نحن والطائفية (1)
2005/04/08م
المقالات
2,346 زيارة
نحن والطائفية (1)
حاول المستعمر بكل قوته أن يحارب أحكام المواطنة في الدولة العثمانية آنذاك وتحويل وتغيير نظام “الملل” الإسلامي في الدولة العثمانية إلى نظام المواطنة الوضعية التي لا تنظر إلى عنصر الدين في تفصيل الواجبات والحقوق في الدولة. الهدف كان مسح ومحق تصنيف الناس حسب التابعية لدار الإسلام؛ لما يترتب على ذلك من أحكام التجارة والجهاد وغيرها من العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات والملل المختلفة.
ولازلنا نرى آثار تلك المحاربة، وإن تغيرت الأساليب. فكان الهدف في السابق إدخال تغيرات في هيكل وأنظمة الخلافة العثمانية باسم الإصلاح والتحديث. أما الآن، و بغياب الدولة التي تمثل المسلمين، أصبح المستهدف الإسلام، وفهمنا لهذا الدين. كل هذا يقع تحت شعار «التجديد الديني» أو «تغيير الخطاب الديني».
تمهيد الطريق لإلغاء نظام الذمة
لقد غذت قوى الاستعمار نزعات الطائفية والقومية في البلاد الإسلامية في آخر عهد الدولة العثمانية، عن طريق دعم دعوة الانفصال عن الدولة العثمانية. وفي نفس الوقت استخدمت أبواق دعاية لها، تدعو إلى تبني الدولة العثمانية ما يسمى بنظام المواطنة على نمط أوروبي، في ما يسمى بالدول الوطنية الحديثة. كانت أول غرسة لضرب الدولة العثمانية من الداخل، واستبدالها بدول لا تنتمي للإسلام، وتأخذ النمط الأوروبي كبديل حتى تبعد الإسلام شيئاً فشيئاً من قلوب الناس، واستبدالها بمشاعر ما يسمى وطنية وقومية. فقد صرح لُوْرَنْس الجاسوس الإنكليزي المعروف بذلك، أثناء تنقله بين معسكرات أبناء الشريف حُسَيْن فقال: «وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا…وفي الحج أتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النـزعة الدينية؟؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني على الاعتقاد الديني؟؟…وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟؟».
ويقول في تقرير بعثه إلى المخابرات البريطانية في كانون الثاني عام 1916م بعنوان سياسات مكة قال فيه: «لو تمكنا من تحريض العرب على انتزاع حقوقهم من تركيا فجأةً وبالعنف؛ لقضينا على خطر الإسلام إلى الأبد، ودفعنا المسلمين إلى إعلان الحرب على أنفسهم، فتمزقهم من داخلهم، وفي عقر دارهم، وسيقوم نتيجة ذلك خليفة للمسلمين في تركيا وآخر في العالم العربي؛ ليخوضا حرباً دينية فيما بينهما، ولن يخيفنا بعد هذا الإسلام…أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية، ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها…وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فسيبقون في دوامة الفوضى السياسية، داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتناحرة غير قابلة للتماسك…».
وقد ذكر المرحوم السلطان عبد الحميد ذلك في مذكراته عن محاولات الاستعمار الأجنبي زعزعة الخلافة العثمانية من الداخل إذ قال: «وهل تستحق الدولة العثمانية هذه الحملات، وقد آوت النصارى الهاربين من جحيم الصراع المذهبي في الغرب خلال القرون الوسطى؟ ألم تكن الدولة العثمانية هي الملجأ الوحيد لليهود الناجين من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا؟ ألم تبذل جمعية الهلال الأحمر العثمانية كل جهد ممكن لإيجاد المأوى والملبس لمن طرِد من وطنه في سبيل معتقده؟ ولكن من يعرف هذه الحقائق التاريخية أو يعترف بها؟ فماذا يقول غلاَدِسْتُون، وهو رجل إنجلترا الأول عن المسألة الشرقية، سوى التعريض بنا بأن بلادنا تحكم بالقوة والبطش بلا قوانين ولا أعراف، ألم يثبت كذب ما ادّعوه من وقوع مذابح للبلغار والأرمن؟ ألم يتبين أن أمر التخريب الذي زعموه في المدن بعد طرد سكانها هو محض افتراء؟ وأن النصارى يعيشون مع المسلمين حياة طبيعية وجنباً إلى جنب؟».
نستطيع أن نقول إن تمهيد الطريق لإلغاء نظام التابعية في بلاد الإسلام، واستبدالها بأنظمة وضعية، بدأت ومهد لها عن طريق الدعوة لنبذ الرابطة الإسلامية، واستبدالها بأفكار أخرى، كحب الوطن، وحب العشيرة والقوم. حتى انتقلت هذه الدعوات من مجرد حركات ورموز، إلى ثورات وقلاقل مدعومة من المستعمر، انتهت ولو بعد حين بدول علمانية تستوحي نظام التابعية على أسس إقليمية وقومية. لقد عرف السلطان عبد الحميد خبث هذه الدعوة والهدف منها إذ يقول في مذكراته: «إن الإنجليز قد أفسدوا عقول المصريين؛ لأن بعض المصريين يعتقد أن سلامة مصر ستأتي من الإنجليز، وأن هذا البعض أصبح يقدم القومية على الدين، ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية. وإنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هزّ عرشي، وأن الفكر القومي قد تقدم تقدماً ملموساً في مصر، والمثقفون المصريون أصبحوا من حيث لا يشعرون ألعوبة في يد الإنجليز. إنهم بذلك يهزّون اقتدار الدولة الإسلامية، ويهزّون معها اعتبار الخلافة».
لقد حصل ما توقعه السلطان عبد الحميد، فسرعان ما ضربت النـزعات القومية الخلافة العثمانية من الداخل، حتى على أنقاضها خرجت دول تتبنى القومية والإقليمية كأساس للمواطنة بدلاً من جعل الشرع الحنيف الأساس الذي تقاس عليه أحكام التابعية.
الطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية
التاريخ يشهد لحسن معاملة المسلمين للطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية، لقد أعطى الإسلام الاستقلال الذاتي للملل المختلفة تحت سلطان الإسلام، فلهم محاكمهم ومعابدهم الخاصة بهم، لا تتدخل سلطة الدولة في أمور دينهم. لعلنا نضرب بعض الأمثلة لذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده عبر العصور:
-
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى نصارى نجران: ينقل ابن سعد في طبقاته نص هذا الكتاب كما يلي «وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلملأسقف بني الحارث ابن كعب، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم، أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين».
-
كتاب خالد بن وليد رضي الله عنهإلى أهل دمشق: عند فتح دمشق كتب خالد بن الوليد إلى أهلها «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلموالخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية».
-
استرجاع خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهكنيسة يوحنا: أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا المعروف من النصارى بالقهر، وضمه للجامع الأموي، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة اشتكى له النصارى من أهل الذمة، فأمر باسترجاع الكنيسة لهم.
-
الدفاع والذود عن أهل الذمة: لما كان عهد الذمة عهد أمان وحماية، وجب على المسلمين الدفاع عنهم وعن أموالهم وأعراضهم والذود عنهم، في هذا الصدد قال النوويّ: «ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم». فوق ذلك يجب فك أسر أهل الذمة إن أسرهم العدو، يقول ابن النجار الحنبلي «يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى». عهد الذمة عهد عظيم، يترتب عليه بذل كل شيء لحماية أهل الذمة؛ لأن عهد الذمة عهد نصرة بكل ما تعني الكلمة، يقول القرافي: «فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم». في هذه المسألة يذكر الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين «من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة».
-
وأيضاً في هذا الصدد قد أورد البَلاَذِرِي أن السامِرَة (فرقة من اليهود) «كانوا عيوناً وأدلاء» للمسلمين، وأن يهود حمص قاموا بحراسة أبواب المدينة، حين خرج منها جيش المسلمين للالتحاق بمعركة اليرموك، «وكذلك فعل أهل المدن، التي صولحت من النصارى واليهود». كما نقل برنارد لويس في كتابه “العرب في التاريخ” أن عرافاً يهودياً كتب عن الحكم الإسلامي فجعل ملاكاً يقول لكاهن «لا تخف يا ابن يهوه، فالخالق تبارك اسمه لم يضع مملكة إسماعيل إلا ليخلصكم من هذا الشر» والمقصود “بهذا الشر” هم الروم البيزنطيين.
كانت الشريعة الإسلامية الأساس في التعامل مع الطوائف المختلفة، ولم يعش العالم الإسلامي تعايشاً سلمياً مستقراً إلا في عهد سلطان الإسلام، فما غابت شمس الإسلام إلا وانفجرت الصراعات والحروب الأهلية. فكيف يحمل الإسلام والشريعة تبعات الصراع الطائفي اليوم؟
من وراء تغذية النعرات الطائفية؟
من كان وراء اصطناع القلاقل في آخر عهد الدولة العثمانية؟ من شجع ودعم ثورة القوميات والطوائف؟ بلا شك شهدت هذه الحقبة الأخيرة صراعات مريرة لم يشهد التاريخ الإسلامي مثلها. فهل العيب في الدولة العثمانية ونظام “الملل” المستمد من الشريعة الإسلامية؟
إنه من الإجحاف وإنكار الحقيقة أن ندعي أن الدولة العثمانية بقوانينها الشرعية أدت إلى إثارة قلاقل طائفية، أو ظلم تجاه الرعية، وخاصة غير المسلمين. إن التاريخ يشهد أن الدولة العثمانية كانت، كما كانت الدول الإسلامية من قبلها، مثال رائع في العدل والإنصاف لرعاياها من غير المسلمين. هذا على عكس أوروبا التي مارست أبشع أنواع الاضطهاد لكافة الطوائف، وحتى ضمن إطار الدين المسيحي نفسه. لعلنا نذكر شهادة «دْجُوفَارَا» من وزراء رومانيا، الذي ألف كتاب عقب الحرب العالمية الأولى باسم “مائة مشروع لتقسيم تركيا” الذي عدد مشاريع الدول الصليبية ضد الخلافة العثمانية عقب ستة قرون. ينقل من هذا الكتاب الأمير شَكِيبْ أَرْسْلاَنْ في كتابه “حاضر العالم الإسلامي” فيذكر عنه: «ثم إن احترام المعاهدات، والعمل بموجب الكلمة المعطاة، كانا من مزايا العثمانيين الذي يدور عليهما التاريخ العثماني كله» ويقول: «العداوة الحقيقية كانت عداوة النصارى للمسلمين، برغم تسامح المسلمين في الدين والحرية الدينية التي كان يتمتع بها المسيحيون في السلطنة العثمانية» وقال: «مدة ستة قرون متتابعة كانت الشعوب المسيحية تهاجم الدولة العثمانية» ثم يعلق الأمير شكيب أرسلان على هذا الكلام من دجوفارا «ثم ذكر في خلاصة كتابه، أن أعظم أسباب انحلال الدولة العثمانية هو مشربها في إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية التامتين للأمم المسيحية التي كانت خاضعة لها؛ لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين كانت تبث دعايتها القومية، وتتماسك وتنهض وتتمالأ وتسير سيراً قاصداً في طريق الانفصال عن السلطنة العثمانية. وسواء كان هذا المؤلف قد أعلن هذه الحقيقة أم لم يعلنها، فإنها الحقيقة التي لا شائبة فيها. ولذلك نجد ملاحدة أنقرة يجعلون من جملة حججهم في نقض الشريعة الإسلامية قولهم: إنه لولا مراعاة هذه الشريعة لكانت السلطنة التركية بقيت على عظمتها الأولى، ولم يطرأ عليها هذه المصائب التي لزمتها مدة قرون، بسبب وجود الثلث من سكانها وربما أكثر من الثلث مسيحيين، وبأن الشريعة كانت تمنع السلاطين من إجبارهم على الدخول في الإسلام أو الجلاء».
يذكر العلامة مُصْطَفَى صَبْرِي قصة عن رضا غير المسلمين بالتحاكم إلى المحاكم الشرعية (مع علمهم بأن هذه المحاكم لا تحكم إلا بالعدل) «وأنا لا أنسى ما وقع في البرلمان العثماني، وكنت يومئذ نائب “تُوْقَاْد” وقد استمر بين الأروام والبلغار العثمانيين نزاع على الكنائس الموجودة في “مقدونيا” التي كانت في ذلك الحين من أجزاء البلاد العثمانية، وكل من الفريقين يدعي الاستحقاق لتلك الكنائس، فساقت الحكومة المسألة إلى مجلس النواب ليفصل بينهما، فصعد آريستيدى باشا الرومي نائب أزمير منبر الخطابة، وهو يعلم أن حزب الاتحاد والترقي المستولي على الوزارة والبرلمان يميل إلى جانب البلغار؛ لكونهم كثرة في مقدونيا بالنسبة إلى الأَرْوَاْمْ، وكون نوابهم من مساعدي الحزب في البرلمان، وهذا على الرغم من أن الكنائس المذكورة من وقف الأَرْوَاْمْ، فقال: “إن لهذه الدولة دار الفتوى، تفصل في المسائل المعروضة عليها بموجب القوانين الشرعية، فأحيلوا الأمر على رأي تلك الدار، ونحن الأروام راضون عما ستصدره من القرار” وكان الباشا الرومي يعلم أن كلمة دار الفتوى لا تكون إلا حقاً، وأن الوزارة لا تقدر على استمالتها إلى خلاف الحق».
فالسؤال لماذا ثارت القوميات المختلفة في الدولة العثمانية، من قام بتسليح القوميات ودعمهم وتحريضهم على الدولة العثمانية؟ المتتبع لنوع الصراع في آخر الدولة العثمانية يجد أن الصراع أخذ طابعاً قومياً، أي لم تأخذ على الأعم الصراعات طابع طائفي. نعم لعب الدين دوراً، ولكن ليس كمحور للقلاقل داخل الدولة، ولكن كعامل قومي، بمعنى لعب الانتماء الديني دوراً في صناعة هوية قومية مستقلة كثورة الصرب، ولكن لم يكن الدين المحرك في إثارة الاضطراب داخل الخلافة العثمانية. في محاضراته عن نشوء النـزاع القومي في القرن التاسع عشر يقول سَاْطِعْ الحُصَرِيْ «بدأت الفكرة القومية -والحركة الاستقلالية- تظهر بين الصرب، التابعين إلى السلطنة، منذ أوائل العقد الثاني من القرن التاسع عشر. وذلك على شكل جهود تبذل في سبيل إنهاض اللغة القومية من جهة، وإحياء التاريخ القومي من جهة أخرى. وقد بذل مفكرو الصرب وزعماؤهم جهوداً كبيرةً جداً -منذ سنة 1817م- للنهوض باللغة الصربية: فإنهم دونوا قواعدها الصرفية، وجمعوا كلماتها في قاموس محيط، وترجموا الكتاب المقدس إليها، وألفوا بها كتبا أدبية وعلمية، وبذلك هيأوا الوسائل اللازمة لجعلها لغة علم وأدب، ولغة تعليم وعبادة. كما أنهم عكفوا على نشر أبحاث تاريخية قومية، تثير في نفوس الناشئة شعور الاعتزاز بمآثر الأجداد. إن هذه الجهود المتنوعة نشرت بين الناس فكرة “القومية الصربية” ودفعتهم إلى القيام بثورات استقلالية. وهذه الثورات ساعدت على تكوين الدولة الصربية».
قريباً من ثورة صربيا ثورة اليونان. اليونان أعلنت ثورتها ثورة قومية، ولم تكن ثورتها بدافع صليبي أو تضامن صليبي مع شعوب أوروبا. لقد لعبت مسيحية اليونان دوراً في تحديد الطابع المميز لقومية الأَرْوَاْمْ، فلم يكن هناك رابط عقدي يربطهم مع الأتراك، على عكس القوميات الأخرى في الخلافة العثمانية كالعرب أو الأكراد. فكان من السهل تأييد ثورتهم، وخلق الأجواء لها من القوى المعادية للدولة العثمانية كروسيا، وفرنسا، وإنكلترا، وغيرهم من الدول المعادية للسلطنة. وقد رفض الأَرْوَاْمْ أي انتداب وسلطة لأي دولة أو قوى عليهم سوى الدولة العثمانية، التي كانت تمثل بالنسبة لهم القومية التركية، أو أي قومية أوروبية أخرى، وإن جمعهم الدين الواحد، فدل هذا بلا شك أن ثورتهم كالثورة الصربية، والبلغارية، والأرمينية… كانت بحافز قومي؛ ولذلك أطلق على القرن التاسع عشر قرن القوميات، أو النـزعة القومية الداعية للاستقلال. إنه لا شك في أن عوامل تحديد هذه القومية كثيرة، ودواعي الثورة كثيرة.
فالسؤال: لماذا انفجرت هذه الفتن في القرن التاسع عشر، عصر ضعف وتراجع الدولة العثمانية؟ لعلي أرجع تلك الثورات لسببين، والله أعلم:
أولاً: إن المدقق في التاريخ العثماني يجد الاستقرار في كافة أرجاء الدولة عند التطبيق الصحيح لنظام الذمة، وتقيدها بالعدل بين الرعية، حسب أحكام الشريعة الإسلامية. عندما ظهر الضعف والفساد في الدولة، بما فيها الابتعاد عن التطبيق الصحيح للشريعة، تراكم الظلم نحو كثير من القوميات التي شكلت الدولة. فمثلا الظلم الحاصل من تصرفات الجيش الانكشاري، وعصيانه لأوامر السلطان، وخروجه عن نطاق الشريعة، بعد ما كان أداةً وجزءاً من الجيش العثماني العظيم صاحب الفتوحات. يقول الأمير شَكِيْب أَرْسْلاَنْ عنهم في تاريخ الدولة العثمانية «…وكانت الدولة تعاني من ثورات الانكشارية ما لا يوصف، وكم من مرة كانت ثوراتهم سبباً في الانهزام أمام الأعداء، وكم استبدوا بالأهالي، وعاثوا في البلاد، فكانت الصدور ملأى من أعمالهم، وكانت الأمة ترجو الخلاص منهم…» لقد كان من ضمن إصلاحات السلطان محمود الثاني إعادة تأهيل وتدريب هذا الجيش، وتجديد تنظيمه وأدائه. فتآمر الانكشارية على السلطان، فتصدى لهم السلطان، ورماهم بالنيران والمدافع، وقضى على ثورتهم. ثم نشر السلطان بياناً قال فيه: «إنه من المعلوم بين المسلمين أن السلطنة العثمانية إنما رقت واستولت على الشرق والغرب بقوة الدين الإسلامي، وأن نظام الانكشارية كان في أول الأمر، يوم كانت الطاعة شعاره، حصناً حصيناً للدولة، وطالما كان النصر معقوداً برايات هذا النظام، ولكن في العصر الأخير، فشا في الانكشارية روح التمرد، وصاروا بلاء على الدولة، وصاروا لا يلقون الأعداء إلا انهزموا، فأجمعت الأمة على إيجاب، التخلص من هذا النظام البالي، وعلى تنظيم جيش جديد يمكننا أن نصادم به أعداء الدين…».
من هنا نرى الترابط بين التطبيق السليم العملي للإسلام، وبين الواقع المستقر الذي عايشته الدولة العثمانية، حتى ضرب المثل بالدولة العثمانية في حماية ورعاية سائر الطوائف المضطهدة في أوروبا. يذكر هذا الترابط السلطان عبد الحميد في خطبة افتتاح مجلس المبعوثين فيقول: «إنني أبث الممنونية بافتتاح المجلس العمومي، الذي اجتمع للمرة الأولى في دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقي شوكة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بواسطة العدالة، حتى إن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية، وقدرتها في أوائل ظهورها، كان من مراعاة العدل في أمر الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف التبعة. وقد عرف الناس أجمع تلك المساعدات التي أبداها أحد أجدادنا العظام، المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذهب، وكافة أسلافنا العظام أيضا قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل بوقت من الأوقات. وغير منكر أن المحافظة منذ ستمائة عام على ألسنة صنوف تبعتنا ومليتهم ومذاهبهم النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل… بينما كانت ثروة الدولة والملة وسعادتها صاعدتين في درجة الرقي في تلك الأعصار والأزمان، بظل حماية العدالة ووقاية القوانين، أخذنا بالانحطاط تدريجياً بسبب اضطراب في فهم الشرع الشريف، والقوانين الموضوعة، فتبدلت تلك القوة إلى ضعف. وقصارى الأمر أن المرحوم والدي الأكبر السلطان محمود خان أزال عدم الانتظام الذي هو العلة الكبرى للانحطاط، والذي طرأ منذ عصور على دولتنا، ورفع من الوجود عائلة الانكشارية المتولدة منه، وقلع شوك الفساد والاحتلال، الذي مزق جسم الدولة والملة، وكان هو السابق لفتح باب إدخال مدنية أوروبا الحاضرة إلى ملكنا».
ثانياً: ولعل هذا السبب هو من أكبر أسباب إثارة النـزعة الاستقلالية عند القوميات في السلطنة، ونقصد بهذا دور الدول الاستعمارية وطمعها في إضعاف الدولة من الداخل، كفرنسا، وروسيا، وإنكلترا. لنأخذ مثالا على ذلك ثورة الأرمن. عاش الأرمن في الدولة العثمانية مكرمين، وقد كانوا مقربين للحكم في الدولة. يذكر الأمير شكيب أرسلان في “تاريخ الدولة العثمانية” «فلهذا كان ادعاؤهم الاستقلال غير وارد، ولا من جهة، وكان بينه وبين إمكانه فعلاً بونٌ شاسع، وهذا ما كان يدركه قدماء الأرمن، فلذلك كانوا قد وطنوا أنفسهم على الارتباط بالدولة العثمانية، التي كانت تعتمد عليهم، وتستخدم كثيراً منهم حتى في المناصب العالية، وفي ظلها نما عددهم، وازدادت ثروتهم، ولما كانوا هم أهل جد ونشاط، وإقدام على الأعمال، كان كثير من مرافق السلطنة في أيديهم، وأينما توجه الإنسان في البلاد العثمانية، كان يجد على الأرمن آثار النعم. وكانت الدولة تثق بهم، وكان الأتراك يخلطونهم بأنفسهم، ويسمون الأرمن الملة الصادقة. واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن بدأ الضعف في السلطنة العثمانية…».
استخدمت الدول الاستعمارية الضعف في السلطنة وسيلة للتدخل بشؤون الدولة، باسم الاستقلال وتقرير المصير للقوميات المختلفة في السلطنة. ففتح الأوروبيون مدارس وملاجئ باسم العمل الخيري في مناطق الأرمن، وقاموا بعمل تبشيري، و خرجت هذه المدارس من الأرمن أناساً يحقدون على الدولة وعلى المسلمين، وزرعت فيهم نزعة قومية استقلالية تماما كما فعلت نفس المدارس التبشيرية مع نصارى العرب. يقول الأمير شَكِيْب أَرْسْلاَنْ «فأهم عوامل الشقاق الذي وقع بين الأرمن وبين سائر الرعية العثمانية كان هو التعليم في مدارس الأوروبيين، فأصبح غير ممكن تساكن الجنسين بعضهم مع بعض…».
فلما زادت أزمة الأرمن، أصبحت الدول الأوروبية تتدخل باسم رفع المظالم عن الأرمن، وفرض ما يسمى إصلاحات على الدولة العثمانية. فلما رفض السلطان عبد الحميد هذا التدخل، قامت الدول الاستعمارية بتهديده، وممارسة المزيد من الضغط، والاستعانة بمجموعة من الشخصيات، ومنهم جماعات من القوميين الأتراك والعرب المقيمين داخل السلطنة وخارجها، في محاولة لتشويش سمعته، ووصفه بالسلطان “الأحمر” المتعطش للدماء، والقابع في استبداد رعيته.
أما النـزعة القومية عند القوميات الأخرى ذات الأغلبية الإسلامية، فكان من الصعب إثارتهم على الدولة العثمانية لما يجمعهم مع الأتراك من دين واحد، أي دين الإسلام. فكانت ولادة النـزعة القومية عند المسلمين خطة مدروسة من قبل الدول الاستعمارية. وقد نشأت فكرة القومية عند الترك، ثم تعاقب الحس القومي عند الشعوب الإسلامية كالعرب، والأرناؤوط، والأكراد.والدعم الخارجي لهذه المجموعات، وانتشار الفكر القومي، كانتا النواة الأولى لتشكيل الدول الوطنية على أنقاض الدولة العثمانية .
[يتبع]
2005-04-08