تحريف الإسلام بحجة تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان أو المكان (3)
تحدثنا في الحلقتين السابقتين، عن محاولة إحياء بدعة تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان، وذكرنا بعض المغالطات التي تعتمد لأجل دس الأفكار الغربية، ومن ذلك الافتراءُ على ابن القيِّم، رحمه الله، والتلبيس في عرض بعض ما فعله أمير المؤنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن ذلك أيضاً المغالطات التي تُعتمَدُ من خلال التذرع ببعض الأئمة، كشهاب الدين القرافي، وابن عابدين، رحمهما الله تعالى، أو من خلال الاستناد إلى بعض القواعد التي ذكرتها مجلة الأحكام العدلية. ونتابع، في هذه الحلقة، بيان الأخطاء، في زعم الاستناد إلى الإمام أبي إسحق الشاطبي وأفكاره، في هذا الشأن.
ولقد ذهب بعض المعاصرين الذين يكتبون في الفقه وأصوله، أو يُفتون ويميلون بفتاواهم إلى التوفيق بين أحكام الإسلام وقوانين الغرب الديمقراطية والرأسمالية، ويسعَوْن إلى تبرير بعض المنكرات، وبخاصةٍ فيما يتعلق بالحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، وبدساتيرهم، وقوانينهم، وسياساتهم… ذهبوا إلى القول بشرعية كثير من المنكرات القائمة.
ولما كانت النصوص الشرعية، واجتهادات العلماء المعتبرين، تقف عائقاً أمام هذه التحريفات، ذهب المحرِّفون إلى القول بجواز تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان أو المكان، ليبرروا بذلك مخالفتهم للأحكام الفقهية المعهودة المتفق عليها. وفي هذا محاولة لتسويغ عدولهم عن الحق الواضح، المتفق عليه، المنقول عن الأئمة. ومن ذلك مثلاً أحكام الربا، والردة، وحرية الرأي، وحقوق الإنسان عموماً.
أما مناقضتهم للنصوص الشرعية، فقد حاولوا التمسك في ذلك بمقاصد الشريعة. ومضمون تبريراتهم أن الشريعة إنما أنزلت لأجل مصالح العباد، ومصالح العباد هي مقاصد الشريعة، والفقيه هو الذي يدرك هذه المقاصد ويبني فتواه عليها.
وحقيقة ما فعلوا في ذلك هو أنهم جعلوا الشريعة تتناقض مع مقاصدها. وإمعاناً في الزيغ تمسكوا بالشاطبي، وبما جاء به في كتابه (الموافقات)، فيما يتعلق بمقاصد الشريعة، وأوهموا أن الشاطبي، رحمه الله، يقول بتغير الأحكام الشرعية بناءً على المصالح والمقاصد، فكانت افتراءاتهم في ذلك مركَّبةً: على الشرع وأحكامه من جهة، وعلى الشاطبي وأفكاره من جهةٍ أخرى. وهم فوق افتراءاتهم الواضحة تلك، زعموا أن الذين يواجهونهم بالنصوص جامدون، ومتحجرون، ولا يفقهون الواقع، ولا يفهمون ما يقولون؛ لذلك كان لا بد من بيان الحق في هذا الشأن، موثقاً بأدلته.
وأوَّل ما أشير إليه هنا هو أن مقاصد الشريعة هي مقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى، فهي مقاصدُ للشارع الذي شرعها، وليست مقاصد الناس ولو كانوا علماء، أو عقلاء، أو حكماء. هذا هو المعنى البدهي لمقاصد الشريعة، ولا يخالف في هذا أي من العلماء المعتبرين، وعلى وجه الخصوص الشاطبي، شيخ المقاصد، كما يحلو لبعض متزعمي تغيير الأحكام أن يسمُّوه.
ومقاصد الشريعة لا تنقض الشريعة، ولا تبطل أحكامها، كيف وهي مقاصد لها، أو مقصودة بها! ومقاصد الشريعة فرع للشريعة، فلا تُعرف أو تفهم إلا من طريقها، أي من نصوصها. فالشريعة هي الأصل، والمقاصد فرع لها. وبالاتفاق فإنه لا يصح أن يرجع الفرع على الأصل بالإبطال. فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري، فإنه يكون من الضلال قول القائل: إن الردة حق شرعي. وأن يصبح معنى حفظ الدين هو حرية العقيدة، وأن تصبح معاقبة المرتد جريمةً، ومنافيةً لحقوق الإنسان. وكذلك فإنه من قبيل التحلل من قيود الدين، أن يكون نص القرآن: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة 275] وأن يكون مقصد الشريعة: الربا حلال، أو فوائد البنوك حلال!
أما زعم التمسك بالشاطبي في هذا الأمر، أو الاستناد إليه، فهذا مما تجاوزوا به الحد. ولننظر:
من خواص الشريعة ثبوت أحكامها:
يقول الشاطبي في بيانه لخواص الشريعة إنها: «مطَّرِدَةٌ عامة، ثابتةٌ غير زائلة ولا متبدلة، ولا محكوم عليها» . هذه خواص الشريعة الثلاث التي يذكرها الشاطبي. والذين يقولون بتغيُّر الأحكام نقضوا خواص الشريعة جميعاً، نقضوا اطّرادها وعمومها، في جميع المكلفين، في جميع أعمالهم وسكناتهم، في جميع الأحوال والأماكن والأزمان. ونقضوا خاصيتها بأنها حاكمة غير محكوم عليها، إذ أخضعوا أحكامها للأعراف والعادات المتغيرة والمتبدلة، في الأزمنة والأمكنة المختلفة. فجعلوها محكومةً بذلك، وإنما هي حاكمة على ذلك كله. أما خاصيتها الثانية، وهي أنها ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وهي الأهم في مقصودنا هنا، فسأكتفي بنصوص قليلة له، تفي في بيان موقف الشاطبي من تغير الأحكام، حيث يقول في شرح هذه الخاصية: «فلا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكمٍ من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أُثبتَ سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجبٌ أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فُرِضَ بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك» .
فهذا النص حاسم في بيان أن المتكئين على الشاطبي، في زعم تغيُّر الأحكام، قد تجاوزوا كل حد في تلبيسهم.
ويقول في معرض بيانه إن المعتمد في الشريعة هو ما كان مستنداً إلى نصوص أو معانٍ شرعية ثابتة، مستندة إلى أصول قطعية: «من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه، فهذه ثلاثة أقسام. القسم الأول هو المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي» . وقال: «والقسم الثاني، وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه، ما لم يكن قطعياً، ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعاً إلى أصل قطعي، إلا أنه تخلَّف عنه خاصةٌ من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة، فهو مُخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنىً غيره» . وهذا القسم مطروح عند الشاطبي؛ لأنه من تخيلات الناظر، أي مما يسرح به العقل أو الخيال؛ لأنه، إما أنه لا يستند إلى دليل شرعي، أو أنه يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا معنى قوله إنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص.
أما الذين يغيِّرون الأحكام أو يبدلونها ويبطلونها، فهؤلاء ترجع أقوالهم وفتاواهم إلى أغراضهم وأهوائهم، وتقع في القسم الثالث الذي قال فيه: «ما ليس من الصلب، ولا من الملح، وهو ما لم يرجع إلى أصل قطعي، ولا ظني، وإنما شأنه أن يكرَّ على أصله، أو على غيره، بالإبطال مما صحَّ كونه من العلوم المعتبرة، والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو ما كان منهضاً إلى إبطال الحق، وإحقاق الباطل، فهذا ليس بعلم؛ لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مُطّرِد أيضاً، ولا هو من ملحه؛ لأن الملح هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس» . وقال أيضاً عن هذا القسم الذي يتضمن معناه تغيير الأحكام بتغيير الزمان أو المكان أو غيرهما: «فربما عدَّه الأغبياء مبنياً على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء» .
مدى اعتبار العرف عند الشاطبي:
قبل أن يبيِّن الشاطبي رأيه في ذلك، فإنه يستقصي بما لا مزيد عليه، واقع الأعراف والعادات وما يجري بين الخلق. بشكل يتجاوز معنى العادات المذكور سابقاً. أي أنه يقوم بعمل رائع في تحقيقه للمناط، فيبين أن الشريعة إنما جاءت لتحكم على الأفعال، وعلى الأعراف، والعادات، فما حكمت فيه الشريعة فلا تغيير له ولا تبدل. وما حكمت الشريعة بإباحته، فإذا عرض له عارض، بأن صار له دلالة على حرام، فإن الحرمة تدخل من باب هذا المعنى الحرام، الثابتة حرمته، وليس من باب تغير الحكم. وهذا قد تبين فيما سبق. ويؤكده الشاطبي هنا حيث يقول: «العوائد المستعمرَّة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهةً أو تحريماً، أو أذن فيها فعلاً أو تركاً. والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق، بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. فأما الأوَّل فثابت أبداً كسائر الأحكام الشرعية… إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً، ولا القبيح حسناً، حتى يقال مثلاً… إن كشف العورة الآن ليس بعيب، ولا قبيح، فليجزه، أو غير ذلك، إذ لو صح مثل هذا لكان نسخاً للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل». ويتابع الشاطبي: «وأما الثاني فقد تكون العوائد ثابتةً وقد تتبدَّل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها، فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع… وإذا كانت أحكاماً لمسبَّبات حكم بها الشارع، فلا إشكال في اعتبارها، والبناء عليها، والحكم على وفقها دائماً. والمتبدِّلة، منها ما يكون متبدلاً في العادة من حسنٍ إلى قبح وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، غير قبيح في البلاد المغربية. فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح. ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد، فتنصرف العبارة عن معنىً إلى عبارة أخرى… كاختلاف العبارات بحسب أرباب الصنائع… أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنىً ما، وقد كان يُفهم منه قبل ذلك شيءٌ آخر، أو كان مشتركاً فاختص… وهذا يجري كثيراً في الأَيْمان والعقود والطلاق، كنايةً وتصريحاً… ومنها ما يختلف بحسب أمورٍ خارجة عن المكلف كالبلوغ، فإنه يُعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام، أو الحيض، أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض» . وما ذكره الشاطبي، في هذا النص حول كشف الرأس، هو ما أُشيرَ إليه في الحلقة السابقة، وهو مما هو مباح أصلاً، ثم يصير له دلالة على معنىً معين، فالحكم فيه ليس تغييراً للمباح، وإنما هو بحسب حِلِّ أو حرمةِ ذلك المعنى. وذلك كمن ليس طبيباً ويلبس ثياب الطبيب ليغش الناس، فالحرمة في هذا الفعل هي للغش، وهو حكم ثابت. وكالمرأة التي تلبس من الأحذية، أو من أغطية الرأس، ما صار في العرف خاصاً بالرجال، وهو في الأصل مباح لها، فالحرمة هي في التشبه بالرجال، وليس هناك تغير في الأحكام. وكذلك كشف الرأس للرجل فهو مباح أصلاً، وحرمته الطارئة هي بسبب دلالته في أحوال معينة على معنىً حرَّمه الشرع. والمعنى الذي ذكره الشاطبي هنا هو خرم المروءة أي هو مناقضة الحياء. وهذا حرام وحرمته ثابتة. قال : «والحياء شعبة من الإيمان» أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب الإيمان.
ويؤكد الشاطبي على ثبات الأحكام جميعها بلا استثناء، فيقول بشأن ما ذكره في النص السابق عن الأحكام المتبدلة: «واعلم أن ما جرى ذكرُه هنا، من اختلاف الأحكام المتبدلة عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه أبديٌّ، لو فُرِضَ بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك، لم يُحْتَجْ في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادةٍ إلى أصل شرعي يُحْكَمُ بها عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبيِّ ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف… وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق، والله أعلم» .
هذا هو موقفُ الشاطبي الواضحُ في هذه المسألة، وهو أنه يُنْكِر تغير الأحكام، سواء بتغير الزمان أو المكان أو غيرهما، وأن مقاصد الشريعة ليست ذريعةً لإبطال الشريعة. وإبطال الشريعة إبطال لمقاصدها، كما أنه في إبطال أي أصل إبطال لفروعه.
الخلاصة: الأحكام الشرعية كلها ثوابت لا تتغير:
إن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع. وخطاب الشارع هو الوحي المنزَّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فالحكم يستفاد من نصوص الشريعة، وهذه قد نزلت واكتملت، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا خلاف. كما أن التخصيص أو التقييد لا يصح إلا بدليل شرعي، أي بخطاب من الشارع. وخطاب الشارع سواءٌ أكان عين النص أم ما أفاده النص، لا مزيد عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى ذلك فإن القول بتغيير حكمِ أيِّ فعلٍ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أمر باطل قطعاً.
وأما القول إن الظروف، أو الأحوال، أو ما شاكل ذلك، قد تتغيَّر. وبالتالي فإن الأحكام يصح أو يجب أن تتغير، فهذا إما جهل وإما تلبيس. فإن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلقُ بالفعل، وهذه الأحوال أو الظروف إن كانت مؤثرةً في الفعل، أو لها علاقة به، أو مما دل الشرع على أنها مناط للحكم، أو مما يتغير بها مناط الحكم، فإن الحكم الذي يتعلق بها هو حكم آخر، أي أن حكمها أصلاً هو حكم آخر، وهذا ليس تغيراً، فإن هذا الحكم الآخر حكم ثابت لا يتغير بزمان أو مكان. فعلى سبيل المثال: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، حرام، في كل زمان ومكان، بلا خلاف. فإذا صار في الواقع حالة اضطرار يباح معها تناول شيء من هذه المحرمات، فهذا عارِضٌ يصبح معه تناول هذا المحرَّم في الأصل مباحاً في هذه الحالة بدليل شرعي. وهذا ليس تغيراً. بل الحكمان ثابتان، مستمران، إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها. فحرمة الميتة، والدم، ولحم الخنزير، في الأحوال العادية حرمة ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدل. وإباحة هذه الأشياء، في حالة الاضطرار، إباحة ثابتة لا تتغيِّر ولا تتبدل، وهكذا سائر الأحكام.
ومما ينبني على بدعة تغيُّر الأحكام هذه بدعة أخرى، وهي قول المحرفين بأن أحكام الشريعة ثوابت ومتغيرات. وهذا القول منقوض بما نُقِض به القول بتغير الأحكام.
وأما ما قد يلتبس على البعض بسبب اختلاف المجتهدين، في الأحكام التي يتوصلون إليها في الأحكام الاجتهادية الظنية، فهذا لا يقال عنه إنه متغيرات؛ لأن الحكم في حق المجتهد، وفي حق من يقلده، هو حكم واحد ثابت لا يتغير ولا يتبدل، إلا إذا وَجَد المجتهد أن الحكم الذي توصل إليه مرجوح، وغيره أرجح منه، فهذا رجوع عن الخطأ، وليس تغييراً أو تطويراً للأحكام، وكذلك يقال في حق المقلد إذا غلب على ظنه أن مجتهداً آخر أرجح من المجتهد الذي يقلده في المسألة التي قلده فيها، وهذا بحسب وسائل المقلدين في الترجيح بين المجتهدين. فالأحكام الشرعية يُنْظَر إليها بحسب مجتهد واحد من حيث الثبات. وهؤلاء الذين يحاولون ربط الأحكام بالمصالح؛ ليقولوا بتغيير الأحكام، وبأن من خواصها التغير، وبأنه يجوز التخيُّر فيها بين أقوال المجتهدين، يَرُدُّ عليهم الشاطبي فيقول: «المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة، بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه، ولا فرق هنا بين المخطِّئة والمصوِّبة» ويسمِّي الشاطبي التغيُّر في الأحكام تناقضاً، ويقول: «وإنما يكون التناقض واقعاً إذا عُدَّ الراجح مرج وحاً من ناظرٍ واحد، بل هو من ناظرين، ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودةً في المحل، بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه» .
ويتبرَّمُ الشاطبي بالذين يقولون بتغير الأحكام، ويربطونها بالمصالح، ويفتون بالتخيُّر فيها بين المجتهدين، ويرى أن أقوالهم هذه وفتاواهم هي مما تجاوزوا فيه الحد، فيقول: «وقد زاد هذا الأمر عن حد الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان، الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم» . ويقول: «وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القولَ المشهورَ، أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: «لقد حجرتَ واسعاً، ومِلتَ بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج» . وعقب قائلاً: «وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وُضِعت له الشريعة» . إلى أن قال: «قلَّ الورع والديانة في كثير ممَّن ينتصب لبثِّ العلم والفتوى كما تقدَّم تمثيله، فلوفُتحَ لهم هذا الباب لانحلت عُرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله» . وهذه الأقوال والردود من الشاطبي أرددها على الذي أجاب على شاشته الفضائية، عندما اعتُرِض على تخليطاته وتلبيساته، فقال إن هؤلاء يقولون ما لا يفهمون . فهلاّ اتقى الله فيما يقول!
محمود عبد الكريم حسن
[انتهى]