان أو المكان، بل إنها تؤخذ جملة واحدة مع مراعاة مناط تطبيق كل حكم منها.
وعلى ذلك فإن شأن المخلصين الذين يحملون الدعوة الإسلامية يجب أن يكون شأن المسلم الذي أراد أن يتعبد الله في مسألة فبحث عن حكمها في الإسلام فوجده قد شرع في المدينة فأخذه، وبحث عن حكم مسألة أخرى فوجده قد شرع في مكة فأخذه، فالعبرة بالتقيد بأحكام الشرع وليست بمكان تشريعها، إذ لا قيمة للمكان الذي شرع فيه الحكم أو الزمان الذي شرع حينه.
على أن طريقة إقامة الدولة قد نزلت أحكامها في مكة المكرمة ولم يرد في الشرع ما نسخ هذه الأحكام مما نزل في المدينة المنورة، فكانت أحكام الطريقة تلك ملزمةً لكل من أراد أن يتعبد الله تعالى بالعمل لإقامة الدولة وأرجو أن يكون هذا الفارق واضحاً.
والمتتبع للأحكام التي شرعت في المدينة يجد أن فيها ما قد يظهر تعارضه مع أحكام طريقة إقامة الدولة في مكة مما يوجد الظن بتأثيره عليها وهذه الأحكام هي:
أولاً: القتال: فقد شرع القتال في جميع صوره في المدينة المنورة ولم يكن مشروعاً في جلّ صوره في مكة المكرمة، فلِمَ لم تؤخذ أحكام القتال في طريقة العمل لإقامة الدولة تطبيقاً لما ذكرناه آنفاً من عدم تأثير المكان في التشريع؟
وقبل الرد على هذه المسألة أؤكد قاعدة للفهم وهي أن أحكام الإسلام منها ما أنيط تطبيقه بالخليفة أي بالدولة وذلك كالجهاد لحمل الدعوة إلى العالم، وإقامة الحدود، وقتال أهل البغي، وقتال المرتدين، وعقد المعاهدات، والإلزام بالتبني ظاهراً وباطناً، وإنزال الناس قهراً على أحكام الشرع. وصلة الأفراد والجماعات بهذه الأحكام هي وجوب إيجاد الخليفة الذي يطبقها وفقاً لقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) والأدلة مستفيضة في ذلك.
وهناك أحكام تتعلق بالأفراد والجماعات وقد أنيط تطبيقها بوجود الخليفة أي الدولة وذلك كمحاسبة الحكام، والسمع والطاعة لولي الأمر، ومنح الأمان للمستأمن، فهذه الأحكام يقوم بها الأفراد والجماعات بشروطها إذا كانت هناك دولة وما كان واجباً منها يدخل تحت القاعدة السابقة.
وهناك نوع أخير من الأحكام تتعلق بالأفراد والجماعات ويجب التزامها سواء وجد خليفة أم لم يوجد، وذلك كالأحكام المتعلقة بالأفراد في علاقاتهم الثلاث (علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من الناس)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء الجماعات السياسية، وهذه الأحكام واجبة (مع مراعاة العينية والكفائية في الوجوب) في ظل وجود الخلافة أو في عدم وجودها وإن كان وجود الخلافة ييسر أمر تطبيقها، فضلاً عن ارتباطها بالخلافة من ناحية الإلزام بما كان واجباً منها.
وعوداً على موضوع القتال أقول: إن القتال الذي شرع في المدينة المنورة أو استكملت بعض تشريعاته فيها كان على الوجوه الآتية:
1ـ الجهاد في سبيل الله لحمل الدعوة إلى العالم وفتح البلاد بالإسلام وهذا مُناطٌ تطبيقه بالدولة قولاً واحداً.
2 ـ قتال المرتدين: وهو من أعمال الدولة مما لا يجوز للأفراد القيام به.
3 ـ قتال أهل البغي: وهو كذلك من أعمال الدولة، إذ لا وجود للبغي إن لم توجد الدولة.
4 ـ قتال المحتلين والمعتدين من الكفار وهو مشرّع حال وجود الدولة وفي حال عدم وجودها.
5 ـ قتال الحاكم إذا أمر بالمعصية أو الكفر أمراً بواحاً، ولا مناط لتطبيقه إن لم يوجد الحاكم.
6 ـ قتال الأفراد فيما بينهم كدفع الصائل، ومقاتلة المغتصب، ورد الاعتداء على المال أو العرض وهذا من أعمال الأفراد وقد ورد شيء من تشريعه في مكة كما سيأتي بيانه.
ولن نناقش أحكام القتال المناط تطبيقها بوجود الخليفة فهي ليست مرادنا، بل سنتطرق لتلك الأحكام التي شرعت للأفراد وتحتاج إلى بيان وهو التفريق بين أعمال الكتلة وأعمال الأفراد.
وللوقوف على تفصيل هذا الأمر نذكر الأدلة برواياتها الصحيحة:
أولاً: بعض ما ورد من تعذيب قريش للمسلمين والذي يستوجب العقل رده بالقوة:
قال ابن اسحق: «ثم إنهم عدوا على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم، بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم»، وجاء في البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» وجاء في الروض الأنف للسهيلي: «قال أبو جهل لسمية أم عمار بن ياسر: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، ثم طعنها بالحربة في قبلها» وجاء في سيرة ابن هشام عن سعيد بن جبير قال: «قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جَهد«.
قال ابن اسحق بعد استعراضه لحادثة إسلام عمر: «فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم».
فهذه الأدلة وغيرها، تدل دلالة واضحة على أن ما كان يصيب المسلمين من المشركين يستوجب عقلاً الرد عليهم ودفع أذاهم، لا سيما وأن المسلمين قادرون على دفع الأذى، وهذا ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم وجود الإذن الشرعي به.
ثانياً: موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو موقف الكتلة من هذا الأمر:
الدليل الأول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على الاستنصار بمنعته، جاء في البخاري فيما رواه جبير بن مطعم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وقد ذكره البيهقي في سننه والطبري في جامعه بزيادة: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد». ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. ولعل موقفي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه من أبي جهل ومن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين إسلامه مشهوران.
الدليل الثاني: روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
الدليل الثالث: جاء في السيرة بعد بيعة العقبة الثانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضُّوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم. قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا».
الدليل الرابع: جاء في سبب نزول الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) للنيسابوري (وقاله الطبري، وقاله الكلبي): «نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص، كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً ويقولون: يا رسول الله، ائذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أومر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمرهم الله بقتال المشركين، كرهه بعضهم، وشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية» انتهى والآية مدنية فهي من سورة النساء، وفي سنن النسائي زيادة «فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم». قال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: “يخشون الناس” أي مشركي مكة “كخشية الله” فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه.
فهذه الأدلة يفهم منها أن الأمر بالقتال لم يكن مأذوناً به من قبل الشرع ولم يقم به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به مع إمكانية القيام به ووجود القدرة عليه.
ثالثاً: المواقف الفردية التي تدل على حصول قتال أو أعمال مادية والتي حصلت في مكة:
الدليل الأول: جاء في السيرة في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون ذكر القصة كاملة: «فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب؛ فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحاً السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف؛ فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذنْ له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزته، أو بمجمع ردائه، ثم جَبَذه به جبذة شديدة، … إلى أن قال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم».
الدليل الثاني: قال ابن إسحاق: «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بِلَحْي بعير، فشجه، فكان أول دم هُريق في الإسلام».
الدليل الثالث: أورد ابن الجوزي ـ بسنده ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال فيضربونه، ويضربهم».
الدليل الرابع: أخرج البزار فيما رواه محمّد بن عقيل عن علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: يا أيها النّاس: من أشجع النّاس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقال أما إني ما بارزني أحد إلاّ انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر رضي الله عنه؛ إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً ـ يعني في غزوة بدر الكبرى ـ فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر رضي الله عنه شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه؛ فهذا أشجع النّاس. قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يحادُّه وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فوالله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر يضرب هذا ويجاهد هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثمّ رفع عليّ رضي الله عنه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلَّت لِحيته ثمّ قال: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خيرٌ أم هو؟ فسكت القوم. فقال علي رضي الله عنه: فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه».
الدليل الخامس: قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور).
قال القرطبي: قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي) أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا…) الآية.
وقال الطبري: قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل؛ ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة؛ وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق؛ فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاُ. وقد قال عقيب هذه الآية: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل). ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور). وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه.
وقال القرطبي: قوله تعالى: (ولمن صبر وغفر) أي صبر على الأذى و(غفر) أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية؛ فقال الحسن: عقلها والله! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدم؛ وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى.
الدليل السادس: قال ابن جرير: «حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذٍ قليل، وليس لهم سلطان يقهر المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبر أو يعفو فهو أمثل فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية» والآية التي ذكرها من البقرة وهي مدنية، ولكن يبدو أنه يريد الحكم الشرعي الذي ورد في الآيات السابقة من سورة الشورى وهي مكية.
فهذه الأدلة تبين حالاتٍ قام بها الأفراد برد الاعتداء بالعمل المادي، كما تبين وجود الإذن برد الاعتداء، وبالنظر إلى الأدلة التي نهى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن القتال وطلب من صحابته كف الأيدي، وأمرهم بالصبر والعفو، نجد أن هذه الأدلة تعلقت بعمل الكتلة، فيما يكون فيه المبادأة بالقتال أو الاعتداء أو الأعمال المادية عموماً، بالشكل الذي تتحقق فيه المبادأة كالاستعداد وتشكيل الفرق وتدريب الأفراد وما يسمى اليوم بالميليشيات، ولم تتعارض هذه الأدلة مع الأدلة التي ذكرناها عن الأعمال الفردية، فللأفراد أن يردوا الاعتداء ويدفعوه عنهم، كما فعل أبو بكر وسعد وعمر وأبو ذر وغيرهم من الصحابة، ولهم أن يعفوا ويصبروا وهو أفضل.
ولا يقال إن الإذن بالقتال بعد أن لم يكن، هو نسخ لالتزامات الكتلة بحرمة المبادأة كما ذكرنا، وذلك استدلالاً بقوله تعالى في سورة الحج: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) فإن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل وإليك بيانه:
نزلت هذه الآية بين مكة والمدينة في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الطبري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلِكن! قال ابن عباس: فأنزل الله: (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وهي أول آية نزلت. وقاله قتادة، وهو رأي الجمهور.
وجاء في أحكام القرآن لابن العربي: «معنى أذن: أبيح، فإنه موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع، وهو دليل على أن الإباحة من الشرع، وأنه لا حكم قبل الشرع، لا إباحة، ولا حظراً إلا ما حكم به الشرع وبينه» وقال الإمام الشافعي في الأم: »ولما مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها، ففرض الله عليهم الجهاد بعد أن كان إباحة لا فرضاً، فقال تبارك وتعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم)».
وقال السيوطي في الحاوي عن آية (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا …) ما نصه: «هذه الآية مبيحة لا موجبة وقد نص الإمام الشافعي رضي الله عنه على أن القتال كان قبل الهجرة ممنوعاً ثم أبيح بعد الهجرة ثم وجب بآيات الأمر» والسيوطي بذلك يبين ما قصده الشافعي من الإباحة والتي عنى فيها الآية من سورة الحج.
فآية الإذن بالقتال أذنت بنوع من القتال كان ممنوعاً بصريح قوله صلى الله عليه وسلم عندما طلب منه الصحابة الإذن به، ولم تأذن بالقتال الذي كان جائزاً أصلاً وكان العفو أفضل منه والذي ورد في سورة الشورى، وهذا النوع الجديد من القتال المأذون به هو الذي جاءت آيات القتال اللاحقة لتفصل أحكامه ومارسه الرسول صلى الله عليه وسلم عملياً بوصفه حاكماً للمسلمين ورئيساً للدولة الإسلامية.
هذا بالنسبة لأحكام القتال، أما النوع الثاني من الأحكام المدنية والتي يشتبه تأثيرها على أحكام الطريقة في مكة فهي الأحكام المتعلقة برعاية الشئون وإليك تفصيلها:
جاءت أحكام رعاية الشئون متصلة بالحاكم من حيث وجوب رعايته ومسئوليته في ذلك أمام الله وترتب الإثم عليه إن قصر في هذه الرعاية، أو لم يقم بها أصلاً فالله سبحانه قد أوجب على الحاكم النصح للأمة في دينها ودنياها، وأن يَجتهد لها في تحقيق مصالحها، وحفظها، ودرء الأخطار عنها، فإن هو وفّى لها بذلك نال عند الله سبحانه الدرجات العلا. وأما من قَصّر في شيء من ذلك فإن الله سيحاسبه أشد الحساب، ويحرم عليه دخول الجنة. فعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة» وفي رواية أخرى «ما من أمير يَلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم» رواهما مسلم. وجاء عند البخاري «ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يُحِطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة».
وجاءت أحكام أخرى تحث المسلمين على التعاون، والتضحية والإيثار فيما بينهم، والشرع قد حث أفراد المسلمين على القيام بها في العديد من النصوص، فقال تعالى في سورة المائدة: (وتعاونوا على البر والتقوى) وهو خطاب عام للمسلمين وليس خطاباً خاصاً بالدولة. وعن عبد الله بن عمر ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء…» رواه الحاكم والطبراني بسند صحيح، وهذا خطاب للمسلمين، وليس خطاباً مقصوراً على الحاكم، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» رواه البخاري ورواه مسلم وجاء في آخره «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». وهذا خطاب من الله لكل مسلم تجاه كل مسلم محتاج للمساعدة والعون. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «… وأيُّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد بَرِئت منهم ذمة الله تعالى» رواه أحمد، وهذا خطاب لمجموعة أفراد أو لقطاع من الناس تجاه فرد من المسلمين.
كما ورد ما يستدل به دوماً أصحاب اللجان الخيرية وأعمال رعاية الشئون في زماننا هذا وهو حديث الأشعريين أذكر لكم ما ورد عنهم فيه:
حديث: «الأشعريون في الناس كصرة فيها مسك» رواه ابن سعد في الطبقات عن الحسن البصري عن الزهري مرسلاً، وقال فيه المناوي في فيض القدير: «بتشديد الياء هم قبيلة ينسبون إلى الأشعر بن أدد بن زيد بن يخشب نزلوا غور تهامة من اليمن فيما بين جبال السروات وما يليها من جبال اليمن إلى أسياف البحر ولما قدموا على المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لهم: أنتم مهاجرة اليمن من ولد إسماعيل ثم ذكره، وكان المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم يحبهم وقال في حديث الشيخين: إنهم مني وأنا منهم وسياقه أن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أي فرغ زادهم أو قل طعام عيالهم جمعوا ما عندهم في ثوب ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم وفيه تنبيه على مكارم أخلاقهم ومواساتهم لإخوانهم وحث على التأسي بهم والاقتداء بأفعالهم وفيه منقبة عظيمة للأشاعرة وكذا قيل فإن عنى قائله ما هو المتبادر من هذا اللفظ وهم أهل السنة المنسوبون إلى شيخ السنة أبي الحسن الأشعري ففساده بين وإن أراد تلك القبيلة فصحيح».
والحديث كما أخرجه البخاري: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم» .
(يتبع)
نور الدين التميمي
2001-02-11