من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (2)
2005/04/08م
المقالات
1,842 زيارة
من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (2)
هذه قصة واقعية… قصة شهيد من أوزبكستان تُروى بلسان حاله… منذ الهداية إلى الإسلام، وعمله مع حزب التحرير، إلى اعتقاله وإدخاله سجون الظالمين… سجون الطاغية كريموف حاكم أوزبكستان… ثم التعذيب المفضي إلى الاستشهاد… أسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
و«الوعي» تنشر هذه القصة على صفحاتها مبيِّنة سيرة أولئك الرجال الرجال، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، قلوبهم عامرة بالإيمان، ألسنتهم رطبة بذكر الله، تردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر».
رحم الله رشيداً، ونصر إخوانه من بعده بإقامة الخلافة الراشدة، وحينها سيعلم الطاغية كريموف، وكل الطغاة الظالمين أمثاله، أي منقلب ينقلبون.
المرحلة الثالثة
كأن رشيداً قد ولد من أمه مرة أخرى. أخذ ينظر إلى العالم بنظرة أخرى. كأن حياته قد اكتسبت معنى جديداً. لقد وصل إلى ما كان يبحث عنه طوال حياته؛ ففرح، وفي الوقت نفسه أخذته المخافة في وقاية هذه النعمة الكبرى.
بدأت لرشيد حياة جديدة، وجه كل اهتماماته فيها إلى الدعوة، واجتهد كثيراً في بناء كيانه النفسي والروحي، وتأثر بقول الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، «ولا يتأتى لحملة هذه الدعوة أن يضطلعوا بالمسؤولية، ويقوموا بالتبعات، إلا إذا غرسوا في نفوسهم التروع إلى الكمال، وكانوا ينقبون دائماً عن الحقيقة، ويقلبون دائماً في كل ما عرفوه، حتى ينقوا منه كل ما يعلق به من شيء غريب عنه، ويبعدوا عنه كل ما يكون من قربه منه احتمال أن يلصق به، حتى تظلّ الأفكار التي يحملونها نقية صافية، وصفاء الأفكار ونقاؤها هو الضمان الوحيد للنجاح، ولاستمرار النجاح”. فسعى ليصبح مسلماً كاملاً، وداعياً حقيقياً في العلم والعمل. عندما كان يرى الذين يدعوهم قد تأثروا بقوله، واهتدوا بهديه، كان يحمد الله ويثني عليه، ويصلي صلاة الشكر. وإذا لم يهتدوا، فربما أرجع السبب إلى نفسه، فأكثر من الاستغفار والنوافل.
لم يشارك والدا رشيد وزوجته دِيْلاَرَاْم رشيداً في فرحه، حتى إنهم لم يبالوا بأمره ابتداء. ولكنهم طلبوا منه الرجوع عن طريقه بعد ما اشتد التضييق والتشديد عليه، وكثر القيل والقال ضد حزب التحرير، من قبل الكفار الظُلاّم، حتى قال أبوه له: «إن لم ترجع عن طريقك لن أرضى عنك». عند ذلك قال رشيد لأبيه:
– يا أبي أعلم أنك تحبني وتشفق علي، ولا تحب أن أؤذى، ولكن كيف لا تفهمني؟ أنا أرى أن أكبر ثروتي هو عمري، وأريد أن أصرفها في أهم أمر عندي، ولا أريد أن أبذرها في ما لا معنى له. وأقر أن طاعة الأبوين واجب، وأنت تعلم بالضبط أني أحبكما وأراعيكما أشد من الذين يقولون إن الحزبيين لا يراعون أبويهم. ولكن حبي لكما يزيد ثقتي بطريقي ولا ينقصها، فكيف لا أترك طريق الشيطان بعد أن وجدت طريق الرحمن؟ وهل يجوز أن أجمد كأن يديّ مغلولتان، وإبليس يهاجمني باستمرار؟ يا أبي ليتك تعرف كم أريد أن تفخر بأني قد سلكت هذا الصراط المستقيم بدل أن تطلب مني أن أتركه. أرجو منك أن تخليني في سبيلي ولو لم تؤيدني، فكيف لا تشتاق لقاء ربك كأب شهيد وأنت مسلم؟
ولم يستطع أن يضبط نفسه فبكى، ورأى الدموع في خدي أبيه أيضاً. فلم يقل أبوه شيئاً بعد ذلك، ولم يظهر تأييده ولا إنكاره. وأصبح يسأل عن صحة ابنه وأموره خفية عنه. وقال لزوجته لا تزعجي ابنك بطلبك ترك طريقه؛ فإنه أعلم منا. وما علم رشيد تغير موقف أبيه إلا بعد اعتقاله. وأدرك أيضاً سبب امتناع زوجته عن التهجم على حزب التحرير.
إن الطاعة الاختيارية تظهر في الابتلاء، وجاءت فرصة الابتلاء لرشيد؛ لينكشف هل هو ثابت في طريقه أم مضطرب. اعتقلوه بتهمة مخالفة القانون، والعمل على قلب الحكم الموجود في الدولة. وتيقن رشيد من أن الكفر أسوأ وأغلظ من الوحشية عندما رأى معاملة شرطة الكفر بعينيه، وسمع أقوالها بأذنيه. وعذبوه عذاباً لا يخطر ببال بشر. فالظلمة كانوا يضربونه بالعصا تحت القدم، ويخزون المخرز بين الجلد والظفر كأنهم يشتغلون بتخصصهم المحبوب. وأشد ما كان يغيظهم هو ضعفهم عن مواجهة حجته.
قال له شرطي:
– خطؤك الجسيم والمميت هو اختيارك هذا الطريق، وبهذا فقد ألقيت بيدك إلى التهلكة.
فأجابه رشيد:
– اعلم أن الناس على أربع طوائف. الطائفة الأولى يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون، فهم الذين قد اهتدوا إلى الصراط المستقيم. والطائفة الثانية يعلمون ولكنهم لا يعلمون أنهم يعلمون، أولئك رقود يجب علينا أن نوقظهم. والطائفة الثالثة لا يعلمون ويعلمون أنهم لا يعلمون، أولئك يجب علينا أن نعلمهم. والطائفة الرابعة لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، أولئك هم الجهلاء السفهاء. قال تعالى فيهم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً @ لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا @ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف]. فأنت من الطائفة الرابعة ولا أشك، وأنا من الطائفة الأولى. وأنت مغلوب في هذه الدنيا المحدودة التي هي دار الزوال، فضلاً عن الدار الآخرة التي لا تفنى ولا تزول، وأنا مستعد للتضحية بنفسي لربي الذي خلقني وأوجدني، وأنت تمص بظر إبليس محقراً لعرضك الإنساني.
فغضب الشرطي منه غضباً شديداً، وأخذ يضربه بالعصا ويركله. ودعا شركاءه لمساعدته في التعذيب عندما علم عدم استطاعته التأثير على رشيد، فأخذوا يضربونه بشدة ووحشية حتى غشي عليه، فأعادوه إلى غرفة السجن. ورأى في المنام رجلاً في لباس أبيض يباركه ويقول له صبراً يا بنيّ، الفرج قريب.
لقد وبّخ الشرطي نفسه لأنه سمح لرشيد أن يصفه بأنه من الطائفة الرابعة، فعزم على أن ينتقم منه، فدعا زميلاً له إلى المطعم، وشرب معه الخمر، وذكر له ما وقع بينه وبين رشيد، ثم قال:
– لن أطمئن حتى أعذبه عذاباً أليماً.
– لا تستطيع على ذلك.
– كيف لا أستطيع؟
– لأن الحق معه.
– لماذا؟
– لأننا من الطائفة الرابعة حقاً، ولا يؤثر عليه العذاب؛ لأنه قادر على أن يضحي بنفسه في سبيل الله، والله لا يخذل من يستعين به أبداً، ونحن نخدم الشيطان، والشيطان لا يعد إلا الفقر والفحشاء. فهو يُؤْثر العذاب ولو أدى به إلى الموت على الإخبار عن صاحبه. والخلاصة يا صديقي، إني لا أريد أن أشاركك فيما تنوي القيام به كي لا يؤثر ظلمي على أولادي.
– مهلاً، مهلاً، ماذا حدث لك؟ أأنت نائم؟
– ليتني كنت نائماً، وكان ظلمي كله رؤيا.
– لا أستطيع أن أفهمك!
– ولن تستطيع أبداً؛ لأنك من تلك الطائفة الرابعة. وإني قد سئمت من الحياة مع الطائفة الرابعة، أريد أن أعيش كإنسان.
– فكر قبل أن تقول هذا، فإنهم سيسجنونك لهذا الكلام.
– صدقت، يسجنونني، وأنت أول من يفعل.
– أبك مس من الجن؟
– ليس بي، بل بك أنت مس من الجن، فإن الأولى بك أن تفكر في إصلاح مشاكلك العائلية بدل أن تشرع بإيذاء رجل، كل ذنبه أنه آمن بالله، وتدعوني إلى هذا الأمر الخبيث. تفكر قليلاً، لقد ضربته، وعذبته، وآذيته، وتحسب بذلك أنك غالب، وفي الحقيقة أنك مغلوب، فأنت غير مسجون تعيش مع أهلك، وتستريح في المطاعم، ومع ذلك في قلبك انزعاج وقلق لا يطاق. وهو مسجون، مضروب، معذب، ومع ذلك فهو مطمئن حتى يمكن أن يكون فرحان.
– لأنه فدائي (متعصب).
– إذن لماذا تتأثر بقوله يا صديقي؟ ليس خطؤك في السماح لرشيد أن يتكلم، بل هو في عدم ملاحظتك أقواله. ويجب عليك أن تميز الخطأ من الصواب في كلامه.
لقد رفع أمر رشيد إلى المحكمة، وكان يعلم أن لجنة التحكيم سيحكمون بإدانته حتماً؛ ولذلك فقد استعد لتزيين جنته التي يُقبل إليها بكل اشتياق، كما أن الكفار يسارعون في جمع الحطب لجهنمهم.
ودافع رشيد عن نفسه أمام القاضي الأصم فقال:
– إني أعتقد أن الإسلام نور والكفر ظلمة، والإسلام معرفة والكفر جهالة، والإسلام عدل والكفر ظلم، والإسلام بر والكفر شر. وأعتقد أنه لابد من غلبة النور على الظلمة، والمعرفة على الجهالة، والعدل على الظلم، والبر على الشر. وما دامت الحال على ما هي عليه فلن أرجع عن الصراع أبداً.
كان خيال رشيد في السجن مشغولاً بزوجته ديلارام، ويخاف على أولاده، فإنهم يتربون في يد أم لا تفهم أفكار زوجها واهتماماته فهماً صحيحاً، وفي ليلة الوصال الأولى حكى رشيد لزوجته عن رجل قال لأولاده إني قد أحسنت إليكم قبل ولادتكم وبعدها، فقالوا: إحسانك إلينا بعد ولادتنا واضح وضوح الشمس، ولكن كيف أحسنت إلينا قبل ولادتنا؟ فقال: قد اخترت لكم أماً صالحة. فلما سمعت ديلارام هذه الحكاية قالت له: وأنا أسعى لكي أكون كما تقول. وكان يعجب رشيد أخلاق ديلارام، وتكلمها، وتبسمها، ومعاملاتها، وكل حركاتها. وكم كان يأخذه الأسف ويتألم عندما يتذكر قولها: «أئمة المساجد وأرباب الدين يقولون إن طريقك غير صحيحة، فهل أنت أعلم منهم في دين الإسلام؟». وانحدرت الدموع على خديه عندما تذكر أولاده، واشتد اضطرابه عندما قرأ مكتوب صديقه في السجن مؤمنجان، وقد كتبه إلى أمه.
وكان مؤمنجان لا يختلط بالإخوان رغم كونه من الدينيين (الذين سجنوا لدينهم) إذا نظرت إليه بدقة وجدت أن في قلبه هماً عظيماً، فأراد رشيد يوماً أن يفرج عن هذا الرجل فقدم إليه وقال:
– لا تضطرب كثيراً يا أخي، فإن الفرج قريب.
– ابتعد عني، فإني نمام، أتكلم بكل شيء بلا استثناء.
– ففهم رشيد معنى كلامه وقال له: سمعت أنك رجل عالم.
– لا أنا لست بعالم، بل طالب علم، لقد حصّلت القليل من العلوم الدينية.
– فعلمنا مما علمك الله، فهذا واجبك.
– نعم، ولكني جبان، لا أستطيع الامتناع عن التكلم عندهم.
– وحتى إذا كان سراً مخفياً بيني وبينك؟
– نعم.
– طيب، وهل ترضى أن نتحاور بالأقوال التي لا تضرني وإن أخبرتَهم عنها.
– أجل.
– لماذا لا تختلط بالإخوان؟
– قد قلت لك إني جبان، وأوقعت الضرر بكثير من المسلمين بلساني، وأخشى أن أكرر هذا الخطأ.
– إذن حاول أن لا تكرره.
– النصيحة سهل قولها ولكن صعب قبولها، فأنا لم أصبر على الأذى، وجبنت فأخبرتهم عن كل ما كان معلوماً لي، ورضيت أن أتعاون معهم في المستقبل.
– لماذا رضيت؟
– لقد قلت لك إني جبان.
– لا أنت لست بجبان.
– …
– إذن لماذا تقول إنك نمام ولا تسكت.
– وإن أسكت فإخواني يفشون أسرارهم عندما يتكلمون أمامي، وأنا أخبرهم فأخسر آخرتي.
– تفكر يا أخي فأنت لا تخشى منهم، بل تخشى من الله، وتخاف على آخرتك، فحالك هذه طارئة، وستحصل على شجاعة يغبطها الجريئون.
– حقق الله قولك.
– اسأل الله أن يحققه، وادعُ الله لي أيضاً.
فأخذ مؤمنجان يبكي كالطفل.
وبعدها أصبحا يتحاوران بين الحين والحين. وفي يوم من الأيام، قال له رشيد:
– لا أحب أئمة المساجد.
– كيف لا، إنهم إخوانك؟
– إخواني؟
– نعم إخوانك.
– فلماذا إذاً يتقولون علينا، ويقولون إن الحزبيين في الضلالة، بل هم الكفار؟ وبقولهم هذا يجعلون آباءنا وأمهاتنا وأزواجنا لا يرضون عنا.
– يبدوا أنهم يجدون أن اجتهادكم غير صحيح، وفي الماضي كان المجتهدون يختلفون في مسألة، فيقول أحدهم إن هذا الشيء مباح، ويقول الآخر في نفس الأمر بأنه حرام، وبالخلاصة فالاختلاف بين المجتهدين أمر طبيعي.
– إذن، هل قولهم بأن الحزبيين كفار طبيعي أيضاً؟
– لا، لا ليس هذا القول بطبيعي، بل هو خطأ، خطأ مميت.
– من كفّر مسلماً فهو كافر، أليس كذلك؟
– الحق معك، ولكنهم يؤمنون بالله ويصلون ويصومون. فمن هذه الجهة الأولى بنا أن نحتسب سعايتهم من الكبائر، وندعو الله أن يهديهم إلى صراطه المستقيم.
أعتذر منك، حتى إنهم لو وجدوا اجتهاد حزب التحرير غير صحيح فعليهم أن يبينوا أفكاره بين المسلمين فقط، فإني لن أرضى عن ندائهم في تلفزيون الكفار، ووسائل إعلام الكفار، ومنابر الكفار، ضدنا، لا سيما عندما يحصّلون الأمان، أو ينتصبون لمنصب معلوم بهذه الوسيلة. فأتقي الله أن أقول بأنهم كفار، ولكني لا أحبهم، قطعاً لا أحبهم لله.
وما أتم رشيد قوله حتى أعلن أنه قد حان موعد النوم، فاضطر أن يرجع إلى مضجعه، فخجل من نفسه لأنه حسب قوله لمؤمنجان خشناً، وقدم إليه صباحاً، فسلم عليه وقال:
– ألم أثقل عليك بقولي بالأمس؟
– لا، لا بالعكس. صدقت، فأنا لم أنم إلى نصف الليل، وفكرت في أقوالك، وانتهيت بأن الحق معك. نعم النداء من منابر الكفار إلى الأفكار التي لابد أن تعرض بين المسلمين فضيحة، ولكن هناك نقطة قد لفتُّ نظرك إليها، وهي أنهم لا يحسبون تلك المنابر منابر الكفار.
– هذا بعيد عن الحق، ألا ترى المنع من الصلاة والصوم والتحجب؟ وهل هناك قرينة للكفر أعظم منها؟ وليس إجازة بعض الأمور الدينية ثمرة البر بل ثمرة الأزمة السياسية وهذا واضح كل الوضوح.
– صدقت، فالكفر خطط للقضاء على المسلمين بيد المسلمين، ولم يألُ جهداً في زرع بذور العداوة بين الجماعات الإسلامية. وبعض التنازلات إن هي إلا جزءاً من هذا المشروع. ولما كان حسن الظن يجري في عروق المسلمين، فإن الكفر يحاول أن ينتفع به بقدر إمكانه، ولكن مكر الله خير من مكرهم، والعاقبة للمؤمنين. فعلينا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا.
لقد أصبح رشيد ومؤمنجان متلازمين متقاربين، بحيث صار يقرأ كل واحد منهما للآخر ما يرده من رسائل. وفي يوم من الأيام أرسلت أم مؤمنجان لابنها رسالةً جاء فيها: «ابني قد أوذي الأنبياء والصالحون طوال التاريخ البشري. فأنت قد اتصلت بهم إن شاء الله».
وأثار رشيداً المعنى في الرسالة. وأخذ يتمنى لو أن أبويه وزوجته يفهمونه كما تفهم أم مؤمنجان ابنها. وفي يوم أعطى مؤمنجان إلى رشيد رسالته التي كتبها لأمه وزوجته، وكان فيها: «أمي، ربَّ أم وابنها يعيشان معاً، ولكن أفكارهما ومفاهيمهما مختلفة. حبيبتي، ربَّ زوجة وزوجها يعيشان معاً، ولكن آمالهما وغايتهما مختلفة. فهم يعيشون في هجر روحي، فإن كان الهجر الروحي جبلاً، فالهجر البدني ذرة من هذا الجبل. فالحمد لله الذي أعطانا سعادة مثل الجبل». فقد رشيد طمأنينته عندما قرأ هذه السطور، ودعا ربه من كل قلبه: ربي، إنك تقول إن دعاء المظلوم مستجاب، فأنا مظلوم، وتقول: إن دعاء المسافر مستجاب، فأنا مسافر، وتقول: إن دعاء طالب العلم مستجاب، فأنا طالب علم، فأعطني سعادة مثل الجبل التي تفيدها الرسالة…
فكأنما الله سبحانه قد استجاب دعاء رشيد من قبل أن يدعوه. فبعد يوم دعوه إلى غرفة الالتقاء، فتوجه نحوها بنصف من الحزن ونصف من الفرح، عندئذٍ قد وقعت حادثة كأنها معجزة، نظر رشيد إلى زوجته فإذا هي متحجبة، أوشك أن يغشى عيه من شدة الفرح، وبدا وكأن الصحراء قد أصبحت مرجاً، والمخربة معمرة، والمرثية مدحية، والقلب الذي يثيره الوصل البدني إثارة يعجز القلم عن وصفها كيف به إذا صادف الوصل الروحي، فإن هذا الوصل البدني شيء تافه لا يذكر أمام الوصل الروحي. وقدمت ديلارام إلى رشيد مثل قدوم مريد إلى سيده وقالت: سامحني فإني قد أخطأت خطأ مميتاً، ووجدت أن الحق معك. فهداني ربي الذي هداك من قبل، والحمد لله .
2005-04-08