“الحقـوق المـدنيـة” مسمىً جديد للتشـريعـات الوضـعيـة
2000/08/08م
المقالات
2,149 زيارة
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الحقوق المدنية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان فليس غريباً في هذه الأيام أن نجد تعبير «الحقوق المدنية» يستحوذ على مساحة كبيرة في وسائل الإعلام العالمية والمحلية على حدٍ سواء، حتى لا تكاد نشرة إخبارية أو جريدة يومية تخلو من ذكره أو ذكر أحد مشتقاته، وبات إقحامه في جميع جوانب الحياة أمراً طبيعياً في مجتمعات البلدان الإسلامية ومجتمعات البلدان المتخلفة الأخرى.
وبالرغم من شح الموارد المالية المتوفرة في تلك البلدان إلا أننا نجد الأموال الطائلة تتدفق على المؤسسات المتعددة التي تقوم على رعاية المفاهيم المتعلقة بـِ «الحقوق المدنية» و«حقوق الإنسان».
فعلى مستوى بقعة صغيرة من الأرض كالضفة الغربية مثلاً نجد عشرات الهيئات الحقوقية منتشرة في كل بلدة وكل مدينة فيها، حتى إن وجودها لم يقتصر على الحواضر وحسب ولكنه تعداها إلى القرى والأرياف. ومن هذه المؤسسات: «مؤسسة الضمير» و«هيئة حقوق المواطن» و«جمعية القانون» و«حقوق الإنسان والبيئة» وغيرها من الأسماء المتعددة بالإضافة إلى الهيئات النسائية الكثيرة المنتشرة بشكل واسع.
إن هذا الاهتمام الدولي وهذا الدعم المالي العريض لمثل تلك المؤسسات لم يأت قطعاً من قوى الشعوب الذاتية، كما أنه لم يجيء حتماً من فراغ، لذلك كان لا بد من تسليط الأضواء على عمل هذه المؤسسات من خلال إدراك واقع ما أسموه بـِ «الحقوق المدنية» وإدراك الغاية من نشره بهذه السرعة العجيبة التي أشغلت معظم شرائح المجتمعات به وبالحديث عنه، حتى صُوِّر وكأنه القضية المركزية الأولى للشعوب وللأمم وللدول.
ولإدراك واقع هذه «الحقوق المدنية» ينبغي معرفة المقابل له في نظر الغرب وحضارته، وهذا المقابل عندهم لا يخرج عن اثنين وهما: «الحقوق التشريعية» و«الحقوق العسكرية». ويقصد بتعبير «الحقوق المدنية» عند الغربيين الحقوق الفردية التي تواضع على إرسائها المشرعون لحماية الحريات الفردية باعتبارها حقوقاً مقدسة تسعى الدول للدفاع عنها من خلال سن التشريعات والقوانين التي تضمن حمايتها.
ومعلوم أن القانون المدني المعمول به في جميع الدول القائمة في العالم اليوم يشتمل على ما يعرف الآن بالحقوق المدنية، ولكن لما غدا هذا «القانون المدني» يثير حفيظة المسلمين، ولكونه أصبح البديل ـ المرفوض شعبياً ـ عن الأحكام الشرعية، استعيض عنه بتعبير «الحقوق المدنية» وذلك لإيهام الناس بأن الموضوع ليس موضوع قانون مدني أو قانون إسلامي وإنما هو موضوع حقوق عادلة يتطلبها كل مجتمع بغض النظر عن عقائده ومبادئه، وبذلك توجد القناعة عند الناس بأنه لا تعارض بين «الحقوق المدنية» وبين الشريعة الإسلامية.
فحقيقة تعبير «الحقوق المدنية» إذن لا يخرج عن كونه مسمىً جديداً من مسميات التشريعات الوضعية الغربية، التي يراد جعلها قوانين يتقبلها الناس ويدعون لها كما أن تدعو لها الحكومات والدول كي تنتظم علاقات المجتمع بشكل قانوني بحسب الرؤية الحضارية الغربية وبحسب قيمها وأنماط عيشها. والدليل على صحة ذلك ما يجري على أرض الواقع من أمور تتصل بهذا «التعبير» وبمفاهيمه في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية.
ففي إيران مثلاً نجد أن حُمّى الترويج لفكرة «الحقوق المدنية» و«المجتمع المدني» قد سيطرت على الانتخابات التي جرت مؤخراً في إيران، كما وجدنا أن برنامج خاتمي الذي جاء به إلى السلطة متخم بعبارات المجتمع المدني والحقوق المدنية حتى إنه لا يتضمن غير هذا الكلام، واستطاع خاتمي ومن وراء خاتمي بهذه الأفكار أن يحول المجتمع بشكل تدريجي ومنظم إلى مجتمع علماني، وسدَّد بذلك ضربة موجعة للداعين إلى تحكيم الشريعة في المجتمع الإيراني، لذلك كان واضحاً أن فكرة «الحقوق المدنية» وفكرة «المجتمع المدني» يراد منها أن تحل محل فكرة «الحقوق الشرعية» وفكرة «المجتمع الإسلامي».
وفي السودان نجد أن تعبير «المجتمع المدني» و«الحقوق المدنية» قد طغى على فكرة الإصلاحات الدستورية المغلفة بالإسلام التي بدأها البشير مستعيناً بالترابي، وقد ركزت هذه الإصلاحات على الترويج لفكرة سيادة القانون وشرعية الدستور وخدمة المجتمع المدني، وكان ذلك كله على حساب تطبيق الأحكام الشرعية حتى وصل الحال بالسودان بسبب هذه الإصلاحات المدنية إلى قبوله لفكرة التعددية والفدرالية وأخيراً قبوله بفكرة فصل الدين عن الحياة.
وهكذا نجد في كل الدول التي تطبق القوانين الوضعية بشكل دكتاتوري أو عسكري، وجود اتجاهات فكرية قوية تطالب بتحويل المجتمعات المحكومة بالقوانين الوضعية عن طريق الأحكام العرفية إلى مجتمعات محكومة بالقوانين الوضعية المغلفة بفكرة «الحقوق المدنية»، وواضح أن هذه الاتجاهات الفكرية المنادية بفكرة «الحقوق المدنية» والمجتمع المدني مدعومة من قبل الدول الغربية الكبرى التي تخشى على الدول الدكتاتورية من السقوط بأيدي من يصفونهم بـِ (الإسلاميين) على حد زعمهم.
فالاتجاه السائد الآن عندهم هو تحويل المجتمعات المحكومة بقوة العسكر إلى مجتمعات محكومة بالمؤسسات وبالقوانين المدنية لكي تصبح المجتمعات «مدنية» على حد وصفهم، وما حصل في إندونيسيا من إسقاط أميركا لعميلها سوهارتو وتعزيز فكرة «الحقوق المدنية» و«المجتمع المدني» ليس إلا مثالاً على ذلك الاتجاه، وفي نيجيريا كذلك تسعى أميركا لتركيز هذه الفكرة، في كثير من البلدان الأخرى نجد أن تغلغل فكرة «الحقوق المدنية» و«المجتمع المدني» في المجتمعات قد قطعت شوطاً بعيداً.
وإذا كان هناك شيء من المقاومة أمام انتشار هذه الأفكار لدى الأنظمة الدكتاتورية فإن انتشار فكرة «حقوق المرأة» لا تجد أية مقاومة من قبل تلك الأنظمة، حتى إن هذه الأنظمة تقوم بنفسها برعاية المؤتمرات والمؤسسات التي تدعو إلى ما يسمى بـِ «تحرير المرأة» و«منح المرأة كامل حقوقها» و«مساواتها بالرجل» كما يزعمون. ففي 12/03/2000 مثلاً رعت الحكومة المغربية مظاهرة نسائية في الدار البيضاء تطالب بإعطاء المرأة حقوقها، ورعت أيضاً مظاهرة أخرى لعموم الناس تطالب بمنح المرأة المزيد من الحقوق في الرباط، إلا أن النساء المغربيات المحجبات خرجن بعشرة أضعاف النساء المطالبات بتحرير المرأة في الرباط وخرج مئات الآلاف من الجماهير في الدار البيضاء إلى الشوارع وتظاهروا ضد ما يسمى بحقوق المرأة، وطالبوا بالتمسك والتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، الأمر الذي أقلق الغرب كثيراً وعبر عن هذا القلق وزير خارجية فرنسا فيدرين قائلاً: “إن الاعتراض بقوة على الإصلاح أمر مثير للقلق”.
وأما في مصر فقد أشغلت الحكومة المجتمع المصري بقانون الخلع، ليس من باب تطبيق الأحكام الشرعية التي تنظم علاقة الرجل بالمرأة، بل في أجواء تحرير المرأة ورفع ظلم الرجل عنها وذلك انسجاماً مع ما سبق هذا القانون من قوانين أدخلتها مصر في المحاكم والتي تنتج القلق والاضطراب في حياة الأزواج بدلاً من الطمأنينة والسكينة التي توفرها الأحكام الشرعية.
وفي تركيا فرضت الحكومة مؤخراً على الناس قانوناً يقضي بمساواة المرأة بالرجل في الإرث وفي الملكية للأزواج.
ومن جهة أخرى تستمر الحكومات والقوى العلمانية في استغلال فكرة العنف الموجه ضد المرأة فتعقد لها المؤتمرات وتسير المسيرات.
ففي الأردن، خرج أمراء النظام الهاشمي على رأس المظاهرات المنادية بإسقاط قانون الشرف. وتنادي هذه التجمعات المدعومة من الحكومات بتخليص المرأة من قيودها، وقد عقد في هذا العام وحده عشرات المؤتمرات والمسيرات في مصر والجزائر والمغرب وتركيا وغيرها كمؤتمر المرأة للبحر المتوسط، ومؤتمر المجلس القومي للمرأة وغيرها، مطالبة بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل على حد زعمهم.
وواضح من ذلك كله أن الحديث عن حقوق المرأة مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بالحديث عن الحقوق المدنية، وهذا يدل على مدى حبك المؤامرة من عدة جوانب.
وهكذا يتضح لنا من خلال التطبيقات العملية لمفهوم «الحقوق المدنية» ورديفه مفهوم «حقوق المرأة» أن هذه المفاهيم لا تزيد شيئاً عن المفاهيم التي تضمنتها الحريات الأربع التي انبثقت عن فصل الدين عن الحياة وهي حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية التملك والحرية الشخصية، أي أن الدعوة إلى «الحقوق المدنية» و«حقوق المرأة» و«حقوق الإنسان» تعني الدعوة إلى أفكار الغرب ومفاهيمه ولكن بثوب جديد، وعادةً ما تبدأ الدعوة للحضارة الغربية بفكرة الحريات الفردية والانسلاخ من التقيد بالضوابط الشرعية أو أية ضوابط أخرى.
ومن هنا كانت الدعوة إلى هذه المفاهيم دعوة صريحة إلى العلمانية اللادينية المغلفة بشعار «الحقوق المدنية» كنوع من أنواع التدليس على الناس وكذر للرماد في العيون، والغرض منها إظهار عدم تصادم تلك الحقوق مع الأحكام الشرعية أمام الناس، وما يؤكد ذلك أن تعبير الحقوق المدنية عندهم لا يتطرق إلى تفاصيل العلاقات بين الناس في شتى معاملاتهم ويقتصر فقط على طرح فكرة الحريات بشكل عام، لذلك كان الخداع فيه أكثر من الخداع الموجود في لفظ الديمقراطية.
هذا بالنسبة لواقع «الحقوق المدنية» وإثبات أن هذه الحقوق لا تعدو عن كونها مسمىً جديداً للتشريعات الوضعية التي يسعى الكافر المستعمر لفرضه على مجتمعات المسلمين.
أما بالنسبة لإدراك الغاية السياسية من نشر هذا التعبير وملحقاته فلا شك بأن الهيمنة الأميركية على العالم بعد زوال المنظومة الاشتراكية قد وجدت في هذا التعبير وسيلة سهلة ومريحة لمد نفوذها إلى كل البلدان التي تود السيطرة عليها، لدرجة أنها تتذرع به للتدخل في أخص شؤون الدول وأكثرها حساسية، فلقد أصبحت مسألة الحقوق هذه عقيدة أميركية تقض مضاجع كل البلدان لا فرق بين دولة صغيرة أو كبيرة، فالصين على سبيل المثال مستاءة جداً من تلك المسألة، وقد عبرت حديثاً عن استيائها هذا صحيفة صينية ناطقة باسم الجيش الصيني في تصريح لها نقلته جريدة القدس في 23/03/2000 يقول: “إن العالم لن يعرف السلام بعد اليوم إذا ما قبلت باقي الدول هذه العقيدة الأميركية التي تقوم على أساس (تفوق حقوق الإنسان على السيادة) و(الديمقراطية بلا حدود) أو (السيادة المحدودة)”.
فأميركا إذن ترمي من وراء ذلك كله إلى المس بسيادة الدول، وخدش استقلالها، والتدخل في شؤونها الخارجية والداخلية توطئة لبسط هيمنتها عليها ومد نفوذها إليها، لذلك كانت الغاية من تعميم هذا التعبير محض استعمارية، وإذا أدركنا هذه الغاية الشريرة، وهذا الهدف الخبيث، كان لزاماً علينا أن نقف بصلابة أمام تمريره علينا بمدلوله الغربي لفضحه وفضح مراميه.
ولن يتأتى لنا ذلك إلاّ من خلال الاستمرار في عملية الصراع الفكري المتواصل مع أفكار الكفر وبالذات أفكار الحضارة الغربية ونماذجها الأميركية على وجه الخصوص، لأنه من خلال الصراع الفكري فقط يمكن هدم هذه الصورة المخادعة وغيرها من الصور المماثلة الأخرى، وبناء الفكر الإسلامي الصحيح في نفوس المسلمين، ولن يكتمل هذا البناء إلاّ بتتويجه بالعمل بكل الطاقات وبكل الإمكانات المتاحة من أجل استئناف الحياة الإسلامية الكاملة وإقامة دولة الخلافة الراشدة، التي بقيامها فقط يمكن مواجهة عولمة أميركا والغرب ويمكن وضع حدٍ لغطرستها وتعاليها من خلال تطبيق الأحكام الشرعية على الناس تطبيقاً انقلابياً شاملاً كاملاً، ومن خلال حمل الدعوة الإسلامية بالجهاد رسالة إلى كل الشعوب في الأرض لإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان والأفكار إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وماديتها إلى سعتها والآخرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
2000-08-08