(للفقراء الذين أُحْصِروا في سبيل الله)
2000/09/10م
المقالات
2,713 زيارة
(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون(272) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم(273) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(274)) [البقرة].
تستمر الآيات في الإنفاق ولكن الله سبحانه يذكر خلالها جزءاً من الآية كأنه في ظاهره لا علاقة له بالإنفاق.
والمعروف في لغة العرب أن العربي الفصيح لا يكون كلامه على غير نسق، فإن بدأ في كلامه جزءاً على غير اتصال بالسابق واللاحق فإنه يكون مقصوداً، ويكون المتكلم قد أخفى الصلة بين هذا الجزء وباقي الكلام ولم يجعلها صريحة الظهور لتكون مدعاة للوقوف عندها للتعمق في اكتشافها ولفت النظر إليها بهذا الأسلوب من النظم البديع.
وهذه الآية الكريمة كذلك فإن ما سبقها كان في الإنفاق وما تبعها في الإنفاق، وظاهر مدلول ألفاظها على غير ذلك فيكون التركيز عليها والوقوف عندها لاكتشاف هذه الصلة وتدبرها بعمق مقصوداً لله سبحانه.
وبتدبر هذه الآية الكريمة يتبين أننا غير مكلفين بإجبار الناس على الهداية والدخول في الإسلام فليس في مقدورنا ذلك، بل الله يهدي من يشاء. أما نحن فندعو للإسلام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فإن استجابوا فذلك الفضل من الله، فالله وحده القادر على هداية الناس أجمعين (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) السجدة: آية13.
وبتدبر هذا المعنى نتساءل الآن عن صلة هذا الجزء من الآية الكريمة مع ما قبلها، مما هو خاصّ بالإنفاق وما بعدها مما هو خاصّ بالإنفاق كذلك.
إن حرص الإنسان على هداية من يحب وإسلامه من قريب أو صديق قد تدفعه للضغط عليه ليكرهه على الدخول في الإسلام، ومن هذه الأساليب استعمال المال في ذلك، فإن كان ينفق عليه قد يمنع عنه النفقة كي يسلم أو يشترط إسلامه للنفقة عليه، فمنع الله المسلمين من استعمال النفقة أسلوباً لإكراه أقربائهم أو من لهم بهم علاقة للدخول في الإسلام.
فتدبر الآية الكريمة والوقوف عندها يفيد أمرين:
الأول: إنَّ الدخول في الإسلام أو الهدى يحتاج إلى قناعةٍ ورضىً واختيارٍ وليس بالإكراه والإجبار.
الثاني: أن لا تستغل النفقة على الأقارب أو من لهم علاقة لإكراه الناس على اعتناق الإسلام. ويؤكد ذلك ما رواه بعض الصحابة في سبب نزول هذه الآية: أخرج ابن جرير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: “كانوا ـ أي المسلمون ـ لا يرضخون لقراباتهم من المشركين فنـزلت (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)” يرضخون: يعطون شيئاً من أموالهم، أي كانوا لا ينفقون على قراباتهم لأنهم مشركون حتى يسلموا. وفي رواية أخرى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: “كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا ويريدونهم أن يسلموا فنـزلت: (ليس عليك هداهم…)“.
و(يتصدقوا) الواردة في هذه الرواية بمعنى الصلة والنفقة لأن الصدقة قربة إلى الله ولا تجوز لغير المسلم.
وأخرج ابن جرير كذلك عن سعيد بن جبير: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: (ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء).
وقد ذكر القرطبي عن بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت عن ذلك لكونه كافراً فنـزلت الآية في ذلك.
وعليه فإن سياق الآيات مستمر بنسق واحد مع التركيز على عدم استعمال النفقة أو منعها لإجبار الناس على الدخول في الإسلام.
ومن الجدير ذكره أن عدم إجبار الناس على الدخول في الإسلام لا يعني عدم إجبارهم على النـزول عند أحكام الشرع وتطبيق أحكام الشرع عليهم من قبل الدولة الإسلامية، فذلك فرض فرضه الله ويجب على الحاكم والمحكوم الخضوع له بطاعة الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بالعقوبة (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليماً).
ولقد ذكرنا ذلك في تفسير الآية (لا إكراه في الدين) فارجع إليه.
ثم يكمل الله سبحانه آياته في الإنفاق فيبين في هذه الآية الكريمة أحكاماً أخرى للإنفاق، فقد سبق أن بين الله أن الإنفاق يجب أن يكون خالياً من المن والأذى ولا يكون رياء ولا يكون من الرديء من المال.
وفي هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه أن من ينفق نفقة فخيرها له فهو الذي سيثاب عليها وتوفى إليه في الدنيا والآخرة وبخاصة وهو ينفقها ابتغاء وجه الله.
(ليس عليك هداهم) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لأمته كذلك، والمعنى: لست مكلفاً بإجبارهم على الهدى. ومعنى التكليف آتٍ من (عليك) والهدى: الإسلام.
(ولكن الله يهدي من يشاء) أي أن الله سبحانه هو القادر على هداية الناس أجمعين ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن يتركهم يختارون (فمنهم من آمن ومنهم من كفر) البقرة: آية253.
(وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) (ما) شرطية (من) تبعيضية، أي جزء من خير (خير) مال لأن الخير إذا اقترن بالإنفاق فإنه يعني المال فإن لم يقترن فليس بالضرورة المال بل قد يأتي في غيرها (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) الزلزلة: آية7.
(فلأنفسكم) أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم، والفاء داخلة على جواب الشرط.
(وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) أي يكون ثوابه لأنفسكم في حال كونكم تنفقونه ابتغاء وجه الله.
(ما تنفقون) لا تنفقون والواو للحال والجملة حال. (ابتغاء) مفعول لأجله.
(وجه الله) كناية عن ذات الله سبحانه، وفي هذا الاستعمال الإخلاص الخالص لله فإن قولك: فعلت هذا لأجل زيد يحتمل أنك فعلته له وحده أو فعلته له ولغيره، أي فيه معنى الشراكة، فإن قلت: فعلته لوجه زيد كان خالصاً لزيد وحده.
وبذلك (ابتغاء وجه الله) أي خالصا لله وحده.
(وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون) بيان للجملة الشرطية (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أي بيان (لأنفسكم) أنه يوفى إليكم في الدنيا والآخرة دون أن تظلموا أي دون أن تبخسوا من الوفاء شيئاً فالله هو الموفي وهو خير الحاكمين، في الدنيا بمباركة المال وفي الآخرة بالأجر العظيم: “اللهم اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً”(1) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
ثم يبين الله سبحانه أن الأولوية في الصدقات للمنقطعين للجهاد الذين ينشغلون به عن السعي في الأرض طلبا للرزق، والذين لا يلحون في سؤال الناس حتى لكأنهم أغنياء لتعففهم في السؤال ولولا ما يظهر عليهم من أثر الجوع في الجسم ورثاثة اللباس لما عرف حاجتهم أحد.
فهؤلاء أجر النفقة إليهم عظيم والله سبحانه بخالص النية في الصدقة عليم.
(للفقراء) خبر لمبتدأ محذوف أي صدقاتكم للفقراء، واللام للتعدية أي أن يحرص المتصدق أن تعطى صدقته للفقراء (الذين أحصروا في سبيل الله) الذين انقطعوا للجهاد أي أَحْصَرَهم الجهاد في سبيل الله.
(لا يستطيعون ضرباً في الأرض) أي لا يستطيعون تنقلاً في الأرض للسعي لطلب الرزق لانشغالهم بالجهاد.
(فالحصر) هو المنع فكلّ من شغله الجهاد عن السعي لطلب الرزق أو كلّ من أصيب بجراح في الجهاد جعله لا يقدر على السعي لطلب الرزق تنطبق عليه هذه الآية ففي الإنفاق عليه أجر عظيم.
وهي تنطبق كذلك على من كانوا يسمون (أهل الصُّفَّة) في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانت العلة والجهاد يحبسهم عن طلب الرزق ويخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
فهؤلاء وأولئك لهم الأولوية في النفقة من الفقراء الآخرين الذين لا يحبسهم الجهاد وهم يستطيعون أن يسعوا في الأرض لطلب الرزق.
(يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) أي من أجل تعففهم عن المسألة فـ(من) للتعليل والتعفف ترك الشيء والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه.
(تعرفهم بسيماهم) أي أثر الجوع على الأبدان ورثاثة الحال.
(لا يسألون الناس إلحافاً) أي إلحاحاً وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده. و أصل اشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله ويلازمهم حتى يعطوه فكأنه ألحفهم بذلك.
(وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) أي يجازيكم به خيراً، وهو ترغيب في الإنفاق.
-
بعد ذلك يبين الله سبحانه الأجر العظيم والمنـزلة الرفيعة لأولئك الذين لا يبخلون بأموالهم في سبيل الله في جميع الأوقات وجميع الأحوال فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{بالليل والنهار سراً وعلانيةً} أي في جميع الأوقات والأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإشارة إلى مزية الإخفاء على الإظهار.
(فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سبق شرحها.
ذكر ابن سعد في الطبقات أن هذه الآية نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن أبيه عن جده عن عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيةً… ) الآية، قال: “هم أصحاب الخيل”(2).
وكلمة أخيرة في هذا الموضوع: إن الله سبحانه بين في الآيات السابقة أجر النفقة في سبيل الله وأنها إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
ثم يبين الله سبحانه شروط النفقة المقبولة عند الله:
ـ فأن تكون بدون من ولا أذىً: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى).
ـ وأن لا تكون رياءً (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين).
ـ وأن لا تكون من الخبيث (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون).
ثم بين الله سبحانه عدم استغلال النفقة والصلة للأقارب وذوي العلاقة لإكراههم على الدخول في الإسلام بل بالإقناع والاختيار (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).
وكذلك بين سبحانه أن النفقة تعود على صاحبها بالخير إذا كانت خالصة لله فليكثر منها لينال الجزاء الأوفى (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون).
ويختم الله سبحانه الآيات في النفقة الطيبة في سبيل الله في جميع الحالات والأوقات ليحصل المرء على الأجر العظيم عند رب العالمين وليكون آمناً على مستقبله إلى يوم القيامة ومطمئناً بمغفرة الله له على ما مضى من أيامه، فيكون في فوز الدارين وذلك الفوز العظيم (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
كل ذلك في النفقة في سبيل الله الحلال الطيبة الخالصة لوجهه سبحانه
ــــــــــــــ
(1) البخاري: 1374، مسلم: 1010.
(2) الدر المنثور: 2/100، ابن سعد: 7/433 عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عريب.
2000-09-10