مع القرآن الكريم: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
2004/05/10م
المقالات
2,338 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مع القرآن الكريم: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) ) آل عمران ( .
ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآيات: «ثم قال تعالى، مسلياً للمؤمنين (وَلاَ تَهِنُوا) أي لا تضعفوا، بسبب ما جرى )في أُحد( (وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون. (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ) أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقُتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك، من قتل وجراح. (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة، لما لنا في ذلك من الحكمة. ولهذا قال تعالى: ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) قال ابن عباس: في مثل هذا، لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) أي يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم درجاتهم، بحسب ما أصيبوا به. وقوله: (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) أي فإنهم إذا ظفروا، بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم، وهلاكهم، ومحقهم، وفنائهم».
وجاء في الظلال لسيد قطب، في تفسير هذه الآيات: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) لا تهنوا – من الوهْن والضعف – ولا تحزنوا – لما أصابكم، ولما فاتكم – وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى، فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه، أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن المنهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون… فإن كنتم مؤمنين حقاً، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى، بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) وذكر القرح الذي أصابهم، وأصاب المكذبين قرح مثله، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر، وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون. وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد، وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر… ثم كانت الدولة للمشركين، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا فيما بينهم؛ فأصاب المسلمين ما أصابهم، في نهاية المعركة، جزاءً وفاقاً لهذا الاختلاف، وذلك الخروج، وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئيْن عن الطمع في الغنيمة. والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهد في سبيله، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد. وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس –وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم- فتكون لهؤلاء يوماً، ولأولئك يوماً، ومن ثم يتبين المؤمنون، ويتبين المنافقون. كما تتكشف الأخطاء، وينجلي الغبش…
إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح. … عندئذٍ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين… ويزول عن الصف ذلك الدخَل، وتلك الخلخلة، التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون.
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين، والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحوّل الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم… والرخاء في هذا كالشدة، وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل، والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء، ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتؤمن أن ما أصابها من الخير والشر، فبإذن الله.
وقد كان الله يربي هذه الجماعة… لتتعلم أسباب النصر والهزيمة، ولتزيد طاعة لله، وتوكلاً عليه، والتصاقاً بركنه، ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.
(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ): وهو تعبير عجيب، عن معنى عميق، إن الشهداء لمختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين… فما هي رزية إذاً، ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص…
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذاً، لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم، هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء.
فإذا اقتضى هذا الأمر، أن يموت في سبيله، فهو إذاً شهيد، أي شاهدٌ طلب الله إليه أداء هذه الشهادة، فأداها، واتخذه الله شهيداً… ورزقه هذا المقام…
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك، بوصفه أظلم الظلم وأقبحه… وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين، فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين… والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين…
(وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ): والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز. التمحيص عملية تتم في داخل النفس… إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخَل، والدغل، والأوشاب، وتركها نقية، واضحة، مستقرة على الحق، بلا غبش، ولا ضباب.
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها، ودروبها ومنحنياتها، وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير.
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه، بمداولة الأيام بين الناس، بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه، قبل هذا المحك المرير…
(وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ): تحقيقاً لسنته في دفع الباطل بالحق، متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص .
2004-05-10